لماذا أنا موجود؟
وجوابُ هذا السؤال يمثل الحافزَ الحقيقي للفرد، الحافز الذي سيدفعه لوضعِ أهدافه، وبناءِ ذاته وَفْقَها، وتحديد طريقه في الحياة، ثم يضعُ بعد ذلك الخطط اللازمة لتحقيق تلك الأهداف، ثم ينفذ هذه الخططَ بحزم وجدٍّ ومثابرة.
هذا سؤال منطقي وواقعي، لا بد لكل إنسان أن يسألَه لنفسه: لماذا أنا موجود؟
وما هو السرُّ والحكمة في ذلك؟
وجوابُ هذا السؤال يمثل الحافزَ الحقيقي للفرد، الحافز الذي سيدفعه لوضعِ أهدافه، وبناءِ ذاته وَفْقَها، وتحديد طريقه في الحياة، ثم يضعُ بعد ذلك الخطط اللازمة لتحقيق تلك الأهداف، ثم ينفذ هذه الخططَ بحزم وجدٍّ ومثابرة.
ومن الواجب أن يعرفَ الجميعُ جوابَ هذا السؤال المهم، وهو:
أنا موجودٌ من أجل وظيفتين:
أولهما: أن أعبدَ الله - جل جلاله-.
والأخرى: أني خليفةٌ في الأرض، وقد وضَعني إلهي وربي الذي خلَقني وكرَّمني وفضَّلني بوظيفة الخليفة في الأرض، وأنا أتعبَّده - جل جلاله - بهذه الوظيفة، يقول الله -سبحانه وتعالى-: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة: 30].
ويقعُ على عاتقي ما يقع على الخليفة من مهامَّ، وإنها "الخلافة" هي جزءٌ من منظومة العبادة التي خلَقني الله -جل جلاله- من أجلها؛ حيث يقول الله -عز وجل-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
إنَّ المهمة إذًا كبيرة جدًّا، وتحتاج إزاء ذلك إلى تفكير راقٍ، وبمستوًى عالٍ، وعمل دؤوب، وعزيمة لا تلينُ، كما يحتاج المرءُ إلى أن يحدِّد أهدافًا راقية، لا تتعلق بشخصه فحسب، ولكن بأبناء جنسه، وبكلِّ من حوله، حتى المخلوقات الأخرى، حيةً كانت أم غير حية، وهذا هو جزءٌ من دوره، ووجود الفرد كخليفةٍ يقتضي أن تكون له رسالةٌ راقية يوصلها للناس.
و(الرسالةُ تُعنَى بفلسفة الفرد في حياته، وهي بلورة للغايةِ التي يعيش من أجلها، والأولويات العليا التي يريد تحقيقَها؛ لذلك مثل الرسالة كمثل البوصلة التي توجِّه مسيرةَ الفرد بالاتجاه الصحيح، ولا عبرة للاهتمام بالوقت، وحُسن إدارته، والمحافظة عليه، ما لم يكن هناك غايةٌ يُغتنم الوقتُ لتحقيقها؛ لذلك نرى أن الذين يحيَوْنَ لغير رسالة هم أضيعُ الناس لعمرهم)[1].
وأي غاية أسمى وأعظم من الوصول لرضا الله - جل جلاله - وتحقيق ما يأمُرُ به، وتنفيذ ما أنزله مِن أجلنا؟ فهذه أسمى الغايات، وأرفعُ المطالب؛ فالفرد حين تكونُ هذه غايتَه ستوجِّه كلَّ أفعاله بوصلةٌ واحدة لا غير، هي أوامرُ ونواهي الله - جل جلاله.
كيف تكون مواصفاتي؟
لَمَّا كنتُ أنا الخليفة الذي سيقوم ببناء الأرض وإعمارها، واستثمار مواردها، وإدارة شؤونها، كان لا بد أن أتمتَّعَ بمجموعة من المزايا والمواصفات التي تؤهِّلني لأداء تلك المهمة الكبيرة، فإن توفرت هذه المواصفات، فسأحافظ عليها، وأُنمِّيها وأُغذِّيها، وإن غابت عني، فإني سأسعى لاكتسابِها وممارستها وتطويرها.
