ذكر تلبيس إبليس على أمتنا في العقائد والديانات
أبو الفرج ابن الجوزي
فأما الطريق الأول: فإن إبليس زيَّن للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه، والصواب قد يخفى والتقليد سليم، وقد ضلَّ في هذا الطريق خلقٌ كثير وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا، وكذلك أهل الجاهلية، واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم، لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
قال المصنف: دخل إبليس على هذه الأمة في عقائدها من طريقين:
أحدهما: التقليد للآباء والأسلاف.
والثاني: الخوض فيما لا يدرك غوره ويُعجز الخائض عن الوصول إلى عمقه فأوقع أصحاب هذا القسم في فنون من التخليط.
فأما الطريق الأول: فإن إبليس زيَّن للمقلدين أن الأدلة قد تشتبه، والصواب قد يخفى والتقليد سليم، وقد ضلَّ في هذا الطريق خلقٌ كثير وبه هلاك عامة الناس، فإن اليهود والنصارى قلدوا آباءهم وعلماءهم فضلوا، وكذلك أهل الجاهلية، واعلم أن العلة التي بها مدحوا التقليد بها يذم، لأنه إذا كانت الأدلة تشتبه والصواب يخفى وجب هجر التقليد لئلا يوقع في ضلال.
وقد ذم الله -سبحانه وتعالى- الواقفين مع تقليد آبائهم وأسلافهم فقال -عز وجل-: (بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءآثَارِهِم مُّهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثارِهِم مُّقْتَدُونَ * قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ قَالُواْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ) الزخرف 22-24،، المعنى أتتبعونهم وقد قال -عز وجل-: (إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَآءَهُمْ ضَآلِّينَ * فَهُمْ عَلَى ءَاثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ) الصافات 69 – 70.
قال المصنف: اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد فيه، وفي التقليد إبطال منفعة العقل لأنه إنما خلق للتأمل والتدبر، وقبيح بمن أعطي شمعة يستضيء بها أن يطفئها ويمشي في الظلمة.
واعلم أن عموم أصحاب المذاهب يعظم في قلوبهم الشخص فيتبعون قوله من غير تدبر بما قال، وهذا عين الضلال لأن النظر ينبغي أن يكون إلى القول لا إلى القائل، كما قال علي - رضي الله عنه -: للحارث بن حوط وقد قال له: أتظن أنَّا نظن أن طلحة والزبير كانا على باطل، فقال له: يا حارث إنه ملبوس عليك إن الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله. وكان أحمد بن حنبل يقول: من ضيق علم الرجل أن يقلِّد في اعتقاده رجلاً، ولهذا أخذ أحمد بن حنبل بقول زيد في الجد وترك قول أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، فإن قال قائل: فالعوام لا يعرفون الدليل فكيف لا يقلدون، فالجواب: إن دليل الاعتقاد ظاهر على ما أشرنا إليه في ذكر الدهرية ومثل ذلك لا يخفى على عاقل، وأما الفروع فإنها لما كثرت حوادثها واعتاص على العامي عرفانها وقرب لها أمر الخطأ فيها كان أصلح ما يفعله العامي التقليد فيها لمن قد سبر ونظر، إلا أن اجتهاد العامي في اختيار من يقلده.
قال المصنف: وأما الطريق الثاني: فإن إبليس لما تمكن من الأغبياء فورَّطهم في التقليد وساقهم سوق البهائم، ثم رأى خلقاً فيهم نوع ذكاء وفطنة فاستغواهم على قدر تمكنه منهم.
فمنهم من قبَّح عنده الجمود على التقليد وأمره بالنظر ثم استعوى كلاً من هؤلاء بفنٍّ فمنهم من أراه أن الوقوف مع ظواهر الشرائع عجز، فساقهم إلى مذهب الفلاسفة ولم يزل بهؤلاء حتى أخرجهم عن الإسلام وقد سبق ذكرهم في الرد على الفلاسفة.
ومن هؤلاء من حسَّن له أن لا يعتقد إلا ما أدركته حواسه؛ فيقال لهؤلاء: بالحواس علمتم صحة قولكم؟ فإن قالوا: نعم. كابروا لأن حواسنا لم تدرك ما قالوا؛ إذ ما يدرك بالحواس لا يقع فيه خلاف، وإن قالوا بغير الحواس ناقضوا قولهم.
ومنهم من نفَّره إبليس عن التقليد وحسَّن له الخوض في علم الكلام والنظر في أوضاع الفلاسفة ليخرج بزعمه عن غمار العوام.
وقد تنوعت أحوال المتكلمين وأفضى الكلام بأكثرهم إلى الشكوك وببعضهم إلى الإلحاد.
ولم تسكت القدماء من فقهاء هذه الأمة عن الكلام عجزاً، ولكنهم رأوا أنه لا يشفي غليلاً ثم يرُدُّ الصحيح عليلاً فأمسكوا عنه ونهوا عن الخوض فيه، حتى قال الشافعي -رحمه الله-: لأن يبتلى العبد بكل ما نهى الله عنه ما عدا الشرك خير له من أن ينظر في الكلام. قال: وإذا سمعت الرجل يقول: الاسم هو المسمى أو غير المسمى فاشهد أنه من أهل الكلام ولا دين له.
وقال: حكمي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم في العشائر والقبائل ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأخذ في الكلام.
وقال أحمد بن حنبل: لا يفلح صاحب كلام أبداً. علماء الكلام زنادقة.
قال المصنف: قلت: وكيف لا يذم الكلام وقد أفضى بالمعتزلة إلى أنهم قالوا: إن الله -عز وجل- يعلم جمل الأشياء ولا يعلم تفاصيلها. وقال جهم بن صفوان: علم الله وقدرته وحياته محدثة. وقال أبو محمد النوبختي عن جهم أنه قال: إن الله -عز وجل- ليس بشيء.