مسجد العسكر
سعيد بدر
وينطلق الشاب ليحضر المفتاح، ويكسر أسر المسجد ويزيل قفله، وأدخل من بوابة السور إلى مدخل المسجد، وأصعد السلم أمامه لأدخل من بابه فإذا إيوان فسيح تعلوه قبه شاهقة وقبلة رخامية متلألأة بجانبها مدخل درج لمنبر يتيمنها وسجاد آية في النظافة وعطر يفوح في كل مكان، إلا أن قلبي لم يسكن فيه ولم يدخلني الخشوع الذي أشعر به عند كل مسجد.
- التصنيفات: الواقع المعاصر -
صحراء مصر مترامية أطرافها، صفراء رمالها، زرقاء سماؤها، شديدة شمسها، تحتاج خبراء بدروبها للسير بها تحت قسوة مناخها. أنبتت هؤلاء الأبطال المعدودين، أنبتت جيشاً لشعب ينام ملئ العين قرير القلب مضطجع أمين.
مررت بهذه الصحراء لسفر طويل، وقبل ميل الشمس لغروب أخير أذن العصر، وتأكدت من الآذان بنظرة إلى صفحة ساعة معصمي اليمين، وشاء القدر أن ألحق العمار قبل غروب الشمس، وبعد انتهاء الصلاة بنصف ساعة تقل ولا تزيد .. مدينة في أطراف القاهرة بصحرائها التي آنستها في سفري ونزلت أسير بها على قدمي أبحث عن أقرب مسجد به أصلي.
المباني أمامي كلها بطراز واحد، وإن اختلفت اتجاهاتها. مرسوم شوارعها واحد، وإن ضاق أو اتسع عرضها وطولها. الناس تروح وتعود، والحركة بها دؤوب على اختلاف المآدب والمقاصد بها. نظرت أنشد مبحثي عن مسجد أريح نفسي بأداء فريضة أسأل يوم المحشر إذا تركتها أرفع رأسي لعل عيني تلمح مأذنة وأفتش في مداخل المباني وطوابقها الأرضية لعلي أجد علامة مسجد أو زاويه بها، وعندما احتار أمري وعجز بصري إلا عن حارس لمحته، دليلاً خبيراً بأوصافها اقتربت منه وسألته عن الوصول لهدفي ومبتغاي التي أنشدتها، وأتحرك إليه كملهوف يتعلق بطوف نجاة في تلاطم أمواج يعصف بسفينة وربانها.
الكاتب: السلام عليكم.
الحارس: وعليكم السلام.
الكاتب: أين أقرب مسجد هنا؟!
الحارس: مسجد القوات المسلحة – مشيراً بيده – آخر الشارع يمين مع أول شمال.
الكاتب: شكراً لك كثيراً.
الحارس: العفو – مشيراً بيده مرة أخرى خلف هذه السياره ياشيخ.
وأنطلق إلى وصفه مهرولاً، على أمل أن أجد أحداً في المسجد يصطف في صلاة مسبوق فألحق به، ومن بعيد ألمح مأذنة طويلة رائعة جميلة. أقترب منها ومن بعيد يسر قلبي مسجد كبير فسيح على بقعة أرضية مترامية مسور بسور مبانيه بإخراج وتشطيب رائع يتخلل السور بوابات حديدية أمام المسجد وأبوابه.
أهنئ نفسي باقتراب الوصول لوضوء يزيل غبار السفر، وصلاة تريح القلب، وترفع الحذر، وتبشر بيسر القدر، وعين تسعد بعيش الحضر، وأقترب من سور المسجد فينطفئ الأمل، وتزول الراحة، ويسكن التعب ووسط هذا الظلام الذي يخيم على نفسي، والشمس في سمائها، والخوف الذي يسيطر على قلبي وجسدي بين أفراد الأمن والجيش معاً.
وأفكار شتى تجمع نفسي لمرأى عيني، فجميع بوابات المسجد الحديدية بسوره الخارجي مغلقة بسلاسل، ومدلى بكل سلسلة قفل كبير يمنع أي عقل من مجرد التفكير من الاقتراب أو الدخول، وكأنه سلاح موجه إلى القلوب من رأى العيون، وأقف محتاراً تنازعني نفسي ويراودني فكري للاحتيال اعتراضاً على غلقه!! أأعود أدراجي وأكمل سيري تاركاً الصلاة لربي!! ومجموعة أفكار بعضها مجنون تدور في عقلي.
وفجأة ومن بعيد يظهر قاطع فكري من قلب المسجد وعبر بابه يخرج شاب ليعيد الأمل مرة أخرى ويوقف أفكار عقلي أناديه ..
الكاتب: السلام عليكم لو سمحت !
الشاب – مقترباً إلى أن وقف أمام الباب -: وعليكم السلام ماذا تريد ؟!
الكاتب : أريد الدخول لأصلي.
الشاب : غير مسموح الأن لقد أتيت متأخراً.
الكاتب : كيف ؟
الشاب : نفتح الباب قبل الأذان بنصف ساعة، ونغلقه بعد الصلاة بنصف ساعة.
الكاتب : ولكني كنت في سفر طويل، وهذا أول مكان أصل إليه لأصلي.
الشاب : أعرف هذا، فالكثير يأتونني ويبررون تأخيرهم، ولكني لا أستطيع مخالفة الأوامر، لأن العميد إذا مر في غير أوقات الصلاة ووجد أحداً بالمسجد سيعاقبني.
الكاتب : أأنت مجند ؟!
الشاب : نعم هذا محل خدمتي أؤدي فيه تجنيدي.
الكاتب : أنا خطيب في الأوقاف ومعي تصريح الخطابة.
الشاب - مقاطعاً - : ياشيخ هذا مسجد للقوات المسلحة وليس مسجداً للأوقاف.
الكاتب : ولكنها كلها بيوت الله بنيت لعبادته.
الشاب : لا تؤلمني باللوم لأني لا أستطيع مخالفة الأوامر.
الكاتب : ماذا أفعل الآن ؟!
ويدخل علينا أحد أفراد الأمن بزيه المعروف يستشف المشكلة.
فرد الأمن - متوجهاً إلينا -: يا شيخ لا ترهقه فهو لا يستطيع مخالفة الأوامر.
الكاتب : ماذا أفعل ؟!
فرد الأمن - مشيراً إلى نهاية الطريق - : في آخر الشارع وبعد الدوران لليمين ستجد مسجداً صغيراً للأهالي تستطيع الصلاة فيه وسامحنا فالمشوار طويل.
الكاتب : إذا كان هذا هو الحل الوحيد فلا بأس به إذاً.
فرد الأمن – متوجهاً إلى الشاب المجند - : ألا تستطيع إدخاله للصلاة بالمسجد ولن يستغرق وقتاً طويلاً.
الشاب : إن العميد لم يأت إلى الآن وكل ما أخشاه أن يحضر والشيخ بالمسجد.
الكاتب – ضاحكاً - : قل له إنه يصلي منذ أن دخل ساعة الآذان.
وترتسم على وجه الشاب ملامح الفدائي المقبل على عملية فدائية فيحمر وجهه وتجحظ عيناه وينطلق لسانه.
الشاب : إذا دخلت يا شيخ فلا تطل حتى لا تؤذني.
الكاتب : لن أطيل، لن أطيل أصلي وأخرج على الفور.
الشاب : ولا تطل في صلاتك لأني مازلت أنتظر وصول العميد.
الكاتب : إن شاء الله.
الشاب : انتظر سيأتي بالمفتاح حالاً.
وينطلق الشاب ليحضر المفتاح، ويكسر أسر المسجد ويزيل قفله، وأدخل من بوابة السور إلى مدخل المسجد، وأصعد السلم أمامه لأدخل من بابه فإذا إيوان فسيح تعلوه قبه شاهقة وقبلة رخامية متلألأة بجانبها مدخل درج لمنبر يتيمنها وسجاد آية في النظافة وعطر يفوح في كل مكان، إلا أن قلبي لم يسكن فيه ولم يدخلني الخشوع الذي أشعر به عند كل مسجد.
فأطير أتسارع الخطى للوضوء والصلاة، والشاب يعيد الأمر إلى سابق حاله، فالقفل مكانه مدلى من السلسة رغم وجودي داخل المسجد.
وبعد الانتهاء من صلاتي أبحث عن الشاب فإذا بحجرة مكتوب عليها "حجرة خاصة بالفرد المجند ممنوع الدخول".
يأتي الشاب فنخرج من باب المسجد مسرعي الخطى إلى البوابة الحديدية ذات السلسلة والقفل ويتلفت الشاب فلا يجد مخوفه فيخرجني من البوابة ولسانه يقول : مع السلامة وعيناه تنطق بأسف مرير على حاله.
وخلجات نفسي تحدثني بمسجد رسول الله – صلى الله عليه وسلم – ووصف كاتب له يقارن بينه وبين مساجدنا الآن وكيف كان مبناه اللبن وأعمدته من جذوع نخل وسقفه من سعف وفرشه حصباء. تمطر السماء فتلبخه وتتسلل إليه بعض الكلاب ليلاً فتدخله، إلا أنه يخرج رجالاً يشهد لهم الكل الواحد منهم أمة من حالنا الآن رغم ما عليه مساجدنا من عمارة وزينة. فرجالنا ينصرفون عن بناء أنفسهم إلى بناء الحوائط والجدران.
وعقلي يذكرني بحديث مع أحد قيادات الجيش بعد خروجه من الخدمة أثق في صدقه ونزاهته – وكيف كان أبوه – رحمه الله – أيضاً رتبة كبيرة بالجيش وكان نزيهاً شريفاً وفي ملفه بعد خروجه يجدون مميزاته وعيوبه - من وجهة نظر قياداته والناقلين لحركته- فيعدد الملف مزاياه وعيبه الوحيد أنه كان دائم التردد على المسجد، تتناقل خطواتي المثقلة بجراحات نفسي وهموم قلبي وسؤال عقلي : هل مآذن مساجدنا يوماً ستصل لقمم مساجد ما بنيت مآذنها.