ومن هذه المواصفات:
1- الإيمان المطلق بالله -سبحانه وتعالى-:
والإيمان جزء لا يتجزَّأ عن روح وعقل وجسد الإنسان العاقل؛ فالإيمان هو المغذي الحقيقي، والدافعُ الذاتي، والمحفِّز الدائم للفرد للقيام بواجباته على نحوٍ صحيح وإيجابي في هذه الحياة، والإيمانُ المطلوب هو إيمان اليقين، النابع من القلب، والساكن شغافه، والذي يترجم أعمالاً رائعة، وليس إيمان الادِّعاء والقول.
لقد سَألَ يومًا محمدُ ابن الحنفية - رحمه الله - والدَه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: قال: قلت لأبي: أيُّ الناس خيرٌ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: "أبو بكر"[2].
ولم تأتِ هنا أفضلية وخيرية أبي بكر الصِّديق - رضي الله عنه - على الآخَرين عند عليِّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - مثلما هو عند الناس كافة إلا مِن حَجْم وقدرِ وصِدق إيمانه - رضي الله عنه - ويفسِّر لنا عمرُ بن الخطاب - رضي الله عنه - العلة التي دعت عليَّ بن أبي طالب - رضي الله عنه - لوضع أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - بهذه المكانة، فيقول عمر - رضي الله عنه -: "لو وُزِنَ إيمانُ أبي بكرٍ بإيمان أهل الأرض، لرجَح بهم، ليتني شعرة في صدر أبي بكر"[3].
إنَّ الإيمان هو الضمانةُ والحصانة للفرد أثناء مسيرته في هذه الدنيا؛ فهو يُعيده حين ينحرف، ويذكِّره حين ينسى، ويصحِّح له حين يخطئُ، ويبعث في نفسه التفاؤل حين ييئسُ، وهو الأمل عند الحرج، واليقين عند التردد، والمَنَعَة عند الضعف، والفرَجُ عند الضيق؛ فهو في حقيقته النورُ الساطع الذي يهدي الفردَ لطريقه.
يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((مثلُ المؤمنِ ومثل الإيمان كمثل الفرسِ في آخيتِهِ[4]، يجول ثم يرجع إلى آخيته، وإنَّ المؤمنَ يسهو ثم يرجع إلى الإيمان، فأطعِموا طعامكم الأتقياءَ، وولوا معروفَكم المؤمنين))[5].
ويقول أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -: "الإيمانُ يبدو نقطة بيضاءَ في القلب، كلما ازداد الإيمانُ، ازداد ذلك البياضُ، فإذا استكمل الإيمان، ابيضَّ القلبُ كله، وإن النفاق ليبدو نقطة سوداءَ في القلب، كلما ازداد النفاقُ، ازداد السواد، فإذا استكمل النفاق، اسودَّ القلب كلُّه"[6]، يقول الشاعر:
والمرءُ مَن رَفعتْ له أعمالهُ *** قدرًا على النظراءِ والأقرانِ
فله السَّجايا الغرُّ والأدبُ الذي *** يَزدانُ بالإغراقِ في الإيمانِ
ومن مقوماتِ الإيمان: حُسنُ التوكلِ على الله - جل جلاله - فإذا استطاع الفردُ أن يُحسِنَ توكله على الله - جل جلاله - فإنه يضَعُ نفسَه تحت تصرُّف الله - جل جلاله - وإن الله - جل جلاله - سيكفيه الحاجةَ من الآخرين، ومن الوجوه كافة؛ يقول الله - جل في علاه -: (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) [الطلاق: 3]، ومعنى: (فَهُوَ حَسْبُهُ): أي: كافيه.
ويقول وهب بن منبه -رحمه الله-: "الإيمانُ قائد، والعمل سائق، والنفسُ حَرونٌ بينهما، فإذا قاد القائدُ، ولم يسُقِ السائقُ، لم يُغْنِ ذلك شيئًا، وإذا ساق السائقُ تبِعها النفس طوعًا أو كرهًا"[7].
2- قويٌّ في الحق، وواثقٌ من نفسي ومقدام:
الحقُّ من أجمل الأشياء في هذه الدنيا؛ ولهذا سمَّى الله - جل جلاله - نفسه "الحق"، وسَمَّى ما أنزل لنا - جل جلاله - من لدنه على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - حقًّا، وهو القرآن الكريم، وجعله الفارقَ بين الصواب والخطأ، وبين الحقيقة والوهم، إلا أنه مُرٌّ على الناس، وإنَّ قول الحق من أهمِّ الواجبات، يقول الصحابي أبو ذرٍّ الغفاريُّ - رضي الله عنه -: "....وأوصاني - صلى الله عليه وسلم - أنْ أقولَ الحقَّ وإنْ كان مُرًّا"[8].
وقد يخسر الفردُ بعضَ مَن حوله من جراء ذلك، فعليه أن يكون رفيقًا في قول الحق، جميلاً به، وحين لا يقدِّر الآخرون قول الحق ولا يَقبَلونه، فلا بأسَ عند ذلك في أن نخسرَهم من غيرِ أسفٍ عليهم؛ لأن الحقَّ أَوْلى أن يُتَّبع، ولا يَتبَعُ الحقُّ رغباتِ عامةِ الناس وأهواءَهم؛ يقول أحد الصالحين: " ما أبقى لنا الحقُّ مِن صاحبٍ "، ويقول الشاعر:
كفى بالَّذي يَلوي عَنِ الحقِّ أنَّهُ *** تَعَامَى فَلَمَّا أنْ رأى رُشْدَهُ عَمِي
أقولُ وقولُ الحقِّ يَطرُقُ خَاطِرِي *** إذًا وَلِسَانُ الصِّدق ينطِقُ في فمِي
3- ذو عقلية ناضجة وابتكارية:
وصاحب العقلية الناضجة هو الذي يُحكِّم عقلَه وليس عاطفته في الحُكم على الأمور، وفي اتخاذ قراراته، فتجده واقعيًّا لا تجنح به أحلامه وطموحاته خارج الإمكانات المتوفرة، ويستمع للنصائح المقدَّمة من الآخرين، بل ويطلبها، يبتغي الحكمة ولا ينظُر من أين جاءت، هي مبتغاه فحسب، لقد وصَف الله - جل جلاله - من لا يستخدمون عقولهم بالطريقة المطلوبة بالدوابِّ الضالة، بل هم عند الله - جل جلاله - مِن شرِّ الدواب بقوله - جل جلاله -: ( إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ) [الأنفال: 22]، وللبحث عن خصال العاقل وصِفَتِهِ، وعن خصالِ الجاهل وصفته، فإننا نجدُها في كلام أحد الحكماء الذي يقول:
"صفة العاقل:
• أن يحلُمَ عمن جهِل عليه.
• ويتجاوز عمن ظلَمه.
• ويتواضع لمن هو دونه.
• ويسابق من هو فوقه في طلب البِرِّ.
• وإذا أراد أن يتكلَّم، فكَّر؛ فإذا كان خيرًا، تكلَّم فغَنِم.
• وإن كان شرًّا، سكَت فسلِم.
• وإذا عرَضت له فتنةٌ، استعصَم باللهِ، فأمسَك يدَه ولسانه.
• وإذا رأى فضيلةً، انتهزها.
• لا يفارقُه الحياء.
• ولا يَبدُوَنَّ منه الحرص، فتلك عشرُ خصالٍ، يُعرَف بها العاقل.
وصفة الجاهل:
• أن يظلِمَ مَن يخالطُه.
• ويعتدي على مَن هو دونه.
• ويتطاول على مَن هو فوقه.
• كلامُه بغير تدبُّر؛ فإن تكلَّم، أثِم، وإن سكَت، سها.
• وإن عرَضت له فتنةٌ، سارَع إليها فأَرْدَتْه.
• وإن رأى فضيلةً، أعرَض عنها، وأبطأ عنها.
• لا يُخفي ذنوبَه القديمة.
• ولا يرتدعُ فيما يبقى مِن عمره عن الذُّنوب.
• مُتَوَانٍ عن البِرِّ.
• متبطِّئٌ عنه، غير مكترث لِما فاته من ذلك، أو ضيَّعه، فتلك عشرُ خِصالٍ من صفة الجاهل الذي حُرِم العقل".
4- متميز في التعامل مع الأزمات:
والأزمات تحديدًا لا يصمُد أمامها ضعيفُ الهمَّة؛ لذلك فإنَّ مَن يمتلك نَفَسًا طويلاً في الصبر على الأزمات هو المتميزُ فيها؛ لأن غيرَه تغلِبُ عليه العاطفة، فيبتعد عن الحقِّ، ويسيطر عليه الخوفُ.
عن أم المؤمنين عائشةَ بنت أبي بكر - رضي الله عنهما - قالت: "لما كان يوم أُحُدٍ هُزم المشركون، فصاح إبليس: أيْ عبادَ الله، أخراكم، فرجَعت أولاهم فاجتلدت هي وأخراهم، فنظَر حذيفة فإذا هو بأبيه اليمانِ، فقال: أيْ عباد الله، أبي أبي، فوالله ما احتجزوا حتى قتلوه، فقال حذيفةُ: غفَر الله لكم، قال عروة: فما زالت في حذيفةَ منه بقيةُ خيرٍ حتى لحِق بالله"[9].
لقد كان حذيفةُ بن اليَمَان - رضي الله عنهما - تحت أزمة شديدة؛ فأصدقاؤه يقتُلون أباه خطأً، ولكنه تصرَّف تصرُّف العاقل المتَّزن في أزمة شديدة، فلم يَنْهَرْ أمام المشهد المؤلم الذي حدَث (عن غير قصد)، ولم يقُل لهم أكثرَ مِن: غفَر اللهُ لكم.
والفرد المتميز في الأزمات هو القادرُ على إنتاج الأفكار الجديدة بما يناسب الحالَ، وبفترة زمنية مناسبة، ويلعب عاملُ السرعة دورًا مهمًّا في القضية، ففي الأزمات لن يكونَ من المُجدي فقط أن تجدَ حلاًّ، ولكن ينبغي أن يُقدَّم الحلُ على وجه السرعة، وبفترة زمنية قياسية.
5- مؤمن بالعمل مع فريق:
"إن التعامل مع الآخرين في فريقِ عملٍ واحد لا يعني إطلاقًا تقديمَ تنازلات أو تضحيات أو تحمُّل أعباء بشكل منفردٍ دون الآخرين، بحيث تنقص من اعتداد الشخص بنفسه، وتقلِّل من شأنه، بل توزَّع كلُّ هذه على الجميع، كلٌّ حسَب مكانته في الفريق، فكلما كانت المكانةُ رفيعة، كانت حصتُها من التنازلات والتضحيات أكبرَ، وبذلك يكون قائدُ الفريق أولَ وأكثَر المضحِّين، كما أنه ليس المطلوب أن يقدِّمَ كلُّ عضوٍ في الفريق ما عليه فحسب، ولكن المطلوب التفاعل البنَّاء والتعاون والتكامل مع الآخرين بصورة أكثرَ فاعلية"[10].
كما أنَّ المطلوب هو التعاونُ الحقيقي، وليس الشكليَّ بين أعضاء الفريق، وهو أمرٌ في غاية الأهمية، وفريقُ العمل يقومُ على مجموعة من العناصر التي تمثِّل الأسسَ المتينة في بنائه، وهذه العناصرُ ترتبط فيما بينها ارتباطًا وثيقًا، والمفروض أن يكون هذا الارتباطُ إيجابيًّا وليس سلبيًّا؛ فالارتباط الإيجابي من شأنه تحقيقُ تقدُّم ونجاح في نتائج العمل، وبالعكس، وكلُّ عنصر من عناصر الفريق على حدة له مميزاته وخصوصياته التي تعطي للعناصر الأخرى خارطةَ طريقٍ للتعامل معه.
6- مراقبٌ ومُتابع لنفسي:
والمراقبة الشخصية الذاتية من أصعبِ المهام في مسيرة بناء الذات للفرد؛ فالإنسان في طبيعته متعصِّب لرؤيته، منتصر لمعتقده، معتدٌّ بنفسه، وهي أحبُّ ما في الكون عنده، يرى دائمًا أنها على حق، وغيرها على غير ذلك؛ لذلك ومن هذا المنطق كانت العمليةُ شاقةً وصعبة.
وبغير المراقبة والمتابعة يفقد المرءُ زمام نفسه، فتجنَح النفسُ مع هواها، فتكون في أخطرِ المراحل؛ ولهذا فإن اللهَ - جل جلاله - يُحذِّر أنبياءَه من الهوى لخطورته، فهو يقول - جل جلاله -: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) [ص: 26].
وأهمُّ ما في هذا الباب: أن يراقب الفردُ نفسه كأنه إنسان آخر، فينظر إلى عيوبها، وتقصيرها، وقلة إدراكها للأمور، وأخطائها في قراراتها، ولا يفعل شيئًا - مهما كان صغيرًا - وهو يعيبهُ على الآخرين، وهنا لا بد من أن (ينتصر الفردُ بداخله) على هذه الأمورِ، وإلا فسيهزم، وفي عملية المراقبة لا بد من استحضار الإدانة للنفس عند الخطأ، وليس إيجاد التبريرات للأخطاء، أو التقصير بشكل دائم.
يقول أحدُ الحكماء في هذا الباب: "لا يكون الرجلُ تقيًّا حتى يحاسب نفسَه أشدَّ من محاسبة الرجل شريكه، حتى ينظُر مِن أين مطعمُه، ومشرَبُه، ومكسبه".
ويقول الإمام الشافعي:
إذا رُمتَ أن تَحيا سَليمًا مِنَ الرَّدى *** ودِينُكَ مَوفورٌ وعِرضُكَ صَيِّنُ
فَلا يَنطِقَنْ مِنكَ اللِّسانُ بِسَوْءَةٍ *** فَكُلُّكَ سَوءاتٌ ولِلناسِ أَلسُنُ
وَعَيناكَ إن أَبدَتْ إليكَ مَعائِبًا *** فدَعْها وَقُل: يا عَينُ، للناسِ أَعيُنُ
وَعاشِرْ بِمَعروفٍ وَسامِحْ مَنِ اعتَدى *** ودافِعْ وَلَكِن بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ
7- متعلم من التجارِب:
والتجارِبُ هي حصيلةُ جهد السنين، وتعب العمر، وخاصة التجارِب المريرة منها، تقول إحدى بنات حواء: "قلادتي المرصَّعة بالماس التجاربُ والمعاناة الواحدة تلو الأخرى كحباتِ ماس نادرة أضَعُها هنا معًا؛ كي أصنَعَ قلادتي التي سوف أقتنيها مدى الحياة؛ فإن لتلك الماساتِ بريقًا سوف يتلألأ فقط لكل مَن يقتربُ منهن، وصاحبةُ هذه الكلمات الجميلة تؤمن بأن الألم يرقِّق القلوب، ويرهف الإحساس، ويُظهِر شفافيةَ النفوس وصفاءَها.
لذلك؛ فإن التجارِبَ والمعاناة كقِطَع الماس المتلألئة، والتي يجبُ علينا أن نحافظَ عليها مدى الحياة، وإن الإنسانَ الذي استطاع أن يمرَّ بتجارِبَ كثيرة، ويتغلَّب عليها، فسيمتلك الكثير من الماسات، ويومًا ما سيكون قادرًا على صُنع قلادة يتلألأ بريقُها"[11].
ومن هنا كان المبدأ الذي أقره رسولُ الله محمد - صلى الله عليه وسلم - في التعلُّم من التجارِبِ؛ حيث يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يُلدَغُ المؤمنُ من جُحر واحد مرتين))[12]، يقول محمد الغلامي:
بَدَا مِنْ نَداهُ للوفودِ رَغَائِبُ *** ومِنْ حَزمِهِ تَبدو صُنوفُ غَرائِبِ
بحُسنِ التَّواني نَال عِزًّا مُكَمَّلاً *** وما كُلُّ ماضٍ في الأمورِ بصائبِ
بَلى هَذَّبتْهُ جَودةُ الرأيِ والنُّهى *** إذا هذَّبتْ شَخْصًا صروفُ التَّجارِبِ
8- مواصفات أخرى عامة؛ كالصبرِ، والحِلم، وعدم الجزع:
فعن أبي ذرٍّ الغفاري - رضي الله عنه - قال: أوصاني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بخصالٍ من الخير، أوصاني: ((بألا أنظرَ إلى مَن هو فوقي، وأن أنظُرَ إلى من هو دوني، وأوصاني بحب المساكين، والدنوِّ منهم، وأوصاني أن أصِلَ رَحِمي وإن أدْبَرَتْ، وأوصاني ألا أخافَ في الله لومةَ لائمٍ، وأوصاني أن أقولَ الحقَّ وإن كان مُرًّا، وأوصاني أن أُكثِرَ مِن قول: لا حولَ ولا قوة إلا بالله؛ فإنَّها كنز من كنوز الجنة))[13].
إنها وصايا عظيمة، وحِكَم بليغة، ومعانٍ كبيرةٌ، تتضمن:
• في أمور ممتلكات الدنيا؛ الأصل ألا ننظرَ لِمَن يمتلك أكثر منا؛ فهذا رزقُه، وهذا رزقنا، في حين نحن ملزمون بالنظر إلى مَن هو دوننا، فإن فعَلْنا ذلك أيقنَّا أننا في نعمةٍ وخير، ونحن أحسنُ مِن كثير من الناس، فنشكر الله على ذلك، ويستقر بالُنا ويستكين.
• نحبُّ المساكين ونقترب منهم؛ فعن أسامةَ بن زيد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((قمتُ على باب الجنة، فإذا عامَّةُ مَن دخَلها المساكين، وإذا أصحابُ الجَدِّ[14] محبوسون، إلا أصحاب النار، فقد أُمِر بهم إلى النار، وقمتُ على باب النار، فإذا عامَّةُ مَن دخلها النساء))[15].
• عدم الخوف من شيء إلا مِن الله - جل جلاله - لأن كلَّ شيء متعلق بالله - جل جلاله - وهذا الأمرُ له علاقة بتحقيق التوحيد الذي هو المُنجِّي في نهاية الأمر، لقد رأيتُ في الناس مَن تملَّكه الخوفُ مِن كل شيء، حتى فسَدت عليه حياتُه.
• التواصل مع الأرحام (الأقارب) وإن كانوا من النوع المقاطع؛ فعن أبي هريرةَ - رضي الله عنه - أن رجلاً قال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصِلُهم ويقطعوني، وأُحسِنُ إليهم ويسيئون إليَّ، وأحلُمُ عنهم ويجهَلون عليَّ، فقال: ((لئن كنتَ كما قلتَ، فكأنما تُسِفُّهم المَلَّ، ولا يزال معك مِن الله ظهيرٌ عليهم ما دُمْتَ على ذلك))[16].
• قول الحقِّ في كل الأحوال، ولو عاد عليك بالضررِ، أو جعَلك في حرَج، أو شعَرْتَ بالخسارة من جرَّاءِ ذلك.
• الإكثار من قول: "لا حولَ ولا قوة إلا بالله".
[1] إدارة الوقت بين التراث والمعاصرة؛ د. محمد أمين شحادة، ص 267.
[2] صحيح البخاري - كتاب المناقب - باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((لو كنت متخذًا خليلاً)).
[3] المطالب العالية؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني - كتاب المناقب.
[4] آخيته: عروة تثبَّت في الأرض أو في الحائط يُربَط فيها الفرس.
[5] صحيح ابن حبان - كتاب الرقائق - باب التوبة.
[6] الزهد والرقائق؛ لابن المبارك - باب فضل ذِكر الله - عز وجل -.
[7] المطالب العالية؛ للحافظ ابن حجر العسقلاني - كتاب الإيمان والتوحيد - باب الخصال التي تُدخِل الجنة.
[8] صحيح ابن حبان - كتاب البر والإحسان.
[9] صحيح البخاري - كتاب بدء الخلق.
[10] انظر: فريق عمل ناجح، خصائصه وأسس بنائه، ص 9.
[11] اكتشف نفسك واستمتع بالحياة؛ د. مها عرب، ص 23.
[12] صحيح البخاري - كتاب الأدب - باب: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين.
[13] صحيح ابن حبان - كتاب البر والإحسان.
[14] الجَد: الحظُّ والغنى.
[15] صحيح مسلم - كتاب الرقاق - باب أكثر أهل الجنة الفقراء، وأكثر أهل النار النساء، وبيان الفتنة.
[16] صحيح مسلم - كتاب البر والصلة والآداب - باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها.
عبد الستار المرسومي
- التصنيف:
- المصدر: