كيف واجه المعتقلون السياسيون سياسة التعرية والتجويع في سجون مبارك؟
أول مشهد اجتماعي يصادفه المعتقل ما يتعلق بالطعام الذي يصرفه السجن بشكل يومي، وهو عبارة عن مقررات محددة يتم صرفها مرتين في اليوم حسب نوعية المعاملة، فعندما تكون المعاملة حسنة يجري صرف أولهما في الصباح الباكر، وتحوي مقررات الإفطار، وعادة تكون فول أو عدس، ثم يتم صرف الثانية بعد الظهر وتشمل أرز مسلوقًا وخضار مطبوخًا بالإضافة لخس أو جرجير أو بصل نيء أو نحو ذلك..
لا شك أن لفترة الاعتقال جوانب كثيرة سياسية واجتماعية وثقافية ودينية وقانونية، وهذا الجانب الأخير يشمل مجال حقوق الإنسان، ولكننا في هذه السلسلة من المقالات اقتصرنا على الجوانب الاجتماعية والثقافية فقط، لأسباب لا تخفى على حصافة القارئ الكريم.
وأول مشهد اجتماعي يصادفه المعتقل ما يتعلق بالطعام الذي يصرفه السجن بشكل يومي، وهو عبارة عن مقررات محددة يتم صرفها مرتين في اليوم حسب نوعية المعاملة، فعندما تكون المعاملة حسنة يجري صرف أولهما في الصباح الباكر، وتحوي مقررات الإفطار، وعادة تكون فول أو عدس، ثم يتم صرف الثانية بعد الظهر وتشمل أرز مسلوقًا وخضار مطبوخًا بالإضافة لخس أو جرجير أو بصل نيء أو نحو ذلك، كما تشمل جبن وحلاوة طحينية أو مربى وثلاثة أرغفة وهذا كله يومي، ويضاف لذلك في يومين في الأسبوع لحم مستورد مسلوق أو بيض مسلوق، أو دجاج مسلوق ويكون ذلك في يومي الاثنين والخميس، ويضاف أيضًا في يومي الثلاثاء والجمعة بيضتن مسلوقتين لكل معتقل أو مسجون.
وفي الواقع فإن هذه المقررات لم تكن بهذا التنوع ولا بهذه الكميات، ولكن جرى إصلاح وتحسين لهذه المقررات على مراحل متعددة استغرقت الستة وعشرين عامًا الأخيرة، وكان أهمها وأبرزها في صيف 1998م، وذلك بسبب ضغوط الجهات المهتمة بتحسين أوضاع المعتقلين والمسجونين، ولكن نقطة الضعف في هذا النظام هو كيفية التنفيذ حيث أنه يتعرض للتبديد والتبذير من يد المتعهد المدني إلى يد إدارة السجن إلى يد موظفي المخازن إلى يد موظفي المطبخ، ثم إلى يد الحراس ثم إلى يد العمال -مسجونون جنائيون في العادة-، المسئولين عن توصيله ليد المعتقلين والمسجونين، وطبعًا الكل يعرف النكتة التي تقول نهايتها "أن الرئيس يسلم عليك، بينما كان الرئيس أرسل له معونة مادية فتبددت في الطريق حتى لم يصل للمواطن سوى سلام السيد الرئيس دون معونته المادية التي أرسلها بعد أن أخذت كل يد نصيب ما من المعونة المرسلة".
وعلى كل حال فالمعتقل السياسي والمسجون السياسي أحسن حالاً من المعتقل والمسجون الجنائي في هذا المجال وغيره، لأن مباحث أمن الدولة تحرص على مستوى عام مقبول بدرجة ما في هذا المجال للمعتقلين والمسجونين السياسيين، وذلك في السنوات الأخيرة فقط، بالإضافة إلى أنه حتى في حالة الخلل فإن وراء المعتقلين والمسجونيين السياسيين فريقًا يدافع عنهم، يضم صحفيين ومحامين ومنظمات مجتمع مدني، كلهم يدافعون عن السياسي بدرجة ما من حين لأخر، أما المسجون والمعتقل الجنائي فإن معاملته أسوأ من معاملة الحيوان في السجون المصرية، إلا من كان منهم مسنودًا لسبب ما كمن عائلته كبيرة أو لديه علاقات واسعة مع ذوي النفوذ، أو يمتلك ثراءً واسعًا، وللعلم فإن المسجون الجنائي يقع تحت إشراف مباحث قطاع السجون وليس أمن الدولة.
وعلى كل حال فالذي يهمنا في هذا الصدد هو كيف يتعامل المعتقل السياسي مع هذه المقررات من الطعام، وفي الواقع فإن تعامل المعتقل السياسي يختلف عن الجنائي في هذا الصدد، حيث أن المعتقلين والمسجونين السياسيين يتسلمون مقرراتهم الغذائية بشكل جماعي متضامنين مع بعضهم البعض، ومتكافلين سواء كانت الكمية صغيرة أو كبيرة، ويتناولون طعامهم بشكل جماعي، وهذا على عكس الجنائين حيث عادة ما يتسلمون غذائهم فرادى، ولا يأكلون مع بعض إلا في حدود الصداقات المحدودة أو القرابة إن وجدت، وإلا فلا يأكل كل منهم إلا منفردًا.
ويرتبط بهذه النقطة علاقات التكافل الأخرى التي عادة ما تجري بين المعتقلين السياسيين الإسلاميين، وهي تشمل كل المجالات في العادة، حيث يخلطون كل الأطعمة الواردة إليهم من أسرهم فيما يسمى بزيارة أسرهم لهم في السجن، فيتم وضع طعام الغني مهما كان كبيرًا مع طعام الفقير مهما كان صغيرًا أو رخيصًا، ويجلس الجميع مع بعضهم البعض يأكلون متساويين لا فرق بين غني وفقير، ولا بين كبير وصغير، ولا بين جاهل وعالم، ونفس الشيء يجرى في الدواء، فالطعام والدواء عادة ما يوزع على كل محتاج بغض النظر عن من جاء به، وهذا في كل الأحوال سواء أحوال الضيق والشدة أو أحوال الراحة والرخاء..
وأذكر عندما كنا في سجن الواحات -الوادي الجديد- أننا كنا في حالة شدة وضيق، وكان غير مسموح بدخول الطعام من قبل أسرنا إلا بكميات ضئيلة للغاية، وكنا نوزع الدجاجة الواحدة على ثلاث غرف، علمًا بأن كل غرفة بها عشرين معتقلاً على الأقل! والأمر في الدواء كذلك، بل أكثر من ذلك حيث كان كثيرون من المعتقلين ذوي اليسار المادي يشترون على نفقتهم الخاصة الدواء للمرضى الفقراء، أو حتى الأغنياء الذين كانت أسرهم تتخلى عنهم فلا تزورهم في المعتقل ولا ترسل لهم طعامًا ولا مالاً، ونفس الأسلوب يجري بشأن المشتروات التي تم شراؤها من كانتين السجن حيث يجرى توزيعها بالتساوي على المعتقلين السياسيين بغض النظر عمن دفع ثمنها، وهذا كله معمول به بانتظام في حالات الرخاء وفي حالات الشدة.
وفى حالات الشدة يجري نفس أسلوب التكافل في الملابس وفي الكتب أيضًا خاصة الكتب الإسلامية.
وهذا الأمر ليس خاصًا باتجاه فكري معين، بل نجد الزنزانة بها أشخاص من جماعات متعددة ومختلفة فكريًا لدرجة أن هناك جماعات تكفيرية -وعدده ضئيل جدًا في العادة بالنسبة لبقية تيارات الحركة الإسلامية- تكفر كل من ليس عضوًا بها حتى لو كان من جماعة إسلامية أخرى، ومع ذلك يلتزمون بقواعد التكافل هذه دون أي إستثناء.
وحتى عندما ينضم للمعتقلين السياسيين الإسلاميين أشخاصًا من خارج الحركات الإسلامية بعامة أو حتى من يسمون بقضايا إزدراء الأديان، فإن قواعد التكافل هذه تجري عليهم بانتظام أيضًا، وتطورت قواعد التكافل هذه مع مرور السنين الطويلة من تكافل أشبه بالنظام الشيوعي في جانبه الحسن إن جاز التعبير إلى تكافل أشبه بالنظام الرأسمالي في جانبه الحسن أيضًا إن جاز التعبير.
فمثال الأول هو ما سبق ذكره حيث كل الملكيات هي ملكية عامة بسبب الشدة وسوء المعاملة، وندرة الموارد جدًا إزاء الحاجات، أما الثاني فجرى إقرار الملكية الفردية للأشياء التي ترد في الزيارات أو من قبل أسر المعتقلين كالمال وغيره، مع حض أصحابها بالموعظة الحسنة على التصدق والتبرع به وإعادة توزيعه بالتساوي على جميع المعتقلين المحتاجين، الذين يكون جرى حصرهم مسبقًا.
واستقر الأمر إما على النظام الأخير أحيانًا أو في أحيان أخرى على نظام هجين مكون من مزج ما بين النظام الأخير والأول، وفي كل الأحوال كان أنصار كل نظام يسوقون الآيات والأحاديث التي يستدلون بها على أفضلية نظامهم، لكن أحدًا لم يقل بأن النظام الذي يتبناه فريضة حتمية إلا أصحاب نظام احترام الملكية الفردية، وإعادة التوزيع من التبرعات، أما بقية النظم فكان أصحابها يقولون أنها ليست فريضة، ولكنها فضيلة مستحبة يحتمها الواقع الصعب الذي نعيشه.
وأذكر في النظام الأخير -نظام الملكية الفردية- أنه عندما أقر هذا النظام الفردي بعد نظام الملكية العامة، ونحن في سجن الفيوم عام 2000م فإن نصيب الفرد الفقير ارتفع من جنيه وربع في الشهر في نظام الملكية العامة إلى أكثر من 15 جنيه في الشهر في النظام التبرعي الطوعي في الملكية الفردية، كما أذكر أننا بعد ذلك في سجن أبي زعبل الجديد في عام 2004م عندما سمحت إدارة السجن لنا بإدخال ثلاجات على نفقتنا الخاصة انخفضت التبرعات واشتكى لي الشيخ (جاد القصاص)..
وقال لي: "مش عارف أقول إيه هل أدعو الله أن تحترق كل هذه الثلاجات، يا أخي نحن نأكل لحم كل يوم وبجانبنا زنزانة طعامها قليل"، قلت له: نشط عملية التكافل شوية وكلف بها أشخاصًا نشيطين فاستجاب لنصيحتي، وكان الشيخ جاد إمامنا وواعظنا في صلاة الجمعة وغيرها، فنصح الناس بالتصدق وأشرف على جمع الطعام وإعادة توزيعه، وانصلح الحال مرة أخرى، لكن هناك عنبر أخر في نفس السجن كان يجري فيه نظام الملكية العامة في نفس الوقت.
كما أذكر أيضًا بهذا الصدد عندما كنت في سجن استقبال طرة في أواخر 2004م وأوائل عام 2005م أن جاء معتقلون لقضية جديدة شهيرة، وكان عددهم كبيرًا، وكانوا كما الحال مع كل معتقل جديد ممنوع عليه الاتصال بأهله، وربما لا يعلم أهله مكانه أصلاً وبالتالي لا تصله نقود ولا ملابس ولا طعام من أهله، وحينئذ سمحت لهم إدارة السجن بتلقي ما يشاءون من المعتقلين القدامى من في عنبر (ب) وعنبر (د) وكان هؤلاء الجدد يملأون عنبر (ج) حيث كان عددهم نحو 400 معتقل..
وكانوا بالطبع يحتاجون ملابس وكمية كبيرة وغالية الثمن من الأدوية، بالإضافة للبطاطين والفرش، وقد قامت فئات عدة بشراء كل هذا لكل هذا العدد، وتكلف ذلك عدة آلاف من الجنيهات دفعها المقتدرون من قدامى المعتقلين الإسلاميين، ومنذئذ أصبح مثل هذا العون لمعظم القادمين الجدد أمرًا مستقرًا ومسموحًا به إلا في حالات استثنائية جدًا، وظل هكذا إلى أن جرت محاولة الهروب من سجن استقبال طرة حيث أصبح سجن استقبال طرة خاوايًا من المعتقلين القدامى، ومقصورًا على الجدد فقط.. والمعونة هذه كانت دائمًا إما بإذن مباشر من إدارة السجن أو بضوء أخضر خفي منها.
وإذا كانت هذه هي القواعد العامة لمجال التكافل بين المعتقلين في الطعام والنقود والملابس والأدوية.. فإن لكل قاعدة استثناء أو أكثر، ومن هذه الاستثناءات أنني كان لدي في حسابي المالي لدى السجن مبلغًا من المال، لأن أبي رحمه الله كان يرسل لي حولات متعددة كل شهر، كل منها بمبلغ مائة جنيه، وتراكم المبلغ لأننا ظللنا أكثر من سنة غير مسموح لنا بالتصرف في نقودنا، فعندما سمحوا لنا بالتصرف فيها بقيود معينة صرت من الأثرياء بسبب هذا التراكم، وصرت أنفق منها بسعة..
فكلمني (محمد) وهو صديق لي عبر الشباك، وكان في زنزانة أخرى وقال لي مازحًا أنه تأتيه زيارات كثيرة ولا يأتيه مال، وأنا يأتيني مال كثير بينما لا تأتيني زيارات، ثم أكمل فما رأيك بأن نبدل جزءًا من الزيارات بجزء من المال، فضحكت وقلت له أنا تحت أمرك بلا شيء، وكان هذاالصديق من جماعة الجهاد المصري، وكان جالسًا في غرفة مع عدد من أعضاء وقادة الجماعة الإسلامية، وذكر لي فيما بعد عندما قابلته على انفراد أنه وإن تكلم بصيغة المزاح فإنه كان جادًا لأن واحدًا أو أكثر من رفقائه في الزنازنة ألمح له بامتعاضه من محمد نفسه لأنه لا يصله مال من أسرته.
ثم اتصل بي بعد ذلك صديق اسمه (مصطفى) من جماعة الشوقيين، وكان الاتصال عبر ثقب الباب لأن بابي الزنزانتين كانا متلاصقين، وقال لي أنه بحاجة أن أرسل له من حسابي بضاعة من الكنتين بمبلغ ثمانين جنيهًا له ولشخص أخر معه، لا أذكر اسمه وهو من جماعة أخرى تكفر كل من ليس معهم بما في ذلك تكفر الشوقيين، وقال لي أنه سيقوم بسداد ذلك لي فيما بعد عندما يصله مال من زوجته، وأنا فهمت الموقف جيدًا في التو واللحظة لأن كل السلع التي كانت يتم شراؤها من الكنتين كانت توزع بالتساوي على جميع من في العنبر، بغض النظر عمن دفع ومن لم يدفع، ففهمت أن شخصًا ما في الزنزانة مع مصطفى قد وجه له لومًا تلميحًا لأنه ليس لديه مال، فأراد أن يظهر أن لديه مالاً رغم أن كل المال سيوزع في النهاية بالتساوي، وأنا قررت على التو أيضًا أنني سأصر على عدم إسترداد هذا المبلغ منه وقد كان، وعندما قابلت مصطفى منفردًا فيما بعد ذكر لي أن تخميني بشأن اللوم كان صحيحًا.
وفي الواقع إنني لم أكن أُزاور في ذلك الوقت، لأني كنت أرسلت لأسرتى ألا يأتوا وأن يرسلوا لي مبلغ كذا كل شهر حتى أُرسل بالتغيير، إما تغيير المبلغ أو استدعائهم للزيارة وذلك لأن الزيارة كانت في منتهى السوء وبها مشقة كبيرة على الأهالي وأيضًا على المعتقلين، رغم إنه كان مسموحًا بدخول قليل من الطعام عبرها، وكانت إدارة السجن أحيانًا تسمح بدخول بعض الدواء وبعض الملابس، أو بعض الكتب الدراسية المعتمدة، وأحيانًا أخرى لا تسمح بشيء من ذلك ولم يكن لذلك قواعد مستقرة.
وبغض النظر عن أي تفاصيل فإن القاعدة كانت وما زالت هي التكافل التام أو شبه التام، وما اعترى ذلك من ممارسات تخالف روح التكافل كانت أفعالاً فردية لا تعبر إلا عن سلوك شخصي فردي لا علاقة له بالخط العام والعرف العام الذي كان دائمًا تكافلاً إسلاميًا تعددت صوره على النحو الذي سبق ذكره.
تم نشر هذا المقال في المدونة القديمة وفي جريدة (الدستور المصرية 5 ديسمبر 2007) وكان هو الحلقة الثالثة من 16 حلقة نشرت تباعًا بشكل أسبوعي منذئذ شرحت مشاهداتي للأوضاع الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للمعتقلين السياسيين في سجون مبارك طوال فترة اعتقالي التي استمرت من (21 فبراير 1993م وحتى 1 أغسطس 2007م).
- التصنيف: