أمام ‫‏سُلطة السوق

منذ 2015-04-15

كم من خير تحجبه عنا تلك المخاوف وتحول بيننا وبينه تلك الإملاءات النمطية العقيمة، والسلطة الغاشمة التي سلبتنا قدرتنا على التفكير والاختيار حين قررنا أن نستسلم لها وننهزم أمامها.

ماذا لو كان مستواك المادي متوسطًا وأردت شراء سيارة؟!
كانت النصيحة المتكررة والمتفق عليها عليك وعلى البيجو الـ504، ولو جريء شوية ولك مزاج تغير يبقى ما فيش غير الشاهين، ولو معاك فلوس زيادة وغني ما شاء الله يبقى عليك وعلى المرسيدس التمساحة طبعًا.. وما تفكرش!

أما لو على قد حالك يبقى خليك في الفيات 128 أو تعالى على نفسك شوية وهات 132 ولا 131، تمر الأيام وتحل الهيونداي والدايو محل الفيات، ويتم الاستعاضة عن البيجو بالتويوتا كرولا، والميتسوبيشي لانسر.. وخصوووصًا اللانسر!

- خليك في اللانسر..
- سيبك من الكلام الفاضي التاني..
- سيبك من كونها لا تجدد نفسها تقريبًا من 15 سنة، ومن كون الفوارق بين موديل السنة وموديل عشر سنين فاتوا لا تُذكر.

- المهم إنها لانسر..
- هي اللانسر وما لهاش زي..
- إما اللانسر وإلا فلا.. وممكن يعني لو مستتقل دمها شوية وبتفكر تغير وكدة تشتري كرولا أو سيراتو بس..
أوعى تجرب حاجة تانية، إياك تغامر، إوعاك تفكر، هو السوق عايز كدة.. نفس الحكاية في المحمول..!

في التسعينات وحتى منتصف العقد الأول من الألفينات عاوز موبايل يبقى نوكيا!
وخلي بالك لا بد أن يكون فنلندي -‏‎smile‎‏ رمز تعبيري-، سيبك من أي ماركة تانية، هو النوكيا ما فيش غيره..
ثم يرثه السامسونج طبعًا، سيبك من أي حاجة تاني، السامسونج بيهنج.. طب شحنه سيء.. طيب عيوبه كثرت طيب فكر في HTC أو سوني.. برضه هو السامسونج ولا فيش غيره، وقس على ذلك كثيرًا من الأمور في حياة المصريين..
حالة بشعة من الانهزام للسوق وإملائاته..

نفس الانهزام ستجده في الطموحات، في الوظائف وأسواق العمل وتنسيق الكليات، حتى في المطاعم والأكلات أيضًا يغلب عليها نفس الطابع الانهزامي، بل أيضا في الكلمات والمصطلحات، ممكن تكون اللانسر سيارة رائعة لكن هل يُعقل أن تظل رائعةً من ٢٠٠١ حتى اليوم وهي لا تكاد تطور نفسها شكلاً أو موضوعًا؟!

وممكن يكون السامسونج جهاز جيد لكن مش جايز يكون هناك جهاز أجود؟!
وممكن تكون كليات القمة مهمة ومفيدة لكن الواقع والمنطق يؤكدان أن المجتمعات لا تقوم على تلك المهن وحدها.

ليه خايفين نجرب؟
ليه سمحنا للسوق أن يحبسنا داخل إملاءاته ونمطياته؟ في فترة شبابنا ارتدى مطرب مشهور (بلوفر) بألوان معينة، لم تمر أيام حتى كان جل شباب جيلنا تقريبًا قد ارتدى نفس البلوفر! ولم يكن من الممكن أن تمر في شارع ما دون أن ترى ألوانه المميزة، ربما كانت ألوانًا جميلة ونقوشًا أنيقة وبلوفر في مجمله (شيك)، لكن لماذا لا بد أن نرتديه جميعًا؟
لماذا علينا أن نرضخ للسوق؟ لماذا يقبل بعضنا أن يكون إمّعة؟!

لا أتحدث هنا عن مطلق المخالفة من باب خالف تعرف، لكن أتحدث عن الشجاعة الكافية للمحاولة والتجريب والتغيير، عن منهج حاولت دائمًا أن أطبقه في حياتي، لم أدخل الكلية التي أملاها مجموعي رغم استهجان الكثيرين وإشفاقهم علي من تضييع مستقبلي وإهدار فارق المجموع، بل دخلت كلية أحبها وتوافق ميولي حتى لو كان تنسيقها أقل من مجموعي لكنني، تعلمت ما أردت وغالبًا لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأعدت الكرّة..

لا شك أني قد أستسلمت للسوق أحيانًا، ولا شك أيضًا أن خيار السوق كان أصوب أحيانًا وحين خالفته أصابني ضرر ما، لكنني لم أندم كثيرًا إذا كان الخيار نابعًا عن دراسة ومحاولة للوصول إلى الأفضل من دون إملائات أو ضغوط، ووالله ما جربت يومًا أن أختار ما يناسبني وما أنا مقتنع به إلا ووجدته غالبًا أحسن كثيرًا من ذلك الذي استسلمت فيه للسوق وانهزمت أمام إملائاته التي قد تكون مناسبة للبعض، لكنها يقينًا ليست قرآنًا يناسب الكل..

وكم من خير تحجبه عنا تلك المخاوف وتحول بيننا وبينه تلك الإملاءات النمطية العقيمة، والسلطة الغاشمة التي سلبتنا قدرتنا على التفكير والاختيار حين قررنا أن نستسلم لها وننهزم أمامها.
 

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 0
  • 0
  • 2,263

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً