من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تجهيز الجيوش وتأمير الأمراء للجهاد في سبيل الله

منذ 2015-04-15

مشروعية تجهيز الجيوش والسرايا لغزو الكفار في عُقر دارهم ابتداءً، ولو لم يقاتلونا.

الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أما بعد؛

فقد روى مسلم في صحيحه عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمَّر أميرًا على جيش أوصاه بتقوى الله، وبمن معه من المسلمين خيرًا، ثم قال: «اغزوا بسم الله، في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا، وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، فإن أبوا فأخبرهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، ولا يكون لهم في الغنيمة والفيء شيء إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم. وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، فلا تفعل، ولكن اجعل لهم ذمتك؛ فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله، وإذا أرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تفعل، بل على حكمك؛ فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا» (أخرجه مسلم).

هذا حديث عظيم الشأن جليل القدر، تضمَّن هدي النبي صلى الله عليه وسلم مع أمرائه إذا أمَّرهم على الجيوش والسرايا، وهو أنه يوصيهم ويعلمهم ويأمرهم وينهاهم؛ يوصيهم في أنفسهم بتقوى الله، وبمن معهم من المسلمين خيًرا، يأمرهم بالغزو على اسم الله، أي مستعينين بالله، ذاكرين لله، ويعين لهم من يقاتلونه: «قاتلوا من كفر بالله» ، أي من عموم الناس، وينهاهم عن كل ما يقدح في العدل والإحسان والرحمة: «اغزوا، ولا تغلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا وليدًا»، ثم يبين لهم صلى الله عليه وسلم إذا لقوا العدو ما يدعونهم إليه، وهو ثلاثة أمور مرتبة: الدعوة إلى الإسلام، ثم دعوة من أسلم إلى الهجرة، ثم دعوة من أبى الإسلام إلى أداء الجزية، ثم قتال من أبى ذلك كله: «وإذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال، فأيتهن أجابوك إليها، فاقبل منهم، وكف عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين...، فإن هم أبوا ـأي الإسلام ـ فاسألهم الجزية، فإن هم أجابوك فاقبل منهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم»، ويوصَّي صلى الله عليه وسلم الأمير إذا حاصر أهل حصن، أي من حصون العدو، فأرادوا أن يجعل لهم ذمة الله وذمة رسوله، أي عهد الله وعهد رسوله أوصاه ألا يجيبه إلى ذلك، بل يجعل لهم ذمته وذمة أصحابه، وإذا أراد أهل الحصن من أمير المسلمين أن ينزلهم على حكم الله وحكم رسوله فلا يفعل، بل على حكمه، مع بيانه صلى الله عليه وسلم لعلة هذين الحكمين.

وقد اشتمل هذا الحديث على كثير من السياسة الشرعية في الجهاد، وأحكامه الفقهية، فالحديث يعتبر منهجًا للمجاهدين في سبيل الله في قتالهم لأعداء الله الكافرين، وفي الحديث فوائد كثيرة؛ منها:

[1]- مشروعية تجهيز الجيوش والسرايا لغزو الكفار في عُقر دارهم ابتداءً، ولو لم يقاتلونا.

[2]- الردُّ على من يقول: إن الجهاز شُرع دفاعا فقط.

[3]- أن الغاية من الجهاد إعلاء كلمة الله؛ إما بالدخول في الإسلام، أو فرض سيادة الإسلام على البلاد، ففي الحديث: شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله».

[4]- مشروعية تأمير أمير على كل جيش وسرية.

[5]- وصية الإمام لأمرائه بتقوى الله.

[6]- وصيته لهم بمن معهم من المسلمين خيرًا من الإحسان والصبر والعفو والرفق.

[7]- وصيتهم بالاستعانة بالله وإخلاص النية.

[8]- التنبية إلى نوع من يقاتلهم المسلمون، وهم الكفار.

[9]- بيان علة القتال، وهي الكفر بالله.

[10]- فيه شاهد لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ} [التوبة:123]، وقوله: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً} [التوبة:36]، وخُصَّ منهم من جاء النهي عن قتلهم.

[11]- تحريم الغلول.

[12]- تحريم الغدر.

[13]- تحريم التمثيل، وهو قطع أطراف القتيل من الكفار.

[14]- تحريم قتل الولدان، وفي حكمهم النساء والرهبان والشيخ الفاني، وكل من ليس من أهل القتال، كما جاءت بذلك الأحاديث والآثار، ففيه: أن دين الإسلام دين العدل والحكمة والرحمة.

[15]- الدعوة إلى الإسلام قبل القتال.

[16]- فيه شاهد لقوله صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا إله إلا الله» (متفق عليه).

[17]- دعوة من أسلم إلى الهجرة.

[18]- دعوة من أبى الإسلام من الكفار إلى بذل الجزية.

[19]- أن الجزية تؤخذ من عموم الكفار، لا تختص بأهل الكتاب، وإلى هذا ذهب جماعة من أهل العلم، وذهب الجمهور إلى أن الجزية لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب، كما في قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ} [التوبة:29].

[20]- أن الكافر الأصلي لا يكره على الدخول في الإسلام، بل يقر على دينه إذا أعطى الجزية.

[21]- الاستعانة بالله في قتال الكفار.

[22]- مشروعية الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وتجب الهجرة على من لم يستطع إظهار دينه، إلا أن يكون من المستضعفين.

[23]- أن من لم يستطع الهجرة وهو قادر على إظهار دينه فليس له من الغنيمة شيء، وكذلك الأعراب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين.

[24]- أنه ليس للأمير أن يعطي لكافر يريد العهد ـ عهد الله وعهد رسوله ـ بل يعطيه عهده وعهد أصحابه.

[25]- بيان العلة في ذلك من الحديث: «فإنكم إن تخفروا ذممكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله».

[26]- أنه لا يجوز للأمير أن ينزل أحدًا من الكفار طَلب النزول على حكم الله، بل ينزلهم على حكمه وحكم أصحابه.

[27]- بيان العلة في ذلك: «فإنك لا تدري أتصيب فيهم حكم الله أم لا».

[28]- أنه لا يجوز للمستفتي في المسائل الاجتهادية أن يقول: أريد حكم الله. ولا يجوز للمفتي أن يقول في جوابه: هذا حكم الله، بل يقول: هذا حكمي فيما ظهر لي.

[29]- جواز حصار الكفار في حصونهم لإنزالهم بعهد وأمان، أو إنزالهم للحكم فيهم بالقتل أو غيره.

[30]- جواز إضافة العهد والحكم إلى الله ورسوله بالعطف بالواو، وهكذا في كل الأمور الشرعية، كالإيمان بالله ورسوله، وطاعة الله ورسوله، ومحبة الله ورسوله، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عبد الرحمن بن ناصر البراك

عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود

  • 8
  • 4
  • 34,038

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً