تعريف العولمة
سليمان بن صالح الخراشي
العولمة لفظ مأخوذ من (عالَم)، وكما أن الناس اختلفوا فيها ما بين مندد ومسدد فقد اختلفوا كذلك في تعريفها، ولكن يكاد يتفق الجميع على حد أدنى وهو اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع من يعيش فيه، وتوحيد أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات، والجنسيات والأعراق.
- التصنيفات: التصنيف العام -
العولمة لفظ مأخوذ من (عالَم)، وكما أن الناس اختلفوا فيها ما بين مندد ومسدد فقد اختلفوا كذلك في تعريفها، ولكن يكاد يتفق الجميع على حد أدنى وهو اصطباغ عالم الأرض بصبغة واحدة شاملة لجميع من يعيش فيه، وتوحيد أنشطتهم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية من غير اعتبار لاختلاف الأديان والثقافات، والجنسيات والأعراق.
فمهما تعدّدت السياقات التي ترد فيها (العولمة) فإن المفهوم الذي يعبّر عنه الجميع في اللغات الحيّة كافة هو الاتجاه نحو السيطرة على العالم، وجعله في نسق واحد، ومن هنا جاء قرار مجمع اللغة العربية بالقاهرة بإجازة استعمال العولمة بمعنى جعل الشيء عالمياً، وكل هذا لا يخرج عن اعتبار العولمة - في دلالتها اللغوية أولاً - هي جعل الشيء عالمياً بما يعني ذلك من جعل العالم كلِّه وكأنه في منظومة واحدة متكاملة، وهذا هو المعنى الذي حدّده المفكرون باللغات الأوروبية للعولمة Globalization في الإنجليزية والألمانية، وعبروا عن ذلك بالفرنسية بمصطلحMondialisation، ووضعت كلمة (العولمة) في اللغة العربية مقابلاً حديثاً للدلالة على هذا المفهوم الجديد.
وتظهر مشكلة العولمة في هذا التعريف، فطالما أن الأعراق متنوعة، والثقافات متعددة، والأديان مختلفة، والأهواء متباينة؛ فمن يحكم هذه الصبغة الواحدة، من يضع ضوابطها ويحدد قوانينها؟ ثم كيف يلزم تاجر صغير كان يعيش في أرضه آمناً في سربه، عنده قوت يومه، بمزاحمة غيره من العمالقة له في أرضه؟ وإذا كان هذا محتملاً لكون العصفور يرزق مع النسر، وتلك الطيور تغدوا خماصاً وتروح بطاناً، فبأي مبرر تلغى عادات الناس وأنماطهم الاجتماعية؟ ومن الذي يضع الصبغة الجديدة للوحدة الاجتماعية، وكيف ألزم بلايين البشر بغسل أدمغتهم، وتنظيفها من فكرهم الأصيل لآخر دخيل؟
ولهذه الإشكالات وغيرها كان من الطبيعي أن يكون في المجتمعات الإسلامية والعربية شبه إجماع بين أطراف الرأي العام السياسي فيها ماركسيهم وقوميهم وإسلاميهم يقول: بأن العولمة بالموجهات الرئيسة التي تحركها لا تتضمن أي جديد، بل هي شكل من الاستعمار لا تختلف في أهدافها عن أهداف الموجات الاستعمارية السابقة، فلا يمكن لرأس المال المهيمن، وللشركات العملاقة المتعددة الجنسيات أن تنزع نحو أهداف أخرى غير السيطرة على الأسواق، وغزو موارد الكوكب، واستغلال العمل المأجور والرخيص أنّى وجد.
والفرق بين المشروعين الاستعماريين (القديم والجديد) هو أن المشروع الجديد يحتاج إلى التأقلم مع الظروف العالمية التاريخية المتغيرة، أي صعود هيمنة الولايات المتحدة الأحادية على العالم، وتحويل حلف شمال الأطلسي إلى التحالف العسكري السياسي الوحيد في العالم، وفي خدمة مجموعة صغيرة من الدول الصناعية، كما أن الاستعمار الجديد يستخدم خطاباً للمشروعية يشدد على قيم نشر الديمقراطية، واحترام حقوق الشعوب؛ بدل الخطاب الذي حرك قوى الاستعمار الأسبق الذي ركز بشكل رئيس على قيم تمدين الشعوب الهمجية أعني كل الشعوب غير الأوروبية، وتحضيرها أو إدخالها في الحضارة الفعلية، ولئن كانت للاستعمار الأول أشكال تدخله العسكرية فإن الاستعمار الجديد يعمد إلى أساليب جديدة لا تقل فعالية عن السابقة على الرغم من أنها اتسمت بقسط أكبر من الأغطية القانونية، فالتدخل العسكري الانفرادي والمكشوف للدول الاستعمارية قد ترك مكانه حتى الحادي عشر من سبتمبر عام ألفين وواحد. (رسالة المسلم في حقبة العولمة لناصر بن سليمان العمر ص7).
وسواء كانت "العولمة" تعني الكوكبة أو"الكونية" أو "سيادة النموذج الرأسمالي" وهيمنته على العالم، فإن النظام العالمي الجديد الذي بدأ يسود في العالم مع بداية العقد الأخير من القرن العشرين قد أفرز العديد من النظريات والمصطلحات منها نظرية: "نهاية التاريخ" التي تبناها المفكر الياباني الأصل: فوكوياما، والذي اعتبر نهاية الشيوعية وسقوط الاتحاد السوفيتي نهاية التاريخ بانتصار الرأسمالية، ونظرية "صراع الحضارات" لأستاذ العلوم السياسية الأمريكي صامويل هانتجتون الذي اعتبر نهاية الحرب الباردة، وانتصار المعسكر الغربي على المعسكر الشرقي؛ بداية لصراع طويل وممتد بين الغرب النصراني وحضارته الغربية، والشرق المسلم وحضارته الإسلامية، وأيضاً بروز بعض الأفكار والنظريات الأخرى مثل: "ما بعد الحداثة" وغيرها حتى الوصول إلى مصطلح "العولمة".
وقد عقدت العديد من الندوات والمؤتمرات العلمية لمناقشة مصطلح "العولمة"، وأبعاده السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإن كانت معظمها انطلقت في إطار التوجه المؤيد للمصطلح الذي يؤيده أصحاب التوجه "الليبرالي" أو المعارضين لها من منطلق أنها "أمركة" أو "تصب في خانة الرأسمالية" من أصحاب التوجهات اليسارية والماركسية، وللأسف لم نجد في العالمين العربي والإسلامي ندوة علمية منهجية تتناول مفهوم العولمة من منظور إسلامي، ولعل أبرز الندوات والمؤتمرات التي ناقشت قضية العولمة خمسة مؤتمرات في أقل من ثلاثة أعوام، كما أن بعض الهيئات والمؤسسات والتنظيمات الكبرى في العالم العربي لم تتطرق لمناقشة هذه القضية مثل: الجامعة العربية، أو منظمة المؤتمر الإسلامي، أو رابطة العالم الإسلامي!!
وإذا كان مؤتمر المجلس الأعلى للثقافة في القاهرة حاول أن يناقش البعد الثقافي للقضية، وخطورة "العولمة" على الثقافة العربية؛ إلا أن الوجوه التي دعيت للمؤتمر وقدمت أبحاثاً كانت من المؤيدين لـ "العولمة" لأنها "انفتاح على ثقافة الغير"، وانصب اهتمام المؤتمر في الأساس على "العولمة والهوية الثقافية" أما ندوة "العولمة والاتجاهات المجتمعية في الوطن العربي" المنعقدة في القاهرة فقد انصب اهتمامها في الأساس على البعدين الاقتصادي والاجتماعي، واهتمت كما جاء في الدراسة التي أعدها المفكر الاقتصادي سمير أمين على "تحليل العولمة وتأثيراتها وآلياتها"، وناقش المسألة من منظور أيديولوجي، وقدمت الندوة رؤية لمناخ العصر ... وإن كانت انصبت على محاكمة النظام العالمي الجديد، والقوة المهيمنة على العالم، وتمركز الحضارة الرأسمالية حول أفكار اقتصادية.
الأمر الذي انعكس - بالطبع - على الهيمنة الرأسمالية على الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية، ولكن المؤتمر أغفل الجوانب الاجتماعية للعولمة، وآثارها على حياة الشعوب وقيمها وسلوكياتها، وبغض النظر عن دفاع البعض المستميت عن "العولمة"، وتحفظ البعض اللامحدود عليها؛ فإن لـ "العولمة" أبعادها السياسية التي ستنعكس حتماً على العالم الإسلامي.
فالعولمة في الأساس نتاج انهيار نظام عالمي كان يقوم "القطبية الثنائية" بانهيار أحد أقطاب النظام وهو الاتحاد السوفيتي، بل وزواله تماماً بانتهاء الحرب الباردة، وسيادة قطب واحد أخذ يسيطر على هذا العالم سياسياً وعسكرياً، الأمر الذي أحدث هوة عميقة وخللاً كبيراً في المنظومة السياسية العالمية، وفي ظل عدم التكافؤ في القوة والإمكانات بدأ الخلل يظهر، ولمعالجة هذا الخلل وجدنا من يبشر بقيام نظام عالمي جديد قوامه "سيادة حقوق الإنسان" و"الحرية الديمقراطية" و"دور أكبر ومؤثر للأمم المتحدة في حل المنازعات سلمياً"، وظهرت آثار هذا النظام في إنهاء التفرقة العنصرية في جنوب أفريقيا، ونهاية حكم الأقلية البيضاء، وبداية حكم الأغلبية السوداء، وبدأ يذوب الجليد بين واشنطن وبكين بعد عداوة طويلة، وأخذت واشنطن تلعب الدور الأكبر في صنع السياسة الروسية، ونجحت في "تطويع" الكرملين بتنصيب يلتسين رئيساً ودعمه وتأييده بلا حدود.
وأخذت معالم النظام العالمي الجديد تتضح أكثر وتأخذ أبعاداً متناقضة، فالشرعية الدولية تتدخل لتفرض قوانين وقرارات الأمم المتحدة في مكان، وتتغاضى عن تنفيذ هذه القوانين في مكان آخر، فتحكمت "المصالح الدولية" في تسيير دفة هذا النظام، وتحكمت الشركات متعددة الجنسيات في صنع القرار السياسي، فهناك أكثر من (200) شركة متعددة الجنسيات هي التي تصنع اليوم القرار السياسي، وظهرت سياسة "الكيل بمكيالين" حيث يكيل النظام العالمي الجديد بمكيالين حين يطبق قرارات الأمم المتحدة بحذافيرها في مكان، ويتجاهل تماماً القرارات الدولية في مكان آخر، الأمر الذي دفع د. كلوفيس مقصود مدير مركز عالم الجنوب في الجامعة الأمريكية في واشنطن إلى وصف "هذا النظام الجديد بالفوضى"، وقال: "لا هو نظام عالمي ... ولا هو جديد ... بل هو فوضى متميزة بنزاعات إقليمية تعيد إلى الواجهة تيارات فكرية كنا اعتقدنا أنها مر عليها الزمن".
فالذي نشاهده اليوم في ظل هذا النظام الجديد، والتبشير بـ"العولمة" دولاً تفككت كما يحدث الآن في أفغانستان والصومال، والكونغو الديمقراطية، ومذابح ضد الإنسان ارتكبت دون تحقيق دولي كما حدث في البوسنة والهرسك - في قلب أوروبا -، ويحدث اليوم في كوسوفو، وحدث في رواندا حيث أبيد أكثر من نصف مليون مواطن دون أن تحرك القوى المهيمنة ساكناً، بل إن تدخلات الشرعية الدولية في بعض المناطق أدت إلى نتائج عكسية؛ ففي البوسنة سقطت سربنيتشا وأباد الصرب أكثر من أربعة آلاف مسلم وهي تحت الحماية الدولية، ورجال القبعات الزرقاء، وفي الصومال تدخلت الأمم المتحدة فكانت الكارثة، زادت الصراعات، وزاد القتال، حتى المحاكمات لمجرمي الحرب التي صدرت بها قرارات من مجلس الأمن الدولي لم تنفذ سواء ضد مجرمي الحرب في البوسنة، أو في رواندا، وحتى المواثيق والمعاهدات الدولية لم تحترم ولم تنفذ، مما جعل المنبهرين بالنظام العالمي الجديد وبإفرازاته السياسية والاقتصادية والثقافية يتضجرون من هذا النظام وتناقضاته.
فالنظام الجديد الذي حاول - سياسياً - عولمة "ديمقراطية"، ومنظوره الخاص لـ"حقوق الإنسان"، وفهمه لـ "الحرية"؛ تجاهل تماماً وضعية الشعوب الأخرى وظروفها ومتطلباتها، وكان النتاج عولمة الفقر، إضافة إلى عولمة السوق، واستقطاب جديد من الشمال الغني المسيطر للجنوب الفقير، وتبني القوى الدولية للقضايا التي تريد ما دامت مصلحتها تقتضي ذلك، وتتجاهل قضايا أساسية لعدم وجود مصلحة لها.
وإذا كان النظام العالمي الجديد والسياسات التي تحكمت في تسيير دفة العالم والهيمنة عليه هي التي أفرزت ظاهرة "العولمة"؛ فإن هذا النظام وآلياته يسير من قبل دول ومؤسسات وهيئات دولية تتحكم في النظام الاقتصادي في العالم، فآلية النظام الاقتصادية مكنت الدول الغربية القوية مادياً وتكنولوجياً من الضغط على دول العالم الثالث لتفتح اقتصادياتها أمام رأس المال والمنتجات الغربية، كما مكنتها في الأساس من "خلخلة" العوائق القانونية والمالية التي تضعها الدول - في الجنوب - أمام منتجات الشمال، الأمر الذي جعل الدول الغنية تقوض الأسس التي تقوم عليها أركان الدول في العالم الثالث الفقير، وجاءت اتفاقيات الجات في 1994م لتتحكم منظمة التجارة العالمية في الاقتصاد العالمي بتحكمها في 90% من حركة التجارة العالمية، والدول في العالم الثالث ملزمة بالدخول في اتفاقيات الجات، والتسليم بها، وفتح أسواقها أمام منتجات وسلع الدول الغنية؛ الأمر الذي يحطم اقتصاديات هذه الدول.
فالنظام العالمي الجديد يسعى بكل قوة لتنفيذ مصالح القوة العالمية الدولية، ومصالح الشركات متعددة الجنسيات، وإن أي سعي في ظل "العولمة الاقتصادية" لتحقيق التنمية الذاتية أو المعتمدة على النفس تواجه بعراقيل من صنع ووضع القوى، وعوامل خارجية، وهي بالقطع ستكون معادية لأي جهد وطني، فبلدان "المركز" التي تدير "عولمة الاقتصاد" تجني المكاسب الطائلة بفضل تبعية "بلدان التخوم" لها سياسياً واقتصادياً وإعلامياً بل ثقافياً.