تأملات في سورة الناس

منذ 2015-03-25

وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس . مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس}، ولم يقل: من شر وسوسته، لتعم الاستعاذة شره جميعه

بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد..

 

فإن الله تعالى أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به، فقال الله تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]. ومن سور القرآن التي تتكرر على أسماعنا ونحتاج إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الفوائد الجليلة والحكم العظيمة سورة الناس، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس . مَلِكِ النَّاس . إِلَهِ النَّاس . مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس . مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس} [الناس:1-6].

 

قال ابن كثير رحمه الله تعالى: "هذه الصفات من صفات الرب عز وجل، الربوبية والملك والإلهية، فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه، فجميع الأشياء مخلوقة له، مملوكة عبيد له، فأمر المستغيث أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات من شر الوسواس الخناس، وهو الشيطان الموكل بالإنسان، فإنه ما من أحد من بني آدم إلا وله قرين يزيِّن له الفواحش، ولا يألوه جهدًا في الخبال. والمعصوم من عصمه الله"[1] (انتهى).

 

روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسل:م قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَقَدْ وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ»، قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَإِيَّايَ إِلَّا أَنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ، فَلَا يَأْمُرُنِي إِلَّا بِخَيْرٍ» [2].

 

وفي الصحيحين من حديث أنس في قصة زيارة صفية للنبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف، وخروجه معها ليلًا ليردها إلى منزلها، فلقيه رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم تعدًا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عَلَى رِسْلِكُمَا»، فَقَالَا: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَبُرَ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَبْلُغُ مِنَ الْإِنْسَانِ مَبْلَغَ الدَّمِ، وَإِنِّي خَشِيتُ أَنْ يَقْذِفَ فِي قُلُوبِكُمَا شَيْئًا» [3].

 

وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي تميمة الهُجَيمِي عمن كان رديف النبي صلى الله عليه وسلم قال: كُنْتُ رَدِيفَهُ عَلَى حِمَارٍ، فَعَثَرَ الْحِمَارُ، فَقُلْتُ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ لِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «لَا تَقُلْ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: تَعِسَ الشَّيْطَانُ، تَعَاظَمَ فِي نَفْسِهِ، وَقَالَ: صَرَعْتُهُ بِقُوَّتِي، فَإِذَا قُلْتَ: بِسْمِ اللَّهِ، تَصَاغَرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ، حَتَّى يَكُونَ أَصْغَرَ مِنَ الذُّبَابِ» [4].

 

قال ابن كثير: "وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تعالى تصاغر الشيطان، وغُلِب، وإن لم يذكر الله تعاظم وغلب"[5].

 

قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس} الوسوسة هي ما يلقيه الشيطان من الأفكار والأوهام، والتخيلات التي لا حقيقة لها، والخناس الذي يخنس، ويهزم، ويولي عند ذكر الله وهو الشيطان[6]، قال سعيد ابن جبير عن ابن عباس في قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس}، قال: الشيطان جاثم على قلب ابن آدم، فإذا سها وغفل وسوس، فإذا ذكر الله خنس[7].

 

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ وَلَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ، فَإِذَا قَضَى التَأْذِينْ أَقْبَلَ، حَتَّى إِذَا ثُوِّبَ بِالصَّلَاةِ أَدْبَرَ، حَتَّى إِذَا قُضي التَّثْوِيبَ أَقْبَلَ، حَتَّى يَخْطِرَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَنَفْسِهِ، يَقُولُ: اذْكُرْ كَذَا واذْكُرْ كَذَا، لِمَا لَمْ يَكُنْ يَذْكُرُ مِن قَبلُ، حَتَّى يَظَلَّ الرَّجُلُ مَا يَدْرِي كَمْ صَلَّى؟!» [8].

 

قوله: {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس} ظاهر الآيات أن الذي يسوس يكون من شياطين الجن، ويكون من شياطين الإنس، وجاء التوجيه الإلهي الكريم بالاستعاذة من النوعين جميعًا، وقد ورد في الكتاب العزيز أنهما يشتركان في الوحي الشيطاني، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُون} [الأنعام: 112][9].

 

روى أبو داود في سننه من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَنَا يَجِدُ فِي نَفْسِهِ يُعَرِّضُ بِالشَّيْءِ، لَأَنْ يَكُونَ حُمَمَةً[10] أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، فَقَالَ: «اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، اللَّهُ أَكْبَرُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيْدَهُ إِلَى الْوَسْوَسَةِ» [11].

 

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ» [12].

 

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: "وتأمل حكمة القرآن وجلالته كيف أوقع الاستعاذة من شر الشيطان الموصوف بأنه {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاس . مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاس}، ولم يقل: من شر وسوسته، لتعم الاستعاذة شره جميعه، فإن قوله: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاس} تعم كل شره، ووصفه بأعظم صفاته، وأشدها شرًا، وأقواها تأثيرًا، وأعمها فسادًا، وهي الوسوسة التي هي مبادئ الإرادة، فإن القلب يكون فارغًا من الشر، والمعصية فيوسوس إليه، ويخطر الذنب بباله، فيصوره لنفسه ويمنيه ويشهيه، فيصير شهوة، ويزينها له ويحسنها، ويخيلها له في خياله، حتى تميل نفسه إليه فيصير إرادة، ثم لا يزال يمثل له ويخيل، ويمني ويشهي، وينسي علمه بضررها، ويطوي عنها سوء عاقبتها فيحول بينه وبين مطالعته، فلا يرى إلا صورة المعصية والتذاذه بها فقط، وينسى ما وراء ذلك، فتصير الإرادة عزيمة جازمة فيشتد الحرص عليها من القلب، فيبعث الجنود في الطلب، فيبعث الشيطان معهم مددًا لهم، وعونًا، فإن فتروا حركهم، وإن ونوا أزعجهم، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83]. أي: تزعجهم إلى المعاصي إزعاجًا، كلما فتروا أو ونوا أزعجتهم الشياطين، وأزتهم، وأثارتهم، فلا تزال بالعبد تقوده إلى الذنب، وتنظم وتسهل الاجتماع بألطف حيلة وأتم مكيدة، فأصل كل معصية، وبلاء إنما هو الوسوسة، فلهذا وصفه بها لتكون الاستعاذة من شرها أهم من كل مستعاذ منه، وإلا فشره بغير الوسوسة حاصل أيضًا"[13].

 

ومن فوائد السورة الكريمة:

1- إثبات الربوبية، والملك، والألوهية لله تعالى، فهو رب كل شيء ومليكه والخلق كلهم عبيده، وتحت ملكه، قال تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93]. وقال تعالى: {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيم} [الأعراف:200]. وقال تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِين . وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُون} [المؤمنون:97-98 ]. وهذه الاستعاذة لها مواضع عند القراءة، والغضب، وفي الصلاة.. وغيرها.

 

2- استحباب قراءة المعوذتين والإخلاص صباحًا ومساءً ثلاث مرات وعند المبيت، وعلى المرضى، والمسحورين. روى أبو داود في سننه من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خُبَيْبٍ رضي الله عنه أنه قال: خَرَجْنَا فِي لَيْلَةِ مَطَرٍ، وَظُلْمَةٍ شَدِيدَةٍ، نَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّيَ لَنَا، فَأَدْرَكْنَاهُ، فَقَالَ: «أَصَلَّيْتُمْ؟» فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، فَقَالَ: «قُلْ»، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: « قُلْ»، فَلَمْ أَقُلْ شَيْئًا، ثُمَّ قَالَ: «قُلْ»، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَقُولُ؟ قَالَ: «قُلْ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} [الإخلاص:1]، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ، حِينَ تُمْسِي وَحِينَ تُصْبِحُ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، تَكْفِيكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ» [14].

 

روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عائشة رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ، فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ، وَأَمْسَحُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَتِهَا[15].

 

وروى البخاري في صحيحه من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى فِرَاشِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ جَمَعَ كَفَّيْهِ، ثُمَّ نَفَثَ فِيهِمَا، فَقَرَأَ فِيهِمَا {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق} و{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا مَا اسْتَطَاعَ مِنْ جَسَدِهِ، يَبْدَأُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ وَوَجْهِهِ، وَمَا أَقْبَلَ مِنْ جَسَدِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ[16].

 

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن عامر بهما وقال: «تَعَوَّذْ بِهِمَا، فَمَا تَعَوَّذَ مُتَعَوِّذٌ بِمِثْلِهِمَا» [17]. قال ابن القيم رحمه الله في كلامه على المعوِّذتين: "المقصود الكلام على هاتين السورتين وبيان عظيم منفعتهما، وشدة الحاجة بل الضرورة إليهما، وأنه لا يستغني عنهما أحد قط، وأن لهما تأثيرًا خاصًا في دفع السحر، والعين، وسائر الشرور، وأن حاجة العبد إلى الاستعانة بهاتين السورتين أعظم من حاجته إلى النفس، والطعام، والشراب، واللباس"[18].

 

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

-------------------------------------

[1] تفسير ابن كثير (14/529).

[2]برقم 2814.

[3] برقم 3101، وصحيح مسلم برقم 2175.

 [4] (34/198) برقم 20591، وقال محققوه: حديث صحيح، وقال ابن كثير: إسناده جيد قوي.

[5] تفسير ابن كثير (14/529).

[6] تفسير جزء عم، للشيخ ابن عثيمين ص359 بتصرف.

[7] تفسير ابن كثير (14/529).

[8] البخاري برقم 608، وصحيح مسلم برقم 387.

[9] بدائع التفسير، لابن القيم (5/463 - 464) باختصار.

[10] حممة: أي فحمًا.

[11] برقم 5112، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/962) برقم 4264.

 [12] صحيح البخاري برقم 5269، وصحيح مسلم برقم 127.

[13] بدائع التفسير (5/452 - 453) مختصرًا.

[14] سنن أبي داود برقم 5082، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/957 - 958) برقم 4241.

[15] صحيح البخاري برقم 5016، وصحيح مسلم برقم 2192.

[16] صحيح البخاري برقم 5017.

[17] سنن أبي داود برقم 1463، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (1/275) برقم 1299.

[18] بدائع الفوائد ص536.

د. أمين بن عبد الله الشقاوي

  • 4
  • 0
  • 29,367

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً