علاة الهمم وبناء الأمم (1)

منذ 2015-03-12

ففي قرن وبعض قرن، وثب المسلمون وثبةً ملأوا بها الأرض قوة وبأساً، وحكمةً وعلماً، ونوراً وهداية، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات أفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشريعتهم ولغتهم، وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتتقلب بها الألسنة، وتحقق فيهم النموذج الفريد، والمثل الأعلى للبشرية، وأنهم خير أمة أخرجت للناس بعد أن كانوا طرائق قدداً، لا نظام ولا قوام ولا علم ولا شريعة.

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد: ففي قرن وبعض قرن، وثب المسلمون وثبةً ملأوا بها الأرض قوة وبأساً، وحكمةً وعلماً، ونوراً وهداية، وهاضوا الممالك، وركزوا ألويتهم في قلب آسيا، وهامات أفريقيا، وأطراف أوروبا، وتركوا دينهم وشريعتهم ولغتهم، وعلمهم وأدبهم تدين لها القلوب، وتتقلب بها الألسنة، وتحقق فيهم النموذج الفريد، والمثل الأعلى للبشرية، وأنهم خير أمة أخرجت للناس بعد أن كانوا طرائق قدداً، لا نظام ولا قوام ولا علم ولا شريعة. 

فما سبب ذلك؟

لا شك أن هناك جملة من الأسباب ولعل واحدا من أهم هذه الأسباب الهمة العالية التي تجعل العبد بقدميه على الأرض وروحه وقلبه معلقا بالله تعالى وجنة عرضها السموات والأرض.

إن الهمة العالية هي سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب الخير، وهي من وسائل خلاص المسلمين مما هم فيه اليوم. لا سيما الهمة في باب العلم والجهاد، اللذين هما سبب ارتفاع الدرجات، فمن تحلى بها لان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معاني الإيمان، إذ أن همم الرجال تزيل الجبال .

همم الأحرار تحيي الرمما      نفخة الأبرار تحيي الأمما

إن أصحاب الهمة العالية فحسب هم الذين يقومون على البذل في سبيل المقصد الأعلى، وهم الذين يبدلون أفكار العالم، ويغيرون مجرى الحياة بجهادهم وتضحياتهم. لا المولعين "بإحراز الترقيات الدنيوية، ويجاهدون في سبيليها ليل نهار، ولا يقبلون في السوق إلا على من يساومهم بأثمان مرتفعة، وما بلغوا من تعلقهم بالدعوة إلى الاستعداد للتضحية في سبيلها بمنافعهم، بل ولا بمجرد إمكانيات منافعهم، فإذا كنتم ترجون معتمدين على هذه العاطفة الباردة للتضحية أن تتغلبوا في الحرب على أولئك المفسدين في الأرض الذين يضحون بالملايين من الجنيهات كل يوم في سبيل غايتهم الباطلة، فما ذلك إلا حماقة.

إن أصحاب الهمم العالية هم القلة التي تنقذ المواقف، وهم الصفوة التي تباشر مهمة الانتشال السريع من وحل الوهن، ووهدة الإحباط.

لا تنظرن إلى العباس من صغر      في السن وانظر إلى المجد الذي شادا

إن النجوم نجوم الأفق أصغرها      في العين أذهبها في الجو إصعادا

ولقد تواردت نصوص القرآن الكريم والسنة الشريفة على حث المؤمنين على ارتياد معالي الأمور والتسابق في الخيرات، وتحذيرهم من سقوط الهمة، وتنوعت أساليب القرآن الكريم في ذلك: 

فمنها:

ذم ساقطي الهمة، وتصويرهم في أبشع صورة:

كما قص الله علينا من قول موسى عليه السلام لقومه:{أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ}. وقال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}.

وذم الله تعالى المنافقين المتخلفين عن الجهاد لسقوط همتهم وقناعتهم بالدون، فقال تعالى في شأنهم:{رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ}. وبيَّن سبحانه أنهم لسقوط همتهم قعدوا عن الجهاد فقال:{وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ}. وشنع عز وجل على الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، ويجعلونها أكبر هممهم، وغاية علمهم، باعتبار هذا الإيثار من أسوأ مظاهر خسة الهمة وبين أن هذا الركون إلى الدنيا تسفل ونزول يترفع عنه المؤمن:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}.

ثناؤه على أصحاب الهمم العالية

وأثنى الله تعالى على أصحاب الهمم العالية، وفي طليعتهم الأنبياء والمرسلون عليهم الصلاة والسلام وفي مقدمتهم أولو العزم من الرسل، وعلى رأسهم خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم:{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ } وقد تجلت همتهم العالية في مثابرتهم وجهادهم ودعوتهم إلى الله عز وجل، كما ذكره الله عز وجل في قصص الأنبياء لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ولقد ذكر الله تعالى أوليائه الذين كبرت همتهم بوصف الرجال في مواطن البأس والجلد والعزيمة والثبات على الطاعة والقوة في دين الله فقال عز وجل : {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}. وقال سبحانه :{فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} ، وقال تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

ولقد أمر الله تعالى المؤمنين بالهمة العالية والتنافس في الخيرات فقال عز وجل: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاء وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } وقال تعالى:{وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}. وقال: {فَاسْتَبِقُواْ الْخَيْرَاتِ}. وقال: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}. وقال تعالى:{لاَّ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا}.

ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من العجز والكسل، وقال لأصحابه: "إن الله تعالى يحب معالي الأمور، ويكره سفسافها".

وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن أكمل حالات المؤمن ألا يكون له هم إلا الاستعداد للآخرة ، فقال صلى الله عليه وسلم: "من كانت الآخرة همه، جعل الله غناه في قلبه، وجمع له شمله، وأتته الدنيا وهي راغمة، ومن كانت الدنيا همه، جعل الله فقره بين عينيه، وفرق عليه شمله، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له".

وعامة نصوص الترغيب والترهيب في الوحيين الشريفين إنما ترمي إلى توليد قوة دافعة تحرك قلب المؤمن، وتوجهه إلى إقامة الطاعات، وتجنب المعاصي والمخالفات، وإلى بعث الهمة وتحريكها، واستحثاثها للتنافس في الخيرات.
قال صلى الله عليه وسلم : "إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجر أنهار الجنة".

ونكمل حديثنا عن هذه الصفة الكريمة والخلق النبيل في مقال قادم بإن الله ، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد والحمد لله رب العالمين.

الشبكة الإسلامية

موقع الشبكة الإسلامية

  • 4
  • 0
  • 3,622

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً