‫لبنة في بناء‬

منذ 2015-04-08

المتجرد ليست قضيته أن يظل الأتباع عالقين به لا يتحركون إلا بأمره، ولا يرون في الكون غيره فلا يتمحورون إلا حوله، ولا يدورون إلا في فلكه، وإنما يعنيه أن تكون لديهم القدرة على العمل والحركة والتغيير والبناء، به أو بدونه.. فهو في النهاية مجرد لبنة.

«مثلي في النَّبيِّينَ كمثلِ رجلٍ بنى دارًا فأحسنَها وأَكملَها وأجملَها وترَكَ منْها موضعَ لَبِنةٍ، فجعلَ النَّاسُ يطوفونَ بالبناءِ ويعجبونَ منْه، ويقولونَ: لو تمَّ موضعُ تلكَ اللَّبنةِ، وأنا في النَّبيِّينَ موضعُ تلكَ اللَّبنةِ» (صحيح الترمذي:3613)، هكذا وصف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه، وبين حاله ومكانه بالنسبة لباقي إخوانه الأنبياء عليهم جميعًا أزكى الصلوات والتسليمات، لبنة.. جزء من بناء متكامل تتم حسنه وتكمل قوامه، لكنها لا تقوم وحدها بدون باقي البناء ولا يتم البناء بدونها..

هذا الحديث رغم ما فيه من التواضع المبهر، والذي هو ليس بجديد على نبينا صلوات الله وسلامه عليه إلا أن النقطة التي أود التركيز عليها في هذه السطور هي تلك القيمة التي أبرزها النبي من خلال هذا الحديث وغيره.. قيمة التكامل والتضافر والتعاضد.

أن يدرك المرء أن عليه أحيانًا أن يكون لبنة ليتم البناء، أن يكون جزءًا يعضد قيام الأعمال، أن هنالك أشياء لا تنهض إلا بالشراكة والتعاون، وأن الحياة لا تقوم عليه وحده..

{هَارُونَ أَخِي . اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي . وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} [طه:30-32]، {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي} [القصص من الآية:34]. هكذا صرح نبي الله موسى عليه السلام بأن علة مطلبه بإشراك أخيه هارون في أمره وإرساله معه ردءا أنه أفصح منه لسانًا، وأيضًا بخلاف تواضع سيدنا موسى وتجرده المبهر.. فإن في هذا المشهد إشارات وضيئة أعتقد أن من أهمها: حرص موسى على تمام الأمر، وتفانيه وصدق رغبته في بلوغ الرسالة إلى القلوب والعقول والأفهام، به أو بغيره..

من هنا آثر أن يتقدم الأكفأ والأقدر على البيان والتبليغ بجميل اللفظ وواضح المعنى وفصيح اللسان،
لذا قالها وبتجرده الرائع أصل تلك القيمة العظمى، قيمة الشراكة والمؤازرة والتكامل والتعزيز.. تلك الكلمة التي قالها الله في سورة (يس) يصف حال الرسولين الذين أرسلهم إلى قرية، فلما كذبوهما عزز الله بثالث
{إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ} [يس:13].

تأمل مرة أخرى اللفظ القرآني: {فَعَزَّزْنَا}.
لم ينقص من قدر هذا الرسول الثالث أن يوصف بأنه ضمن تعزيزات، ولم يمنع وجود تلك التعزيزات أن يأتي في الآية التي تليها رجل من أقصى المدينة يسعى لا لشيء إلا لمزيد من الإعانة والتعزيز للرسل الثلاثة، ذلك لأنه كان يدرك تلك القيمة ويعلم معنى التكامل والتعزيز.

المعنى الذي أدركه سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه حين عزله الفاروق عمر رضي الله عنه عن قيادة جيش فتح الشام، فحاول المنافقون بث الضغينة في قلبه وإثنائه عن إكمال القتال كمجرد جندي ضمن الجنود، فما كان منه إلا أن زاد في تفانيه قائلاً: "إنما أفتح الشام لله لا لعمر بن الخطاب".

لقد فهم مغزى حديث رسول الله عن ذلك الرجل المتجرد الذي يستوي عنده الأمر في كل الحالات، وتهون في نظره قيمة المناصب والمقامات، فإذا كان في الساقة كان في الساقة، وإذا كان في الحراسة كان في الحراسة، لا فارق عنده فهو في النهاية جزء من الكيان الأعظم الذي تتضافر الجهود لرفعته، سواء كان هو في المقدمة أو ضمن عوام الناس، المهم أن يتم الأمر ويكتمل العون..

وفي سورة الكهف لما طُلب من ذي القرنين أن يجعل سدًّا بين القوم وبين أعدائهم لم يسارع للتنفيذ، رغم قدرته على ذلك وهو الذي أوتي من كل شيء سببًا، لقد قال لهم وهو المُمَكَّن القوى: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف من الآية:95].

فأعينوني.. وهل يحتاج من أوتي من كل شيء سببًا لعون؟!
إنها القيمة التي أتحدث عنها.. لقد أشركهم معه وغرس فيهم قيمة العمل والبذل.
ثم هو لم يكتف بذلك، وما زال بهم حتى علمهم صناعة سبيكة الحديد والنحاس، وأطلعهم على سر بناء السد المتين، الذي يصمد ويقوى على حجز قوم يأجوج ومأجوج.. يمكنك أن تقول إنه لم يعطهم سمكًا، ولكنه علمهم كيف يصطادونه بأنفسهم.

وكذلك المتجرد ليست قضيته أن يظل الأتباع عالقين به لا يتحركون إلا بأمره، ولا يرون في الكون غيره فلا يتمحورون إلا حوله، ولا يدورون إلا في فلكه، وإنما يعنيه أن تكون لديهم القدرة على العمل والحركة والتغيير والبناء.. به أو بدونه.. فهو في النهاية مجرد لبنة.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 3,404

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً