المجد والرفعة

منذ 2015-03-15

إن الصعود إلى القمة يتوقَّف على اختيارِ كلِّ عزيزٍ ممَّا تلتذُّ العينُ برؤيتِه، وما يأخذ باللبِّ والعقل الرشيد كل مأخَذ، ويحثُّ الهمة على اختيار يواقيتِ الدُّرَر من نثرٍ فصيح، وشعرٍ جزلٍ سلس، وما فيه اسْتِجمامُ القلب وراحة النفس، من نظمِ بيانٍ مرصوصٍ بإتقانٍ وحِذق كأنَّه عِقْدٌ من الُّلؤلؤ يتوهَّج على الصدر، ونبوغُ فِكرٍ وأدبٍ رفيع يريحُ الخاطِر والقلب، وقطْفُ الزَّهر من منطوقٍ ومفهوم وجوامِعِ الكلِم

إن الصُّعودَ إلى القمة يمرُّ بأطوار من التمرُّس على القراءة، وصَقْلِ شخصية القارئ وشحْذِ همَّتِه، وبذْلِ أنفَسِ الأوقاتِ من ساعات العمر في المطالعة، باستخدام ملكات العقل والجدِّ والاجتهاد في تحصيل العلم، والتفكير والتأمل لسبْر أغوار الكلمات وكشف دفائن النفس وخباياها..

وإن الصعود إلى القمة يتوقَّف على اختيارِ كلِّ عزيزٍ ممَّا تلتذُّ العينُ برؤيتِه، وما يأخذ باللبِّ والعقل الرشيد كل مأخَذ، ويحثُّ الهمة على اختيار يواقيتِ الدُّرَر من نثرٍ فصيح، وشعرٍ جزلٍ سلس، وما فيه اسْتِجمامُ القلب وراحة النفس، من نظمِ بيانٍ مرصوصٍ بإتقانٍ وحِذق كأنَّه عِقْدٌ من الُّلؤلؤ يتوهَّج على الصدر، ونبوغُ فِكرٍ وأدبٍ رفيع يريحُ الخاطِر والقلب، وقطْفُ الزَّهر من منطوقٍ ومفهوم وجوامِعِ الكلِم، أما النزول عن القمة فهو أمرٌ عسير على من ألِف الصُّعود إلى القمم، وتمرَّس على القراءة فصار لها جسدًا وهي روحُه التي لا تفارِقًه، وأدرك الفرق بين القشر واللُّب، والخيال والصورة، والذهب وبريق الذهب، وما بين النقيضين من قرب وبعد..

لأننا كلما ارتفعنا بثقافتنا ومداركنا واختياراتنا تصبح لدينا مناعة وحصانة ضد الجهل، ويصبح لوجودنا كيان مستقل ولحياتنا رسالة عظيمة، فلا نملك بعدها أن نتخلَّى عن مكتسباتنا وما حصدناه من ثمار وادَّخرناه خلال مراحل التحصيل لبلوغِ مهد المجد والعز، فمن بلغَ العُلا ومراتب الرِّفعة يأبى أن يعيش بعدها عيشة الصَّغار والنُّزولَ إلى القاع، وما أعمق أبيات الشاعر أبي القاسم الشابي حين قال في قصيدته لحن الحياة:
 

إذا مـــا طمحــتُ إلــى غايــةٍ *** ركــبتُ المُنــى، ونسِـيت الحـذرْ
ولــم أتجــنَّب وعــورَ الشِّـعاب *** ولا كُبَّـــةَ اللّهَـــب المســـتعرْ
ومن يتهيب صعود الجبال *** يعش أبَــدَ الدهــر بيــن الحــفرْ


