الحُمْر تحت السرير!
(الحمر): وهو لون الشيوعية العتيد، تحت سريرك: الأعداء توغلوا حتى صاروا تحت فرشنا..!
كانت تلك الجملة الطريفة هي ملخص تلك الحالة من التشنج الوطني الذي مرت به أمريكا في منتصف القرن الماضي، أثناء احتدام ما عرف بعد ذلك "بالمكارثية" (Reds under the bed).
(الحمر): وهو لون الشيوعية العتيد، تحت سريرك: الأعداء توغلوا حتى صاروا تحت فرشنا..!
الشيوعيون اخترقوا الأمة الأمريكية الصاعدة، وصار خطرهم أقرب إلى المواطن الأمريكي من نعله القابع تحت سريره، الحلم الأمريكي في خطر داهم، الشيوعيون تحت السرير..
بهذه المفاهيم أشعل السيناتور (جوزيف مكارثي) المجتمع الأمريكي واستثار من خلال لجان استجوابه في الكونجرس، وحواراته ومقالاته نفوس الأمريكيين، وأجج نعراتهم القومية لتصل إلى حالة من التشنج الوطني، تشبه كثيرًا تلك التي نعرفها جيدًا..
إنهم قريبون وخطيرون، إنهم يهددون القيم الرأسمالية العظيمة التي تصنع حلمنا، إنهم سيغيرون نمط حياتنا المرفهة وطبيعة مجتمعنا المتحضر، فلتستعر نيران الخوف في القلوب أكثر فأكثر، وليكن ذلك سبيلاً لإنضاج المزيد من التشنج الوطني، وجنون العظمة المتعصب للوطن المبهر، الذي يعاني من خطر الشيوعيين المختبئين تحت السرير..
لا مانع أن نقوم بتجربة وهمية في بلدة (موسيني) الصغيرة لنوحي لسكانها والصحفيين الذين استدعيناهم بأنه قد حدث اجتياح للبلدة من قبل الشيوعيين، وتم القبض على كبراء البلدة ومحاكمتهم محاكمات صورية، والسيطرة على البلدة وإغراقها باللون الأحمر، وتسمية أكبر ميادينها بالميدان الأحمر، وعرض أفلام (البروباجندا الروسية) على كل شاشات سينما البلدة، ومنع المطاعم من تقديم البرجر واستبداله بالخبز الروسي الأسمر وحساء البطاطس..
لا مانع من كل هذا المجهود لتصل الرسالة، هذا هو مصيركم إذا تركتم الشيوعيين تحت السرير، لا بد إذاً من الإبلاغ عن الخونة المتعاونين مع الشيوعية، بل لا بد من الإبلاغ عن المتعاطفين أيضًا، بل لا بد من التحقيق مع الموضوعيين المنصفين، الذين لم يقبلوا المشاركة في حفل التشنج الوطني، الذي تولى كبره السناتور المخلص مكارثي..
فلتوصم كل الآراء الإصلاحية المطالبة بإصلاحات اقتصادية أو سياسية بأنها مساعدة للشيوعية، وخيانة تعرقل مجهود الحكومة الأمريكية وهى تحارب خطر الحمر المختبئين تحت الأسِرَّة، وليتهم كل مخالف أو معارض في وطنيته وشرفه دون دليل، بل مجرد مخالفة أفكار السيناتور مكارثي في تشويه المخالفين في الرأى لا بد أن تصير علامة ودليلاً دامغًا على انعدام الوطنية، والانتماء للطابور الخامس، الخونة!
الآلاف تم التحقيق معهم في غمرات التشنج الوطني، وتناثر البلاغات وفيضان التخوين الهيستيري الذي طال شخصيات عامة وأدباء وصحفيين وفنانين، تم استدعاؤهم للتحقيق معهم في لجنة مكارثي بمجلس الشيوخ، أو لجنة الممارسات غير الأمريكية بمجلس النواب.
(مارتن لوثر كينج، والت ديزني، ألبرت أينشتاين، أرثر ميللر، شارلي شابلن).
كل هؤلاء وغيرهم نهشهم المكارثيون وضموهم إلى قوائمهم السوداء، التي تسبب في طرد الآلاف من عملهم ومنع مئات الكتب، وسجن المئات دون دليل أو بينة، فقط يكفي أن يرمى بأنه متعاطف مع الشيوعيين، أو غير معادٍ لهم بدرجة تروي ظمأ المكارثيين المتشنجين..
فليصير الخوف شعار المرحلة إذاً..
الخوف من الشيوعيين المختبئين تحت السرير، والخوف من مكارثي وشلته التي لا تتورع عن تخوين أي مخالف ورميه بالعمالة، والخوف من المباحث الفيدرالية الأمريكية، التي عرف بعد ذلك أنها كانت قد لعبت دورًا مشبوهًا في الحملة المكارثية المجنونة، حين ثبت في السبعينات أنها سربت وثائق أغلبها ملفق للخوض في سمعة وشرف ووطنية كثير من الشخصيات العامة، لمجرد أن آراءهم مخالفة للحكومة الأمريكية.
بعد أعوام دارت الدائرة على مكارثي وقدم إلى المحاكمة بتهم الفساد والتزوير، ولم يصمد أمام الهجمة المرتدة من العقلانيين الذين رفضوا الرضوخ لحالة التشنج الهيستيرية التي قادها، ثم أدمن مكارثي الخمر والمخدرات وقيل أنه مات بسبب ذلك، مات مكارثي وتخلصت أمريكا نسبيًا من وبائه، بعد أن اكتشف المواطنون أن السرير ليس تحته كل هذا الكم من الشيوعيين، وهدأ التشنج بعض الشيء، وإن لم يختف بالكلية..
ولن يختفي طالما بقي الاستبداد الذي يحتاج دومًا من آن إلى آخر إلى وقود، هذا التشنج الوطني والهيستيريا الصارخة التي تضمن للمستبد شقاقًا داخل الشعب الذي يحكمه، وخوفا يسري في أوصاله وتسلطًا ذاتيا يجعل من كل أفراد المجتمع قضاة وجلادين، يهدد بعضهم بعضًا ويلعن بعضهم بعضًا، ويخشى بعضهم من بعض،
وكل ذلك سيتوفر ببركة هذا العدو القابع هنالك.. (تحت السرير!).
- التصنيف: