حدثني الثقة !
منذ 2001-04-19
حول قضية نقل الأخبار والقصص دون تثبت
مهمة الواعظ والخطيب أن يحرك عواطف الناس، ويهز قلوبهم، ولا نفع في
واعظ خاوي الضمير، جاف الروح، يتحدث ببرود وجفاف .. ويذكر الجنة
والنار والموت والقبر وكأنه يعرض مسألة في الهندسة أو في الحساب !
ومتى شعر المستمع بتفاعل المتكلم مع قضيته وجديته في عرضها اقبلوا إليه وتأثروا به، وقديما سأل بعض السلف والده : يا أبتي ما بالك إذا تحدثت أبكيت الناس بكلام سهل قريب، ويتحدث غيرك فلا يبكيهم ؟! فقال له : يا بني لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة !!
وفي صحيح مسلم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول : صبحكم ومساكم .. ويقول : بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه : السبابة والوسطى، والعاطفة قاسم مشترك بين جميع الناس، ولذلك تجد الذين يستمعون إلى الواعظ أو الخطيب الذي يهز العواطف يفوقون بأضعاف مضاعفة عدد الذين يستمعون إلى متحدث في قضايا علمية بحتة أيا كان موضوعها .
لكن مما يحدث كثيرا أن ينساق الواعظ مع عاطفة الجماهير فتجره جرا إلى الاسترسال وراء ما يحرك ويثير رغبة في المحافظة على مستوى التأثير وعدد الحضور .
مثلا : إذا تكلم الواعظ في اليوم الأول فوفق في الحديث، وحرك القلوب، فبكت العيون، وربما ارتفعت الأصوات اعتبر الواعظ هذا (( نجاحا )) وهو نجاح .. وأقل ما يريده هذا الداعية أن يحافظ على هذا (( النجاح )) في اليوم الثاني، بل هو يريد أن يتقدم خطوة أخرى وأن يكون التأثير أعظم .
خاصة وقد زاد الجمع، وتهيأت النفوس لاستقبال الخضوع والبكاء والنشيج .. ففي حجب ذلك عنهم نوع من خيبة الأمل … وهكذا يسير الداعية أحيانا في طريق قد لا يكون أراده تماما .. لكن ماذا يصنع والناس ينتظرون ويطالبون ؟
ولذلك يبرز عند بعض الدعاة شيء من المبالغة المفتعلة في تضخيم بعض القضايا ليعظم وقعها على السامع … ولعل من نماذج ذلك مسألة القصص والروايات .
فالقصص من أكثر وسائل التأثير وفي القصص القرآني وما صح من القصص النبوي وما صح من قصص الصحابة والسلف الصالح غناء وأي غناء ولو أن الدعاة تتبعوا ذلك واعتنوا به لكان من ورائه خير كثير , ولكن الملحوظ أن المتحدثين عن القصص المغرقة في الغرابة كثروا لأنها تشد العامة وتعجبهم .
ولا بد حينئذ أن يتسامح في إسناد القصة فيرويها ولو كانت منكرة واهية الإسناد، أو لا سند لها أصلا .. وقديما قال محمد بن الحسن : من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب !
وقد تعلل البعض بأن هذه رقائق ليس فيها حلال ولا حرام فيتسامح فيها، وهذا ليس هو المشكل، وإنما المشكل أن تكون هذه القصص والحكايات ديدنا، وأن يتربى الناس عليها، فيعرضوا عن العلم الصحيح، وعن التفكير الصحيح .. وكم من عامي بنى حكما شرعيا لا يقبل المناقشة فيه على حكاية موضوعة سمعها من فلان ..!
ومما يزيد الأمر إشكالا أن بعض الصالحين يحسنون الظن فيروون عن كل من لقوا بحجة أن ظاهره العدالة ويقول أحدهم : حدثني ثقة، أو حدثني رجل صالح .
وقد علمنا أن بعض هؤلاء يختلقون القصص والحكايات ثم يأتون إلى صالح فيه غفلة ممن يقبل (( التلقين )) فيدس عليه القصة، فيحدث بها على الملأ .
أحد المبتلين ببعض المعاصي اختلق رواية خلاصتها : أن رجلا مات ممن يتعاطى تلك المعصية . فلما وضع في قبره صرف وجهه عن القبلة .. يعني المعصية نفسها يعملها مختلق القصة، وما مر غير وقت يسير حتى حدث بالقصة على أنها مشاهدة من بعض الثقات .
وكم سمعنا من إنسان يتحدث عن بلدنا بقصص وأخبار ومشاهد عجيبة ويؤكدها بجميع المؤكدات ويذكر أنها معروفة مستفيضة، وليس في الواقع شيء من ذلك .
لا حاجة بنا إلى حشد عدد هائل من قصص المحتضرين الذين منهم من فعل، ومنهم من فعل، ويذكر عجائب وغرائب .. وعندنا كتاب الله وسنة رسوله حسبنا .
وإذا أحب المتحدث التنويع -ولا بد- فإلى القصص الموثقة المعروفة الأسانيد كبعض الروايات التي ذكرها الإمام الربعي في كتابه : (( وصايا العلماء عند حضور الموت )) وما أشبهه .
على أن ينتقي منها ما صح سنده وسلم متنه وبعد عن التهويل و النكارة . وإذا أحب الحديث عن القبر وعذابه ونعيمه فليكتف بسياق الآية الكريمة التي تجعل المؤمن يقطع بذلك ويجزم به، ثم يسوق من روايات السنة الصحيحة وأخبارها وقصصها ما يلين القلوب . وليختر مثلا مما في كتاب البيهقي (( إثبات عذاب القبر )) أو مما في الكتب الستة أو سواها .
أما الاسترسال مع قصص فلان الذي حدث له كذا وحدث له كذا، وربط إيمان الناس بهذه القصص فهو أمر غير جيد . ويكفي في إيمان الناس أن يؤمنوا بما في الكتاب والسنة ويكفي في تحريك قلوبهم قوارع القرآن وزواجره . " فبأي حديث بعده يؤمنون " ؟
ومما يبرز أهمية ذلك أن الدروس والمواعظ أصبحت تسجل وتنتقل من مكان إلى آخر، ومن طبقة إلى أخرى وهذا اللون من الحديث إن فرض جدلا أنه يلائم فئة من الناس فإن من المؤكد أن من المصلحة حجبه عن فئات كثيرة .
أليس من المحزن أن البعض ينفعلون عند هذه القصص وتأخذهم القشعريرة .. وتمر بهم آيات الوعيد التي تزلزل الجبال فلا تهز منهم وجدانا ولا تحرك فيهم عاطفة ؟
إن في الأمر خللا نساهم نحن أحيانا من حيث لا نشعر في تعميقه، وواجب على الدعاة أن يصححوا الأمر، ويكتفوا بالكتاب والسنة والروايات المسندة التي يعرف رواتها بأشخاصهم، ويدعوا عنهم الرواية عن (( المجهولين )) ولو سماهم البعض (( ثقات )) فقد يكونون ثقات عنده متروكين عند غيره، والله أعلم.
ومتى شعر المستمع بتفاعل المتكلم مع قضيته وجديته في عرضها اقبلوا إليه وتأثروا به، وقديما سأل بعض السلف والده : يا أبتي ما بالك إذا تحدثت أبكيت الناس بكلام سهل قريب، ويتحدث غيرك فلا يبكيهم ؟! فقال له : يا بني لا تستوي النائحة الثكلى والنائحة المستأجرة !!
وفي صحيح مسلم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث جابر رضي الله عنه : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبه، حتى كأنه منذر جيش، يقول : صبحكم ومساكم .. ويقول : بعثت أنا والساعة كهاتين، ويقرن بين إصبعيه : السبابة والوسطى، والعاطفة قاسم مشترك بين جميع الناس، ولذلك تجد الذين يستمعون إلى الواعظ أو الخطيب الذي يهز العواطف يفوقون بأضعاف مضاعفة عدد الذين يستمعون إلى متحدث في قضايا علمية بحتة أيا كان موضوعها .
لكن مما يحدث كثيرا أن ينساق الواعظ مع عاطفة الجماهير فتجره جرا إلى الاسترسال وراء ما يحرك ويثير رغبة في المحافظة على مستوى التأثير وعدد الحضور .
مثلا : إذا تكلم الواعظ في اليوم الأول فوفق في الحديث، وحرك القلوب، فبكت العيون، وربما ارتفعت الأصوات اعتبر الواعظ هذا (( نجاحا )) وهو نجاح .. وأقل ما يريده هذا الداعية أن يحافظ على هذا (( النجاح )) في اليوم الثاني، بل هو يريد أن يتقدم خطوة أخرى وأن يكون التأثير أعظم .
خاصة وقد زاد الجمع، وتهيأت النفوس لاستقبال الخضوع والبكاء والنشيج .. ففي حجب ذلك عنهم نوع من خيبة الأمل … وهكذا يسير الداعية أحيانا في طريق قد لا يكون أراده تماما .. لكن ماذا يصنع والناس ينتظرون ويطالبون ؟
ولذلك يبرز عند بعض الدعاة شيء من المبالغة المفتعلة في تضخيم بعض القضايا ليعظم وقعها على السامع … ولعل من نماذج ذلك مسألة القصص والروايات .
فالقصص من أكثر وسائل التأثير وفي القصص القرآني وما صح من القصص النبوي وما صح من قصص الصحابة والسلف الصالح غناء وأي غناء ولو أن الدعاة تتبعوا ذلك واعتنوا به لكان من ورائه خير كثير , ولكن الملحوظ أن المتحدثين عن القصص المغرقة في الغرابة كثروا لأنها تشد العامة وتعجبهم .
ولا بد حينئذ أن يتسامح في إسناد القصة فيرويها ولو كانت منكرة واهية الإسناد، أو لا سند لها أصلا .. وقديما قال محمد بن الحسن : من طلب العلم بالكلام تزندق، ومن طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب غريب الحديث كذب !
وقد تعلل البعض بأن هذه رقائق ليس فيها حلال ولا حرام فيتسامح فيها، وهذا ليس هو المشكل، وإنما المشكل أن تكون هذه القصص والحكايات ديدنا، وأن يتربى الناس عليها، فيعرضوا عن العلم الصحيح، وعن التفكير الصحيح .. وكم من عامي بنى حكما شرعيا لا يقبل المناقشة فيه على حكاية موضوعة سمعها من فلان ..!
ومما يزيد الأمر إشكالا أن بعض الصالحين يحسنون الظن فيروون عن كل من لقوا بحجة أن ظاهره العدالة ويقول أحدهم : حدثني ثقة، أو حدثني رجل صالح .
وقد علمنا أن بعض هؤلاء يختلقون القصص والحكايات ثم يأتون إلى صالح فيه غفلة ممن يقبل (( التلقين )) فيدس عليه القصة، فيحدث بها على الملأ .
أحد المبتلين ببعض المعاصي اختلق رواية خلاصتها : أن رجلا مات ممن يتعاطى تلك المعصية . فلما وضع في قبره صرف وجهه عن القبلة .. يعني المعصية نفسها يعملها مختلق القصة، وما مر غير وقت يسير حتى حدث بالقصة على أنها مشاهدة من بعض الثقات .
وكم سمعنا من إنسان يتحدث عن بلدنا بقصص وأخبار ومشاهد عجيبة ويؤكدها بجميع المؤكدات ويذكر أنها معروفة مستفيضة، وليس في الواقع شيء من ذلك .
لا حاجة بنا إلى حشد عدد هائل من قصص المحتضرين الذين منهم من فعل، ومنهم من فعل، ويذكر عجائب وغرائب .. وعندنا كتاب الله وسنة رسوله حسبنا .
وإذا أحب المتحدث التنويع -ولا بد- فإلى القصص الموثقة المعروفة الأسانيد كبعض الروايات التي ذكرها الإمام الربعي في كتابه : (( وصايا العلماء عند حضور الموت )) وما أشبهه .
على أن ينتقي منها ما صح سنده وسلم متنه وبعد عن التهويل و النكارة . وإذا أحب الحديث عن القبر وعذابه ونعيمه فليكتف بسياق الآية الكريمة التي تجعل المؤمن يقطع بذلك ويجزم به، ثم يسوق من روايات السنة الصحيحة وأخبارها وقصصها ما يلين القلوب . وليختر مثلا مما في كتاب البيهقي (( إثبات عذاب القبر )) أو مما في الكتب الستة أو سواها .
أما الاسترسال مع قصص فلان الذي حدث له كذا وحدث له كذا، وربط إيمان الناس بهذه القصص فهو أمر غير جيد . ويكفي في إيمان الناس أن يؤمنوا بما في الكتاب والسنة ويكفي في تحريك قلوبهم قوارع القرآن وزواجره . " فبأي حديث بعده يؤمنون " ؟
ومما يبرز أهمية ذلك أن الدروس والمواعظ أصبحت تسجل وتنتقل من مكان إلى آخر، ومن طبقة إلى أخرى وهذا اللون من الحديث إن فرض جدلا أنه يلائم فئة من الناس فإن من المؤكد أن من المصلحة حجبه عن فئات كثيرة .
أليس من المحزن أن البعض ينفعلون عند هذه القصص وتأخذهم القشعريرة .. وتمر بهم آيات الوعيد التي تزلزل الجبال فلا تهز منهم وجدانا ولا تحرك فيهم عاطفة ؟
إن في الأمر خللا نساهم نحن أحيانا من حيث لا نشعر في تعميقه، وواجب على الدعاة أن يصححوا الأمر، ويكتفوا بالكتاب والسنة والروايات المسندة التي يعرف رواتها بأشخاصهم، ويدعوا عنهم الرواية عن (( المجهولين )) ولو سماهم البعض (( ثقات )) فقد يكونون ثقات عنده متروكين عند غيره، والله أعلم.
المصدر: مجلة الإصلاح - العدد 245
- التصنيف: