زهد عمر بن الخطاب
ليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك، وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تخرجها من قلبك، وهي في يدك.
- التصنيفات: الزهد والرقائق - سير الصحابة -
ما أصدق كلمة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في تعريفه للزهد، قال: ليس الزهد ألا تملك شيئًا ولكن الزهد ألا يملكك شيء.
وقال يونس بن ميسرة: ليس الزهد في الدنيا بترك الحلال ولا إضاعة المال، ولكن الزهد في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء، وأن يكون مادحك وذامّك في الحق سواء.
يمثل الزهد في حياة الفاروق أصلًا من الأصول التي قام عليها دينه القويم. ومن عجيب أثر الزهد في حياته أنه جعله يحيا مع الناس ببدنه، وأما قلبه وعقله ففي عالم الآخرة. ومن آثار الزهد في حياته أن الله تعالى ثبت الحكمة في قلبه، وأطلق بها لسانه وبصّره بعيوبه، ورَغِب في الباقيات الصالحات، وترك الشهوات الفانيات.
وحقيقة زهد عمر بن الخطاب إيجابية، فقد ترك كل شيء لا ينفع في الدار الآخرة، فلم يكن الزهد عنده يعني الانقطاع عن الدنيا بترك الأهل، والمال، والأولاد، فليس كل ذلك من الزهد في شيء، والإسلام منه براء.
ذلك؛ لأن الله تعالى أخبر عن رسله أنهم كانت لهم أزواج وذرية، والإنفاق على الأهل والأولاد من الواجبات الشرعية، التي يأثم المرء بتركها، فكيف يكون الواجب محلًا للزهد؟!
بل زهد عمر في الدعة والراحة، فاجتهد في جهاد الفرس والروم، حتى صار أهل الإسلام سادة الدنيا كلها، وانتشر الإسلام في ربوع المعمورة. وبالزهد في متاع الدنيا الزائل فاق الفاروق الصحب الكرام، وأحبه أهل الإسلام.
يقول طلحة بن عبيد الله: ما كان عمر بن الخطاب بأولنا إسلامًا، ولا أقدمنا هجرة، ولكنه كان أزهدنا في الدنيا، وأرغبنا في الآخرة.
ويقول سعد بن أبي وقاص: والله ما كان عمر بن الخطاب أقدمنا هجرة وقد عرفت بأي شيء فَضَلنا، كان أزهدنا في الدنيا.
لماذا زهد عمر بن الخطاب في الدنيا:
لقد فهم عمر من خلال معايشته للقرآن الكريم، ومصاحبته للنبي الأمين ومن تفكره في هذه الحياة بأن الدنيا دار اختبار وابتلاء، وعليه فإنها مزرعة للآخرة، ولذلك تحرر من سيطرة الدنيا بزخارفها، وزينتها، وبريقها، وخضع وانقاد وأسلم نفسه لربه ظاهرًا وباطنًا، وقد وصل إلى حقائق استقرت في قلبه ساعدته على الزهد في هذه الدنيا ومن هذه الحقائق:
[أ]- اليقين التام بأننا في هذه الدنيا أشبه بالغرباء، أو عابري سبيل: كما قال النبي : « » [1].
[ب]- وأن هذه الدنيا لا وزن لها ولا قيمة عند رب العزة إلا ما كان منها طاعة لله تبارك وتعالى.
ففي الترمذي بسنده عن سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : « ». وَفِي الْبَابِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وفي الترمذي بسنده عن أبي هريرة يقول: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَقُولُ: « ». قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.
[جـ]- أن عمرها قد قارب على الانتهاء: روى مسلم بسنده عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: « ».
[د]- أن الآخرة هي الباقية، وهي دار القرار، كما قال مؤمن آل فرعون: {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ . مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [طه:39-40].
كانت هذه الحقائق قد استقرت في قلب عمر، فترفَّع عن الدنيا وحطامها وزهد فيها.
بعض مواقف عمر بن الخطاب التي تدل على زهده في الدنيا :
فعن أبي الأشهب قال: مر عمر على مزبلة فاحتبس عندها، فكأن أصحابه تأذوا بها، فقال: هذه دنياكم التي تحرصون عليها، وتبكون عليها. ولا نستغرب هذا الموقف التربوي العملي فقد ربى على مثله رسول الله أصحابَه.
روى مسلم بسنده عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ مَرَّ بِالسُّوقِ دَاخِلًا مِنْ بَعْضِ الْعَالِيَةِ، وَالنَّاسُ كَنَفَتَهُ، فَمَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكَّ مَيِّتٍ، فَتَنَاوَلَهُ، فَأَخَذَ بِأُذُنِهِ، ثُمَّ قَالَ: « »، فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: « » قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ؛ لأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟ فَقَالَ: « ».
وعن سالم بن عبد الله: أن عمر بن الخطاب كان يقول: والله ما نعبأ بلَذَّات العيش أن نأمر بصغار المعزى أن تسمط لنا، ونأمر بلباب الخبز فيخبز لنا، ونأمر بالزبيب فينبذ لنا في الأسعان حتى إذا صار مثل عين اليعقوب، أكلنا هذا وشربنا هذا، ولكنا نريد أن نستبقى طيباتنا، لأنا سمعنا الله يقول: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20].
وعن أبي عمران الجوني قال: قال عمر بن الخطاب: لنحن أعلم بلين الطعام من كثير من آكيله، ولكنا ندعه لـ {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
وقد قال عمر: نظرت في هذا الأمر، فوجدت إن أردت الدنيا أضررت بالآخرة، وإن أردت الآخرة أضررت بالدنيا، فإذا كان الأمر هكذا، فأضرّ بالفانية.
وأبطأ على الناس يوم الجمعة، ثم خرج فاعتذر إليهم في تأخره، وقال: إنما حبسني غسل ثوبي هذا، كان يغسل ولم يكن لي ثوب غيره.
وعن عبد الله بن عامر بن ربيعة قال: خرجت مع عمر بن الخطاب حاجّا من المدينة إلى مكة، إلى أن رجعنا، فما ضرب له فسطاطا، ولا خباء، كان يلقي الكساء والنطع على الشجرة فيستظل تحته. هذا هو أمير المؤمنين الذي يسوس رعية من المشرق والمغرب يجلس على التراب وتحت رداء كأنه أدنى الرعية، أو من عامة الناس.
ودخلت عليه مرة حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها وقد رأت ما هو فيه من شدة العيش والزهد الظاهر عليه، فقالت: إن الله أكثر من الخير، وأوسع عليك من الرزق، فلو أكلت طعامًا أطيب من ذلك، ولبست ثيابًا ألين من ثوبك؟ قال: سأخصمك إلى نفسك، فذكر أمر رسول الله وما كان يلقى من شدة العيش، فلم يزل يذكرها ما كان فيه رسول الله، وكانت معه حتى أبكاها، ثم قال: إنه كان لي صاحبان سلكا طريقًا، فإن سلكت طريقًا غير طريقهما سلك بي غير طريقهما، إني والله سأصبر على عيشهما الشديد لعلي أن أدرك معهما عيشهما الرَّخِيّ.
ويبكي الفاروق خوفًا من وقوع العداوة والبغضاء بين المسلمين بسبب كثرة الأموال، والذهب والفضة من الغنائم والفيء في بيت المال. يقول إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف رحمه الله. لما أُتي عمر بن الخطاب بكنوز كسرى قال عبد الله بن الأرقم: ألا تجعلها في بيت المال حتى نقسمها؟ قال: لا والله، لا أظلها سقف بيت حتى أمضيها، فأمر بها فوضعت في صرح المسجد، وباتوا عليها يحرسونها، فلما أصبح أمر بها، فكشف عنها، فرأى ما فيها من البيضاء والحمراء ما كان يتلألأ منه البصر، فبكى عمر.
فقال له عبد الرحمن بن عوف: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ فو الله إن هذا ليوم شكر، ويوم فرح؟! فقال عمر: ويحك إن هذا لم يعطه قوم قط إلا ألقي بينهم العداوة والبغضاء.
قال معاوية: أما أبو بكر فلم يرد الدنيا ولم ترده، وأما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها.
زهد عمر بن الخطاب في المطعم:
فقد ضرب الفاروق فيه بسهم وافر، وقسط عظيم، حتى عرف بالزهد في المطعم. والزهد فى الطعام عند الفاروق لا يعنى تحريم الحلال، فهذا فعل الجهال، وإنما يعنى أن يكون طعامه متوسطًا، فلا يطلب مفقودًا، ولا يَرُدّ موجودًا.
يقول أبو بكرة الثقفي: أُتي عمر بن الخطاب بخبز وزيت فمسح على بطنه، وجعل يأكل، ويقول: على الخبز والزيت. بل كان من شدة زهده في الطعام، ينهى عن نخل الدقيق، وفي ذلك يقول يسار بن نمير رحمه الله: والله ما نخلت لعمر دقيق قط إلا وأنا له عاصٍ.
ويقول مولاه أسلم رحمه الله: رأى عمر إنسانًا ينخل الدقيق، فقال: أخلطه، إن السمراء لا تنخل.
وهذا الحرص من الفاروق على الزهد في المطعم إنما جاء بعد عظة مرت عليه في حياة النبي، وقد عاشها عمر بن الخطاب بنفسه.
يروى النعمان بن بشير يقول: قال عمر بن الخطاب رحمه الله، وذكر ما أصاب الناس من الدنيا: لقد رأيت رسول الله يَظَل اليوم يلتوي، ما عنده ما يملأ بطنه من الدَّقَل. وما هو الدقل؟ إنه نوع من التمر الرديء، فيطلق على سيء التمر، صغير الحب، قليل الحلاوة الدقل.
فعمر يرى أسوته وقدوته يعاني من شدة العيش، فكيف لا يحرص هو على الزهد في المطعم بعد ذلك؟!
فكان عمر يقول: إنه لا أجده يحل لي لحل مالكم إلا عما كنت آكلًا من صلب مالي: الخبز والزيت، والخبز والسمن.
ويحكى عتبة بن فرقد فيقول: قدمت على عمر بسلال خبيص عظام.. فقال: ما هذه؟ فقلت: طعام أتيتك به، لأنك رجل تقضي من حاجات الناس أول النهار، فأحببت إذا رجعت أن ترجع إلى طعام فتصيب منه فقواك، فكشفت عن سلة منها، فقال: عزمت عليك يا عتبة، إذا رجعت إلا رزقت كل رجل من المسلمين مثل السلة.
فقلت: والذي يصلحك يا أمير المؤمنين، لو أنفقت مال قيصر كله، وما وسع ذلك، إن النفقة تكثر!
قال عمر: فلا حاجة لي فيه فيما لا يسع العامة، ثم دعا بقصعة من ثريد، خبزًا خشنًا، ولحمًا غليظًا. وهو يأكل معي أكلاً شهيًا، فجعلت أهوى إلى البضعة البيضاء أحسبها سنامًا، فإذا هي عصبة، والبضعة من اللحم أمضغها، فلا أسيغها، فإذا هو غفل عنى جعلتها بين الخوان والقصعة، ثم دعا بعُسٍّ من نبيذ، قد كاد يكون خلًّا، فقال: اشرب، فأخذته، وما أكاد أن أسيغه، ثم أخذه، فشرب، ثم قال: أتسمع يا عتبة، إنا ننحر كل يوم جزورًا فأما ودكها وأطيابها فلمن حضرنا من المسلمين، وأما عنقها فلآل عمر، يأكل هذا اللحم الغليظ، ويشرب هذا النبيذ.
وما أروعه في عام الرمادة وهو يشارك الناس المحنة زاهدًا في مطعمه يروى أسلم مولاه رحمه الله فيقول: أصاب الناس عام سنة، فغلا فيها السمن، وكان عمر يأكله، فلما قل، قال: لا آكله حتى يأكله الناس. فكان يأكل الزيت فقال: يا أسلم، اكسر عني حره بالنار، فكنت أطبخه له فيأكله فيتقرقر بطنه عنه فيقول: تقرقر، لا والله لا تأكله حتى يأكله الناس.
أي روعة تلك؟! أمير المؤمنين وحاكم المسلمين، طعامه الخبز والزيت!!
يقول أنس بن مالك: تقرقر بطن عمر بن الخطاب، وكان يأكل الزيت عام الرمادة، وكان حرم عليه السمن، فنقر بطنه بإصبعه، وقال: تقرقر تقرقرك، إنه ليس لك عندنا غيره حتى يحيا الناس. هذا هو الفاروق، هذا هو ابن الخطاب الذي يحكم ديار الإسلام من مشرقها إلى مغربها. أخذ نفسه وأهله بحال من التقشف، وخشونة العيش حتى ساوى نفسه بفقراء ومساكين المسلمين، وهو أمير المؤمنين. ولم تدعه نفسه إلى لذيذ العيش، ونعيم الدنيا، واهتم كثيرًا برفع المعاناة عن الرعية ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
يقول حفص بن أبي العاص: كان عمر يغدينا بالخبز والزيت، والخل، والخبز واللبن والخبز والقديد، وأول ذلك اللحم الغريض، يأكل وكنا نعذر. وكان يقول: لا تنخلوا الدقيق فكله طعام، وكان يقول: ما لكم لا تأكلون؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إنا نرجع إلى طعام ألين من طعامك. فقال: يا ابن أبى العاص، أما تراني عالمًا أن أرجع إلى دقيق ينخل في خرقة فيخرج كأنه كذا وكذا؟! أما تراني عالمًا أن أعمد إلى عناق سمينة، نلقى عنها شعرها، فتخرج كأنها كذا وكذا؟! أما تراني عالمًا أن أرجع إلى صاع أو صاعين من زبيب فأجعله في سقاء وأصب عليه من الماء، فيصبح كأنه دم الغزال؟!
قال قلت: أحسن ما يبعث العيش يا أمير المؤمنين. قال: أجل، والله لولا مخافة أن ينقص من حسناتي يوم القيامة لشاركتكم في لين عيشكم، ولكني سمعت الله ذكر قومًا، فقال: {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف:20].
مشاهد من زهد عمر بن الخطاب:
يقص علينا الربيع بن زياد الحارثي طرفًا من زهد عمر فيقول: إنه وفد على عمر بن الخطاب، فأعجبه هيئته- يعني هيئة الربيع- فشكا عمر وجعًا به من طعام غليظ يأكله، فقال له: يا أمير المؤمنين، إن أحق الناس بمطعم طيب، وملبس لين، ومركب وطيء لأنت. وكان عمر متكئًا وبيده جريدة نخل فاستوى جالسًا، فضرب به رأس الربيع بن زياد، وقال له: والله ما أردت بهذا إلا مقاربتي وإن كنت لأحسب فيك خيرًا، ألا أخبرك بمثلي ومثل هؤلاء؛ إنما مثلنا كمثل قوم سافروا، فدفعوا نفقتهم إلى رجل منهم، فقالوا: أنفق علينا، فهل له أن يستأثر عليهم بشيء؟ قال: لا.
ويسعى عمر جاهدًا في أن تكون أسرته، كحاله تمامًا، فيروى ابنه عبد الله يقول دخل عليّ عمر، وأنا على مائدة، فأوسعت له عن صدر المجلس، فقال: بسم الله، ثم ضرب بيده فلقم لقمة، ثم ثَنّى بأخرى، ثم قال: إني لأجد طعم دسم ما هو بدسم لحم.
فقال عبد الله: يا أمير المؤمنين، إني خرجت إلى السوق أطلب السمين لأشتريه فوجدته غاليًا، فاشتريت بدرهم من المهزول، وحملت عليه بدرهم سمنًا، وأردت أن يزاد عيالي عظمًا عظمًا.
فقال عمر: ما اجتمعا عند رسول الله إلا أكل أحدهما، وتصدق بالآخر. فقال عبد الله: عد يا أمير المؤمنين، فلن يجتمعا عندي أبدًا إلا فعلت ذلك. قال: ما كنت لأفعل. فينكر عمر على ابنه أن يجتمع عنده لونين من الدسم على مائدة، ويدعوه إلى التآسي بالنبي، والتصدق بأحدهما. فما أروع هذا الحاكم الذي يدعوه زهده إلى الشفقة والرحمة برعيته.
فأين الآن ذلك الحاكم؟! وأين ذلك الإمام الذي يتفانى في مصلحة رعيته؟!
لقد كان عمر يحب رعيته حبًّا جمًّا، ويحب ما يصلحها، ويكره ما يفسدها، ولا يرى لنفسه من الحقوق إلا كما لأدناهم. وأما زهده في الملبس فلا يختلف عن زهده في المطعم، فهو لا ينشغل بالثياب ولا يبالى أي الثياب ارتدى مع كونه أمير المؤمنين.
يقول أنس بن مالك: لقد رأيت بين كتفي عمر بن الخطاب أربع رقاع مُلبدة بعضها على بعض في قميص له، وهو يومئذ أمير المؤمنين. ويقول أبو عثمان النهدي رحمه الله: رأيت عمر بن الخطاب، يرمي الجمرة وعليه إزار مرقوع. من زهده أنه ما ضرب له في مسيره فسطاط، ولا خباء.
فهذا عبد الله بن عامر بن ربيعة رحمه الله يقول: خرجت مع عمر بن الخطاب حاجًّا من المدينة إلى مكة إلى أن رجعنا، فما ضرب فسطاط ولا خباء حتى رجع، وكان إذا نزل يُلقى له كساء، أو نطع على الشجرة، ويستظل تحته. فوطاؤه إذا ركب، هو فراشه إذا نزل.
ومن زهده في المركوب أنه كان لا يحب إلا ركوب ما اعتاد عليه العرب من الدواب، وإن كان غيره أسرع.
يروي أسلم مولى عمر رحمه الله فيقول: لما قدمنا على الشام أناخ بعيره وذهب لحاجته، فألقيت فروتي بين شعبتي الرحل، فلما جاء ركب على الفرو، فلقينا أهل الشام يتلقون عمر فجعلوا ينظرون، فجعلت أشير لهم إليه. قال عمر: تطمح أعينهم إلى مراكب من لا خلاق له. يريد مراكب العجم.
ويقول قيس بن أبي حازم رحمه الله: لما قدم عمر الشام استقبله الناس وهو على بعيره، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو ركبت برذونًا يلقاك عظماء الناس ووجوههم. قال: فقال عمر: ألا أراكم هاهنا، إنما الأمر من هاهنا -وأشار بيده إلى السماء- خلوا سبيل جملي.
ويروي طارق بن شهاب رحمه الله فيقول: لما قدم عمر الشام أتته الجنود، وعليها إزار وخفان وعمامة، وهو آخذ برأس بعيره يخوض الماء، فقالوا له: يا أمير المؤمنين، تلقاك الجنود وبطارقة الشام، وأنت على هذا الحال؟!!
فقال عمر: إنا قوم أعزنا الله بالإسلام، فلن نلتمس العز بغيره.
وهكذا يعلمنا الفاروق أن الزهد في الدنيا ليس المراد به إخراجها من اليد بالكلية، وقعود العبد صفرًا منها. وإنما المراد إخراجها من القلب بالكلية، فلا يلتفت العبد إليها، ولا يدعها تساكن قلبه، وإن كانت في يده. فقد كانت الأموال تأتي إلى بيت المال في خلافة الفاروق، وتصب صبًّا، ولا يستطيع المرء لها عدًّا، ومع ذلك لم يأخذ بريقها بأبصار الفاروق . فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك، وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تخرجها من قلبك، وهي في يدك.
ومن ثَمَّ نعرف أنه ليس بالضروري أن يكون الزاهد فقيرًا، أو مسكينًا، بل قد يكون غنيًّا وصاحب جاه وسلطان؛ لأنه لا منافاة بين كون العبد يملك الشيء في يده، ومع ذلك يزهد فيه.
وما أروع خطاب المولى لعباده المؤمنين: {وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ المُفْسِدِينَ} [القصص:77].
لقد بُسطت الدنيا بين يدي عمر وتحت قدميه، وفتحت بلاد الدنيا في عهده، وأقبلت إليه الدنيا راغمة، فما طرف لها بعين، ولا اهتز لها قلبه، بل كان كل سعادته في إعزاز دين الله، وخَضْدِ شوكة المشركين، فكان الزهد صفة بارزة في شخصية الفاروق.
تفضيل أسامة بن زيد على عبد الله بن عمر في العطاء:
كان عمر يقسم المال ويفضل بين الناس على السابقة والنسب ففرض لأسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرض لعبد الله بن عمر ثلاثة آلاف، فقال: يا أبت فرضت لأسامة بن زيد أربعة آلاف، وفرضت لي ثلاثة آلاف؟ فما كان لأبيه من الفضل ما لم يكن لك، وما كان له من الفضل ما لم يكن لي. فقال عمر: إن أباه كان أحب إلى رسول الله من أبيك، وهو كان أحب إلى رسول الله منك.
أم سليط أحق به:
عن ثعلبة بن أبى مالك أنه قال: إن عمر بن الخطاب قسم مروطًا بين نساء أهل المدينة، فبقي منها مرط جيد فقال له بعض من عنده: يا أمير المؤمنين، أعط هذا بنت رسول الله التي عندك -يريدون أم كلثوم بنت علي- فقال عمر: أم سليط أحق به. وأم سليط من نساء الأنصار ممن بايع رسول الله، قال عمر: فإنها كانت تَزْفِر لنا القِرَب يوم أحد.
هذه بعض المواقف التي تدل على ترفع عمر عن الأموال العامة ومنع أقربائه وأهله من الاستفادة من سلطانه ومكانته، ولو أن عمر أرخى العنان لنفسه أو لأهل بيته لرتعوا ولرتع من بعدهم، وكان مال الله تعالى حبسًا على أولياء الأمور. وكان يزهد في الإمارة لأولاده وها هو يقول: أعياني أهل الكوفة، إن استعملت عليهم لينًا استضعفوه، وإن استعملت عليهم شديدًا شكوه، ولوددت أني وجدت قويًا أمينًا مسلمًا استعمله عليهم.
فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أنا والله أدلك على رجل قوي أمين، فأثنى عليه قال: من هو؟ قال: عبد الله بن عمر. قال عمر: قاتلك الله، والله ما أردت اللهَ بها.
ومن القواعد الطبيعية المؤيدة بالمشاهد أن الحاكم إذا امتدت يده إلى مال الدولة اتسع الفتق على الراتق، واختل بيت المال أو مالية الحكومة، وسرى الخلل إلى جميع فروع المصالح، وجهر المسر بالخيانة، وانحل النظام، ومن المعلوم أن الإنسان إذا كان ذا قناعة وعفة عن مال الناس زاهدا في حقوقهم دعاهم ذلك إلى محبته والرغبة فيه، وإذا كان حاكمًا حدبوا عليه وأخلصوا في طاعته وكان أكرم عليهم من أنفسهم.
ومن خلال حياته مع أسرته وأقربائه يظهر لنا معلم من معالم الفاروق في ممارسة منصب الخلافة وهى القدوة الحسنة في حياته الخاصة والعامة، حتى قال في حقه علي بن أبى طالب: عففت فعفت رعيتك، ولو رتعت لرتعوا. وكان لالتزامه بما يدعو إليه، ومحاسبته نفسه وأهل بيته أكثر مما يحاسب به ولاته وعماله الأثر الكبير في زيادة هيبته في النفوس وتصديق الخاصة والعامة له.
هذا هو عمر الخليفة الراشد الذي بلغ الذروة في القدوة، رباه الإسلام فملأ الإيمان بالله شغاف قلبه، إنه الإيمان العميق، الذي صنع منه قدوة للأجيال، ويبقى الإيمان بالله والتربية على تعاليم هذا الدين سببًا عظيمًا في جعل الحاكم قدوة لكل الرعية، ومثالًا يُحتذى للجميع.
____________________
[1]- البخاري: كتاب الرقاق- باب قول النبي كن في.. - [رقم5937].