احتفظ بعقل (مندهشًا دائمًا)
أحمد كمال قاسم
قوانين الطبيعة متماثلة مع اتجاهي الزمن الموجب والسالب! بمعنى أن القوانين الأساسية لن تُكسر إذا شاهدت شريط فيديو بالعكس ورأيت الأحداث التي تحدث أولا في العادة تحدث آخرًا، والأحداث التي تحدث آخرًا في العادة تحدث أولاً!
- التصنيفات: الإسلام والعلم -
"لا تتوقف عن التعجب والاندهاش حتى لو عرفت السبب"، فما تسميتنا للحدث الذي يسبق آخراً سببًا إلا وهمًا لسَبْقِه إياه في الزمن، بل اعجبْ لماذا يتكرر نفس (السبب) قبل نفس "(المسُبَب)"، هذه نظرة فلسفية كتبها الإمام (أبو حامد الغزالي) والفيلسوف (ديفيد هيوم) وهي: أنه لا وجود لما يُسمَى الأسباب حقيقة!
سأستعير مثال الإمام الغزالي ها هنا: "أن احتراق القطن بالنار كلما ألقيناه فيها ليس معناه أن النار هي سبب مباشر حقيقي لحرق القطن! بل أقصى ما تعنيه هو أن هذا الحدث -الاحتراق- -دائمًا من خلال خبرتنا اليومية- يحدث بعد ذاك الحدث -إلقاء القطن في النار-"، ويقول: "أننا نتوهم هذه السببية نتيجة أن الحدثين دائما يحدثان متعاقبين! مثلا في حال عدم احتراق سيدنا إبراهيم بالنار فقد حدث انفكاك لهذا التزامن المعتاد فلم يحترق إبراهيم بعد إلقائه في النار".
ومن ناحية فيزيائية هذا الكلام معقول، إذ أن قانون الجاذبية مثلا يعني أن الحوادث التي خبرها العلماء في المعامل من قبل تقول "أنني كلما تركت الكرة سقطت نحو الأرض" حسنًا لكن هذا استقراء فقط، أي وصفا لكل ما حدث سابق، لكن هل يضمن هذا القانون أنني لو تركت الكرة المرة القادمة ستسقط نحو الأرض أم لا؟! في الحقيقة الإجابة المنصفة هي "لا" فلا يستطيع القانون إلا وصف الماضي وليس المستقبل، لكن أقصى ما في الأمر أننا سمينا القانون "قانونًا" فقط لاعتيادنا على تحقق ما يتنبأ به.
أيضا لو نظرنا للأمر من وجهة نظر ميكانيكا الكم مثلا في ظاهرة الاستنفاق -اتخاذ النفق- Quantum Tunneling فإن الإلكترون احيانًا يعبر الحاجز الجهدي potential barrier وأحيانًا لا! مع أنه كلاسيكيًا إذا كان طاقة الوضع المتطلبة لعبور الحاجز الجهدي أكبر من طاقة حركة الإلكترون فإنه يستحيل أن يعبر! لكن هذا الآن حسب معرفتنا بميكانيكا الكم ليس حقيقيًا إذ أنه تظل احتمالية لعبور الإلكترون الحاجز الجهدي حتى لو لم يمتلك الطاقة الكافية لعبوره "كلاسيكيا"!
حسنًا، وماذا عن عالمنا الكبير؟! ماذا إن قذفت بكرة نحو الحائط؟ بالطبع لن تعبر الحائط وأستطيع بيسر أن أقول نعم "ان وجود الحائط هو سبب ارتداد الكرة"، وأن أضع قانونًا أنه "ترتد الكرة إذا قذفت جهة الحائط وعمودية عليه وكان التصادم مرنًا بمقدار كاف إلى آخره من الشروط الكلاسيكية".
لكن ماذا عن رأي ميكانيكا الكم حول مسألة الكرة والحائط؟ في الحقيقة ميكانيكا الكم تخبرنا أنه يوجد احتمال ولو ضئيل جدا جدا أن تعبر الكرة الحائط الى الغرفة المجاورة دون أن تكسره -دون أن تمتلك الطاقة لكسره-! لكن احتمال حدوث هذا بالنسبة للكرة والحائط أقل بكثير كثير من احتمال حدوثه بالنسبة للإلكترون والحاجز الجهدي !
وما معنى هذا؟
معناه أنه قد أقذف الكرة جهة الحائط ولا ترتد! وحينها سيظهر "أن وجود الحائط ليس سببًا" في ارتداد الكرة لكن احتمال حدث ارتداد الكرة بعد حدث لمسها للحائط كبير جدا جدا! وذلك لأن السبب فلسفيًا يتطلب الحتمية! فلا معنى لسبب يُوجد احتمال ألا يكون سببًا! كل ما في الأمر أنه من فرط تكرار حدوث هذين الحدثين متتالين -حدث لمس الكرة الحائط وحدث ارتداده- فإننا قد أعزينا للأول أن يكون "المُسَبِب" وللتالي أن يكون "المُسَبَب".
من جهة ثالثة فإن قوانين الطبيعة متماثلة مع اتجاهي الزمن الموجب والسالب! بمعنى أن القوانين الأساسية لن تُكسر إذا شاهدت شريط فيديو بالعكس ورأيت الأحداث التي تحدث أولا في العادة تحدث آخرًا، والأحداث التي تحدث آخرًا في العادة تحدث أولاً!
ومعنى أن قوانين الطبيعة لن تنكسر بهذا أن شيئا كــ"تجمع زجاج كوب مكسور على الأرض ليكوّن الكوب ثم ليمتلأ شايًا ساخنًا ثم ليصعد إلى الأعلى ليستقر في يد طفل صغير" وارد! نعم هذا الاحتمال وارد لكنه ضعيف جدًا جدًا جدًا! لذا فإن كل ما يميز اتجاه الزمن الموجب عن السالب هو أن الأحداث الأكثر احتمالية هي التي تحدث عادة ولذلك فإننا ان رأينا الفيديو العجيب لكوب الشاي والولد سنقول فورًا أن شريط الفيديو معكوس، لأننا اعتدنا على غير هذا!
لكن تخيل معي أن هذا ممكن ولو باحتمال قريب من الصفر! أليس هذا معناه أن سقوط الكوب وانكساره قد لا يكون بسبب ترك الولد الكوب من يده لأنه ساخن جدا؟! قد يكون العكس ها هنا! فإن إمساك الولد الكوب الصاعد من الأرض إليه هو بسبب اتجاه أجزاء الكوب المتناثرة إلى بعضها البعض مكونةً الكوب، هنا قد انعكس السبب والنتيجة وهذا صحيح فيزيائيًا لكن فقط احتماليته غاية في الضآلة، وهذا مع التأمل المتحرر من سلطان التعود معناه أن علاقة "السبب - النتيجة" هي علاقة وهمية خلقها عقلنا بسبب اعتياده على حدوث أشياء قبل أشياء! وهذا في الواقع شيء ضروري جدًا وإلا لما كان الإنسان قد بنى حضارته إن لم تكن الأحداث متكررة الحدوث بنفس النمط.
ولو تأملت قليلاً في هذا سوف تجده أنه من تسخير اللهِ الكونَ لنا! فبينما في العالم ما دون الذري -لو كنا بحجم إلكترونات- لا يمكننا أبدًا توقع الحدث القادم إلا احتمالاٌ، فإن الله وضعنا في عالم مناسب وخلق أجسامنا -كتلةً وحجمًا- مناسبة لهذا العالم لكي تضطرد النتيجة والسبب "دائمًا" حتى نتمكن من التوقع ووضع ما يُسمى بـ"العلم الكلاسيكي" (وليس الكمي).
والله أعلم.