فما يراه من هم في قمة النبوغ الفكري والثقافي هو شيء فريد ومختلف كلَّ الاختلاف عمَّا يراه من هم دونهم، ممن اعتادوا على أن لا يتجاوز نظرهم الحسير موطِئ أقدامهم، فلا غرابة إذًا في أن تجد -من لم يأْلَف مغالبة الصِّعاب، ومناطحةَ السَّحاب، ونيلَ المطالب بشَدِّ الرِّحال- كثيرَ النقد، سليط اللسان، أهوج الفكر، لا يرحم صغيرًا ولا كبيرًا، ولا شيخًا مبجَّلا، ولا عزيزًا ولا شريف الأصل، ولا عالمًا، ولا فقيهًا، ولا نبيلاً، ولا من بلغ شأوًا عظيمًا من العلم، ولا غرابة أن تجده في كل مناسبة يتصيَّد الزلات والأخطاء بمصفاة، سريع الغضب إلى حد الجموح والثورة المجنونة، بذيء اللسان لا شيء يردَعُه عن السبِّ والشَّتم فتُخْشى بوادِرُه، هو أشبه بالفرن والتَّنور لا يخرجان الخبز رافِخًا إلا إذا حميا، فمن أشدِّ الخصال وقاحةً من يرى حسنات غيره مساوئًا ونقائِصًا، فيُغالي في التعسُّف والجور في إصدار الأحكام، وتجاوُز حدود الأدب..

وهذا شأن من صادف قلبًا أجوفًا وخلاءً في العقل، فأمْعنَ في الصَّد عن اسْتعمالِ مدارك الفهم، لجهلٍ وفسادٍ في الرأيِ والطَّبع وعبثٍ لا يرْدَعُ عن الغي، وهذا شأن من يحمله الغرور إلى النَّظر لنفسه بعين الرضا، ولمن هو أعلم منه بعين السخط، فيأخذه الكبرياء فيبلغ مبلغَ التَّعجْرُف والطُّغيان، "فهبي يا رياح الخريف هبي، هبي واقلعي ذلك النبات الدنيء الذي يتطفل على أشجار الوادي فيتغذى على أصولها، ويتسلق على فروعها، حتى إذا أدرك الهواء والضياء والرفعة، التف بعساليجه وكلاليبه على أعاليها التفاف الأفعوان، فيكظم أنفاسها فلا تنسم، ويشل حركتها فلا تميس، ثم يقول مشيراً بأطرافه الرخوة إلى كل عابر، انظر ألست أنا الأمير وهذا الشجر هو الفلاح؟

وإذا لم يسخر الله لي الشجر فكيف أنمو؟ وإذا لم يسخر الفلاح للأمير فكيف يسمو؟ هبي يا رياح الخريف هبي، هبي واقشعي هذا السحاب المتراكم الذي ارتفع ارتفاع الدخان وانتفش انتفاش العهن فحجب الشمس، وحصر الأفق، وأحر الأرض، ثم لا نجد من ورائه مطراً يدفع الجدب، ولا ظلاً يمنع الحرور" (من مقال يا رياح الخريف هبي/ وحي الرسالة للأديب أحمد حسن الزيات).

شرح الكلمات:
عساليجه: العُسْلُج: الغصن النَّاعِم، ابن سيده: العُسْلُج والعُسْلُوج والعِسْلاج: الغصن لِسَنَتِه.
كلاليبه: كلاليب البازي: مَخالِـبُه، كلُّ ذلك على التَّشْبيه بمَخالِبِ الكِلابِ والسِّباعِ.

وكلاليب الشجر: شَوْكُه كذلك تنسَّم: تنفَّس تميس: ماسَ يَمِيسُ ميْساً إِذا تبختر انتفش: لنَّفْشُ: مَدُّكَ الصُّوفَ حتى يَنْتَفِشَ بعضه عن بعض العِهْن: الصُّوفُ المَصْبُوغُ أَلواناً؛ ومنه قوله تعالى: {كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ} [القارعة من الآية:5]، الحَرُّ: ضِدُّ البَرْدِ، والجمع حرورٌ وأَحارِرُ

14/3/2015م 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

صفية الودغيري

كاتبة إسلامية حاصلة على دكتوراه في الآداب - شعبة الدراسات الإسلامية.

  • 1
  • 0
  • 2,624

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً