تجربة أردوغان إسلامية أم علمانية، وما علاقتها بالإخوان؟ (3)
استمعت إلى مقطع مسجل للدكتور عبد الله فهد النفيسي، وهو يحكي جانبًا من حواره مع أردوغان بعد توليه رئاسة الوزارة، وأنه سأله عن المخالفات الشرعية في تركيا، والتي تجرح شعور المسلم كل يوم، قائلًا له: "ماذا أنت فاعل؟" فرد عليه أردوغان: "ولا شيء"!
تجربة (أردوغان) إسلامية أم علمانية؟ وما علاقتها بـ(الإخوان؟
استمعت إلى مقطع مسجل للدكتور عبد الله فهد النفيسي، وهو يحكي جانبًا من حواره مع أردوغان بعد توليه رئاسة الوزارة، وأنه سأله عن المخالفات الشرعية في تركيا، والتي تجرح شعور المسلم كل يوم، قائلًا له: "ماذا أنت فاعل؟" فرد عليه أردوغان: "ولا شيء"!
تعجب الدكتور النفيسي كما تعجبتم أنتم الآن من هذا الرد، فقال له أردوغان: "سأركز على أمرين: الاقتصاد، وإعادة تركيا إلى العالم الإسلامي"، وأردف قائلًا: "لقد كانت البغايا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعث فلم يبدأ بها!"، هذا ما قاله الدكتور أبو عبيدة على أحمد في مقال له عن تركيا.
ويقول أردوغان في كلام له منشور ومنتشر على الويب: "لا يمكن أبدًا أن تكونَ علمانيًا ومسلمًا في آنٍ واحد"، وكل هذا يوضح أن التغيرات التي قام بها أردوغان منذ 2002 وحتى الآن هي خطوات ليست نهائية بل هي جزء من مشروع إسلامي أكبر ،لا سيما وأن أردوغان أعلن مؤخرًا قبيل فوزه برئاسة الجمهورية التركية أنه يهدف إلى تدوين دستور جديد لما يسميه بتركيا الجديدة، وقال إن الدستور الحالي لا يتناسب مع الموقع الذي وصلته البلاد، ويقف عائقًا أمام تطور الجمهورية، وانفتاحها على العالم حسب تعبيره.
ومن هنا نفهم أن أردوغان هدفه الالتزام بالإسلام لكنه يجزأ أهدافه لمراحل عديدة لصعوبة البيئة المحلية والإقليمية والدولية التي يعمل بها مع ضعف قدرته، كتيار إسلامي، كما أنه من الواضح أنه يتحايل بحيل شتى حتى يحقق أهدافه كما أنه يغلف أهدافه بشعارات قد تخالف حقيقة الأهداف كي يتمكن من تطبيقها، (مثال: تذرعه بالتلهف على الانضمام للاتحاد الأوروبي كي يقلم أظافر العسكر العلمانيين)، وإذا كان الأمر كذلك فما حكم هذه الأفعال في فقه السياسة الشرعية؟
أولًا: هل يجوز تجزئة هدف التمكين للحكم الإسلامي؟
أول معلم من معالم تجربة أردوغان أنه قسم العمل لتحقيق تحكيم وتمكين الإسلام إلى عدة مراحل تسلم بعضها بعضًا (حسبما يبدو لي)، وحكم ذلك في السياسة الشرعية واضح لكل من نظر للأمر بمنظور فقهي علمي، لأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو المؤيد من السماء لم يقدر الله له أن يحقق هدف التمكين للإسلام في العالم كله، (ولا في الجزيرة العربية، ولا حتى في مكة أو المدينة) بخطوة واحدة في مرحلة واحدة، بل مرت سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم بمراحل عديدة، نحفظها جميعًا، وحتى المدينة التي أقام فيها نواة دولته الأولى ظل بها وثنيون ومنافقون ويهود ذوو قوة وشوكة ينازعون سيد الخلق بالمكائد والمؤامرات الخفية تارة، وبالتهديد العلني، والتحالف مع قريش وحلفائها تارة أخرى.
إلى أن فتح خيبر سنة 7 هـ، فالمفترض ألا تحتاج هذه النقطة لكبير نقاش ولكن سيطرة لغة الوجدان على منطق العلم والعقل تضطرنا للإطالة في إثبات البديهيات، ولذلك سنتكلم بقدر من التفصيل عن شرعية تجزئة الهدف ليتحقق على عدة مراحل، وتأتي هذه الشرعية من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبره في سيرته الفعلية كما أسلفنا، ولكن من أوضح الأمثلة على ذلك أنه عندما خاطب قريشًا عبر وسطاء في غزوة الحديبية قال للوسطاء: "إنا لم نجئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشًا قد نهكتهم الحرب وأضرت بهم، فإن شاؤوا ماددتهم مدة، ويخلوا بيني وبين الناس، فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإلا فقد جموا" الحديث (رواه البخاري برقم:2732، ورواه غيره أيضًا).
وبديهي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يكن يريد أن تتجهز له قريش، لكنه جزأ هدفه عبر تحييد قريش القوة الكبرى هي وكل حلفائها (وأكثرهم قوى كبرى)، ليفرغ لتحرك دعوي واسع في الجزيرة العربية، يستهدف به الرأي العام، والقاعدة الشعبية حتى داخل معسكر أعدائه من قريش وحلفائها، (بجانب تحركه العسكري خارج الجزيرة بغزو الروم، وحلفائهم بالشام (مؤتة عام 8 هـ قبل فتح مكة)).
كما أن في الحديث أيضًا دلالة على مشروعية، واعتبار السعي لتحقيق حرية الدعوة فقط في هذه المرحلة، وليس التمكين الكامل للإسلام، وذلك عبر خطوات وتحركات سياسية لأن الدعوة في بيئة بها حرية أمر هام جدًا في استراتيجية التمكين للإسلام، وليس أدل على ذلك من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان قوام قواته في غزوة الحديبية نحو 1400 صحابي بينما بعدها بأقل من سنتين (في فتح مكة) صار قوامها 10000 صحابي، يقول ابن حجر في فتح الباري شرح صحيح البخاري:
"فَقَوْلُهُ تَعَالَى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح:1]، الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هُنَا الْحُدَيْبِيَةُ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَبْدَأَ الْفَتْحِ الْمُبِينِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِمَا تَرَتَّبَ عَلَى الصُّلْحِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ الْأَمْنُ وَرَفْعُ الْحَرْبِ وَتَمَكُّنِ مَنْ يَخْشَى الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ وَالْوُصُولَ إِلَى الْمَدِينَةِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا وَقَعَ لِخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَغَيْرِهِمَا ثُمَّ تَبِعَتِ الْأَسْبَابُ بَعْضُهَا بَعْضًا إِلَى أَنْ كَمُلَ الْفَتْح وَقد ذكر بن إِسْحَاقَ فِي الْمَغَازِي عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ قَبْلَ فَتْحِ الْحُدَيْبِيَةِ أعظم مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ الْكُفْرُ حَيْثُ الْقِتَالِ فَلَمَّا أَمِنَ النَّاسُ كُلُّهُمْ كَلَّمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ وَالْمُنَازَعَةِ وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا إِلَّا بَادَرَ إِلَى الدُّخُولِ فِيهِ فَلَقَدْ دَخَلَ فِي تِلْكَ السَّنَتَيْنِ مِثْلُ مَنْ كَانَ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرُ، قَالَ بن هِشَام وَيدل عَلَيْهِ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ ثُمَّ خَرَجَ بعد سِنِتين إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ" أ.هـ (جـ/7، ص/ 441-442)
ويقول أيضًا في موضع آخر: "وَمِمَّا ظَهَرَ مِنْ مَصْلَحَةِ الصُّلْحِ الْمَذْكُورِ غَيْرُ مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ أَنَّهُ كَانَ مُقَدّمَة بَين يَدي الْفَتْحِ الْأَعْظَمِ الَّذِي دَخَلَ النَّاسُ عَقِبَهُ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا وَكَانَتِ الْهُدْنَةُ مِفْتَاحًا لِذَلِكَ وَلَمَّا كَانَتْ قِصَّةُ الْحُدَيْبِيَةِ مُقَدِّمَةٌ لِلْفَتْحِ سُمِّيَتْ فَتْحًا كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمَغَازِي فَإِنَّ الْفَتْحَ فِي اللُّغَةِ فَتْحُ الْمُغْلَقِ وَالصُّلْحُ كَانَ مُغْلَقًا حَتَّى فَتَحَهُ اللَّهُ وَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ فَتْحِهِ صَدُّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ وَكَانَ فِي الصُّورَةِ الظَّاهِرَةِ ضَيْمًا لِلْمُسْلِمِينَ وَفِي الصُّورَةِ الْبَاطِنَةِ عِزًّا لَهُمْ فَإِنَّ النَّاسَ لِأَجْلِ الْأَمْنِ الَّذِي وَقَعَ بَيْنَهُمُ اخْتَلَطَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ وَأَسْمَعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ الْقُرْآنَ وَنَاظَرُوهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ جَهْرَةً آمَنِينَ وَكَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَتَكَلَّمُونَ عِنْدَهُمْ بِذَلِكَ إِلَّا خُفْيَةً وَظَهَرَ مَنْ كَانَ يُخْفِي إِسْلَامَهُ فَذَلَّ الْمُشْرِكُونَ مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْعِزَّةَ وَأُقْهِرُوا مِنْ حَيْثُ أَرَادُوا الْغَلَبَةَ" أ.هـ (فتح الباري: جـ/5، ص/348).
وبهذا المثال الواضح يتضح لنا مشروعية تجزئة الهدف ليتحقق عبر أكثر من مرحلة، وإذا كان الأمر هكذا فإن هذه المسألة تنقلنا لمسألة أخرى بالغة الأهمية، وهي أنه طوال الفترة الماضية ولفترة قادمة أيضًا فإن أردوغان ظل وسيظل يحكم بغير ما أنزل الله، أو على الأقل يحكم في ظل نظام غير إسلامي، لا يحكم بما أنزل الله، فهل هذا جائز شرعًا أم غير جائز، وما ضوابط هذه المسألة كلها، وهو ما سنتناوله في المسألة التالية:
ثانيًا: هل يجوز أن يحكم حاكم مسلم في ظل نظام حكم غير إسلامي؟
وذلك في مقال قادم إن شاء الله تعالى.
- التصنيف:
nada
منذ