غنيٌّ عنِّي و عَنْك
لذا وجب عليك يا طالب رضوان الله عز وجل أن تسير على طريقة الأنبياء والمرسلين وتسلك سبيلهم والصراط الذي رسموه لمن يريد الجنان ، فتوقن أنه لا تتم معرفة الله ولا تصح إلا بإثبات الكمال المطلق له في ذاته وفي صفاته وأفعاله ، وبتنزيهه عن جميع النقائص والآفات والمعائب ومشابهة المخلوقين.
- التصنيفات: التصنيف العام -
بعد صلاة الظهر، قطع صمت خشوعي صوت شحّاذ يقول: ساعدوني لديّ أولاد...لكن الله عاوزني أكون كدة...
هزتني عباراته لأناصحه، لكن لعله لن يقبل.
و إذا بفارس يشقّ صفوف الجموع في ذهول، يقترب منه و يرد عليه : تريد أن تشحذ ذاك شأنك لكن اضبط كلماتك يا هذا، فالله الكريم المنّان غنيٌّ عنّي و عنك.
انظر ( حُكم قول: ربنا عاوز كدة؟ )
قد وردَ في ذم المسألة، حدث بكير بن بكير الغفاري، عن أبيه، عن رجل منهم يقال له: فضلة قال: خرج عمر وبين يديه رجل يخطر وهو يقول: "أين بطحاء مكة كديا فعلاها فوقف عليه ثم قال: إن يكن لك خير فلك كرم، وإن يكن لك خلق فلك مروءة، وإن يكن لك مال فلك شرف وإلا فأنت والحمر سواء".
وعن عبد الله بن العيزار قال: قال عبد الله بن عمر: "احرث لدنياك كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا". وعن أنس بن مالك، قال: قال رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم: "ليس خيركم من ترك دنياه لآخرته، ولا من ترك آخرته لدنياه، حتى ينال منها، فإن كل واحدة منهما مبلغة إلى الأخرى، ولا تكن كلًا على الناس".
وروى الحسن أن قيس بن عاصم المنقري قال لبنيه: "إياكم والمسألة؛ فإنها آخر كسب المرء، إن امرأ لم يسأل الناس إلا تركه كسبه، وعليكم بالمال فاستصلحوه؛ فإنه منبهة للكريم، ويستغنى به عن اللئيم".
و في باب بيان أن اليد العليا خير من اليد السفلى وأن اليد العليا هي المنفقة وأن السفلى هي الآخذة
حدثنا قتيبة بن سعيد عن مالك بن أنس فيما قرئ عليه عن نافع عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال وهو على المنبر وهو يذكر الصدقة والتعفف عن المسألة « ». (صحيح مسلم)
فالله سبحانه وتعالى مباين لخلقه في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله، والنقص والعجز والآفات والاحتياج للغير وأمثاله من صفات النقص إنما هي من صفات المخلوقين لا من صفات الخالق عز وجل ، فالله سبحانه وتعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}* (الإخلاص: 4)
قال الله عز وجل مبيناً أنه له الكمال المطلق: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآَخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}* (النحل: 60).
قال الحافظ ابن كثير في تفسير الآية السابقة : {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} أي: الكمال المطلق من كل وجه. تفسير ابن كثير (8/320).
وقال شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية : "وثبوت معنى الكمال قد دل عليه القرآن بعبارات متنوعة دالة على معان متضمنة لهذا المعنى فما في القرآن من إثبات الحمد لله وتفصيل محامده وأن له المثل الأعلى وإثبات معاني أسمائه ونحو ذلك كله دال على هذا المعنى . وقد ثبت لفظ الكامل فيما رواه ابن أبى طلحة عن ابن عباس في تفسير {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} (الإخلاص: 1-2) أن الصمد هو المستحق للكمال وهو السيد الذي كمل في سؤدده والشريف الذي قد كمل في شرفه والعظيم الذي قد كمل في عظمته والحكم الذي قد كمل في حكمه والغني الذي قد كمل في غناه والجبار الذي قد كمل في جبروته والعالم الذي قد كمل في علمه والحكيم الذي قد كمل في حكمته وهو الشريف الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد وهو الله سبحانه وتعالى .
وهذه صفة لا تنبغي إلا له ليس له كفؤ ولا كمثله شيء وهكذا سائر صفات الكمال ولم يعلم أحد من الأمة نازع في هذا المعنى ، بل هذا المعنى مستقر في فطر الناس بل هم مفطورون عليه ، فإنهم كما أنهم مفطورون على الإقرار بالخالق فإنهم مفطورون على أنه أجل وأكبر وأعلى وأعلم وأعظم وأكمل من كل شيء". مجموع الفتاوى (6/72).
وقال في موضع آخر : "والرب حي قيوم غني صمد واجب بنفسه مستحق لصفات الكمال بنفسه ممتنع اتصافه بنقائضها ، فإن كماله من لوازم ذاته الواجبة الوجود بنفسها التي يمتنع عدمها أو عدم شيء من لوازمها ، والمخلوق يجب أن يكون معدوماً محدثاً فقيراً ، فلو تماثلا للزم أن يكون كل منهما واجب الوجود واجب العدم قديماً محدثاً غنياً بنفسه فقيراً بنفسه وذلك جمع بين النقيضين" (الاستغاثة في الرد على البكري 1/195-196) .
وإن تنزيه الله سبحانه وتعالى عن جميع النقائص ، وتقديسه ، ووصفه بالكمال المطلق في ذاته وفي صفاته وفي أفعاله من أصول جميع الأنبياء والمرسلين ، ولقد أشار إلى هذا الإمام الكبير شمس الدين ابن قيم الجوزية في كلام رائع حيث قال:
جميع النبوات من أولها إلى آخرها متفقة على أصول.
أحدها: أن الله سبحانه وتعالى قديم واحد لا شريك له في ملكه ولا ند ولا ضد ولا وزير ولا مشير ولا ظهير ، ولا شافع إلا من بعد إذنه .
الثاني: أنه لا والد له ولا ولد ، ولا كفؤ ولا نسيب بوجه من الوجوه ، ولا زوجة .
الثالث: أنه غني بذاته فلا يأكل ولا يشرب ولا يحتاج إلى شيء مما يحتاج إليه خلقه بوجه من الوجوه .
الرابع: أنه لا يتغير ولا تعرض له الآفات من الهرم والمرض والسنة والنوم والنسيان والندم والخوف والهم والحزن ونحو ذلك .
الخامس: أنه لا يماثل شيئاً من مخلوقاته ، بل ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله .
السادس: أنه لا يحل في شيء من مخلوقاته ، ولا يحل في ذاته شيء منها ، بل هو بائن عن خلقه بذاته ، والخلق بائنون عنه .
السابع: أنه أعظم من كل شيء ، وأكبر من كل شيء ، وفوق كل شيء ، وعال على كل شيء ، وليس فوقه شيء البتة .
الثامن: أنه قادر على كل شيء ، فلا يعجزه شيء يريده ، بل هو الفعال لما يريد .
التاسع: أنه عالم بكل شيء ، يعلم السر وأخفى ، ويعلم ما كان ، وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون ، وما تسقط من ورقة إلا بعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس ولا متحرك إلا وهو يعلمه على حقيقته .
العاشر: أنه سميع بصير ، يسمع ضجيج الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات ، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء ، فقد أحاط سمعه بجميع المسموعات ، وبصره بجميع المبصرات ، وعلمه بجميع المعلومات ، وقدرته بجميع المقدورات ، ونفذت مشيئته في جميع البريات ، وعمت رحمته جميع المخلوقات ، ووسع كرسيه الأرض والسموات.
الحادي عشر: أنه الشاهد الذي لا يغيب ، ولا يستخلف أحداً على تدبير ملكه ، ولا يحتاج إلى من يرفع إليه حوائج عباده أو يعاونه عليها أو يستعطفه عليهم ويسترحمه لهم .
الثاني عشر: أنه الأبدي الباقي الذي لا يضمحل ولا يتلاشى ولا يعدم ولا يموت .
الثالث عشر: أنه المتكلم الآمر الناهي ، قائل الحق ، وهادي السبيل ، ومرسل الرسل ، ومنزل الكتب ، والقائم على كل نفس بما كسبت من الخير والشر ، ومجازى المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
الرابع عشر: أنه الصادق في وعده وخبره ، فلا أصدق منه قيلا ولا أصدق منه حديثاً، وهو لا يخلف الميعاد.
الخامس عشر: أنه تعالى صمد بجميع الصمدية ، فيستحيل عليه ما يناقض صمديته.
السادس عشر: أنه قدوس سلام ، فهو المبرأ من كل عيب وآفة ونقص.
السابع عشر: أنه الكامل الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه.
الثامن عشر: أنه العدل الذي لا يجور ولا يظلم ولا يخاف عباده منه ظلماً.
فهذا مما اتفقت عليه جميع الكتب والرسل ، وهو من المحكم الذي لا يجوز أن تأتي شريعة بخلافه ، ولا يخبر نبي بخلافه أصلاً . فترك المثلثة عباد الصليب هذا كله وتمسكوا بالمتشابه من المعاني والمجمل من الألفاظ وأقوال من ضلوا من قبل وأضلوا كثيراً وضلوا عن سواء السبيل ، وأصول المثلثة ومقالتهم في رب العالمين تخالف هذا كله أشد المخالفة وتباينه أعظم المباينة (هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى ، ص 216-217 ).
ولقد سلك المنتسبون للإسلام زوراً وبهتاناً سنن النصارى حذو القذة بالقذة ، فقسم منهم نسب لله النقص جهرة كما هو الواقع في كثير من المجتمعات كنسبة كثير منهم الجور لرب العزة سبحانه ، وكذلك نفْيّهم الحكمة عن الله في أفعاله ، وغيره كثير مما يطول ذكره مما لا يخفى على أحد ، بل وصل بهم الحد إلى أن سبوا الله عز وجل جهرة ففاقوا بذلك كفر أبي جهل ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ، فنسأل الله عز وجل العفو والعافية في الدنيا والآخرة، وأما القسم الآخر فقد تمسكوا بالمتشابه من المعاني ، وأقوال الملبسين من أئمة السوء الدعاة على أبواب جهنم ، فعذروا القسم الأول بالجهل تارة وبسوء التربية تارة وبالتأويل تارة ، فاعتقدوا إيمان وإسلام من لم ينزه الله سبحانه وتعالى عن جميع النقصان ، ومن لم يؤمن بأن الله سبحانه وتعالى له الكمال المطلق في ذاته وفي صفاته وأفعاله
كقولهم إن من اعتقد أن الله له قدرة عظيمة ولكن جهل قدرته سبحانه على بعض الأمور هو مؤمن موحد ولا نكفره إلا بعد أن نقيم عليه الحجة ، وكقولهم إن من شك في حكمة الله عز وجل في بعض الأمور هو مؤمن موحد ولكن جاهل يعلم ، ولا يكفر إلا إذا أصر بعد التعليم ، فاعتقدوا بذلك إيمان الجاهلين برب العالمين ، وقولهم هذا هو ولاء للمشركين ولا يشك موحد في كفر هؤلاء أعاذنا الله منهم ومن أفهامهم الفاسدة التي أوصلتهم إلى مثل هذا الاعتقاد الكفري ، وزادوا على قبيح اعتقادهم قبيحاً آخر بأن نسبوا هذا الاعتقاد إلى إمام الموحدين وخاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم حتى يحسنوا شركهم وإفكهم ، وحاشاه عليه الصلاة والسلام أن يقبل إسلام امرأ لم يؤمن بأن الله له الكمال المطلق الذي لا نقص فيه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
لذا وجب عليك يا طالب رضوان الله عز وجل أن تسير على طريقة الأنبياء والمرسلين وتسلك سبيلهم والصراط الذي رسموه لمن يريد الجنان ، فتوقن أنه لا تتم معرفة الله ولا تصح إلا بإثبات الكمال المطلق له في ذاته وفي صفاته وأفعاله ، وبتنزيهه عن جميع النقائص والآفات والمعائب ومشابهة المخلوقين.
قال الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية : "نوعي التوحيد الذي لا نجاة للعبد ولا فلاح إلا بهما ، وهما توحيد العلم والاعتقاد المتضمن تنزيه الله عما لا يليق به من الشرك والكفر والولد والوالد وأنه إله أحد صمد لم يلد فيكون له فرع ، ولم يولد فيكون له أصل ، ولم يكن له كفواً أحد فيكون له نظير ، ومع هذا فهو الصمد الذي اجتمعت له صفات الكمال" (بدائع الفوائد 1/243-244) ، وقال في موضع آخر : "وأهل السنة يقولون إن تنزيهه سبحانه عن العيوب والنقائص واجب لذاته كما أن إثبات صفات الكمال والحمد واجب لذاته وهو أظهر في العقول والفطر وجميع الكتب الإلهية وأقوال الرسل من كل شيء " (إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 2/223).
وقال أبو المظفر الإسفراييني : "اعلموا أسعدكم الله إن الله تبارك وتعالى أمر عبده بمعرفته في ذاته وصفاته وعدله وحكمته وكماله في صفته ونفوذ مشيئته وكمال مملكته وعموم قدرته ، ولا تتكامل المعرفة بذلك كله إلا بنفي النقائص عنه وبإثبات أوصاف الكمال له من غير أن يشوبه شيء من بدع المبتدعين وإلحاد الملحدين" (التبصير في الدين وتمييز الفرقة الناجية عن الفرق الهالكين ، ص 13)*.
والأدلة على أن من لم يؤمن بأن الله له الكمال المطلق ومنزه عن النقائص مطلقاً أنه لا يعد موحداً ولا مؤمناً بالله ولا عارفاً به سبحانه كثيرة في كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، بل لا تجد آية في القرآن إلا وتتضمن أحد أنواع التوحيد كما أشار لذلك الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية فقال:
"إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد ، شاهدة به ، داعية إليه ، فإن القرآن إما خبر عن الله وأسمائه وصفاته وأفعاله فهو التوحيد العلمي الخبري ، وإما دعوة إلى عبادته وحده لا شريك له وخلع كل ما يعبد من دونه فهو التوحيد الإرادي الطلبي ، وإما أمر ونهي وإلزام بطاعته في نهيه وأمره فهي حقوق التوحيد ومكملاته ، وإما خبر عن كرامة الله لأهل توحيده وطاعته وما فعل بهم في الدنيا وما يكرمهم به في الآخرة فهو جزاء توحيده ، وإما خبر عن أهل الشرك وما فعل بهم في الدنيا من النكال وما يحل بهم في العقبى من العذاب فهو خبر عمن خرج عن حكم التوحيد . فالقرآن كله في التوحيد وحقوقه وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائهم " (مدارج السالكين 2/563-564)*.
قال شيخ الإسلام: الإله هو المعبود المطاع، فإن الإله هو المألوه، والمألوه هو الذي يستحق أن يعبد وكونه يستحق أن يعبد هو بما اتصف به من الصفات التي تستلزم أن يكون هو المحبوب غاية الحب، المخضوع له غاية الخضوع، قال: فإن الإله هو المحبوب المعبود الذي تألهه القلوب بحبها، وتخضع له وتذل له، وتخافه وترجوه، وتنيب إليه في شدائدها، وتدعوه في مهماتها، وتتوكل عليه في مصالحها، وتلجأ إليه وتطمئن بذكره، وتسكن إلى حبه، وليس ذلك إلا لله وحده، ولهذا كانت (لا إله إلا الله) أصدق الكلام، وكان أهلها أهل الله وحزبه، والمنكرون لها أعداءه وأهل غضبه ونقمته، فإذا صحت صح بها كل مسألة وحال وذوق، وإذا لم يصححها العبد فالفساد لازم له في علومه وأعماله.
و لاستجلاء الحقيقة الجمالية الجوهرية في الإسلام، عقيدةً وشريعةً، يبين الدكتور فريد الأنصاري نوابض الحُسن من ذلك في مجال التدين؛ عسى ألا يعمينا دخان الحرائق المشتعلة بهذا الزمان عن مشاهدة ما لدينا من ثروة جمالية والتجمل بمباهجها، تدينًا نسلك به إلى الله ذي الجمال والجلال، فيقول:
"ولك أن تتفكر في نسبية الزمن عند تقلّب أحوال النفس الإنسانية، بين شتّى ضروب الانتظار مثلا .. عندما تنتظر حلول لحظة سعيدة لم يبق بينك وبينها إلا لحظات يسيرة من دقائق معدودات .. تَشعُر أنها تمر ببطء شديد، وتقلق من طول الانتظار؛ فكأنّ وقع الدقائق تلك في نفسك عدة أعوام. وعندما تحلّ اللحظة السعيدة، تشعر -رغم طول مدتها بالنسبة إلى لحظات الانتظار- أنها قصيرة جدا، فكأن وقتها يتصرم منك تصرما. الزمن نسبي .. وتلك هي حقيقة الأعمار".
والعمر -عند التفكر في الخلق الإلهي- هو حقيقة الإنسان. إذ ليس المرء إلا بداية ونهاية! ساعة ولادة فساعة وفاة. ولكن .. شتان شتان بين عمر وعمر! ليس ذلك باعتبار الطول والقصر؛ إذ الأعمار كلّها قصيرة كما أسلفنا، ولكن باعتبار العرض والضيق، إذ قد يكون العمر طويلا -حسب العد البشري النسبي- ولكن يكون ضيقا من غير سعة. كما قد يكون قصيرا بالاعتبار نفسه، ولكنه عريض جدا، حتى لكأنه لا يكاد ينتهي أبدا.
وبيان ذلك بالمثال التالي: هَبْ أن العمر عبارة عن طريق يقطعها الإنسان، لها امتداد طولي وآخر عرضي. والعادة أن الإنسان إنما ينتبه إلى الطول؛ لأن ذلك هو المتعلق بمفهوم الزمن (الماضي والحاضر والمستقبل)، ولكنه قلّما ينتبه إلى العرض؛ لأن هذا إنما يتعلق بالأعمال والمنجزات خلال كل فترة من فترات الزمن.
فالإنسان في سيره خلال عمره نوعان: نوع يخطو دون أن ينتبه إلى عرض الوقت، فيلتهم من طوله ما هو مقدّر له، فلا يشعر ببركة العمر مهما طال، حسب العد البشري النسبي. ونوع ينتبه إلى العرض؛ ولذلك فهو إذ يخطو الخطوة الواحدة من عمره، لا ينتقل إلى الثانية حتى يخطو مثلها على عرض الطريق لا على طولها ليعيش باقي اللحظات التي هي من الخطوة الطولية الأولى نفسها التي خطاها.
وهكذا يبقى يخطو على عرض الطريق حتى يستوعب كل عرضها. وحينئذ فقط، ينتقل إلى أمام ليخطو خطوة أخرى على طولها، ثم يستأنف بعد ذلك خطوات العرض. فهو إذن يسير طولا وعرضا.
ولذلك كان الإحساس في الدين: (أن تعبد الله كأنك تراه!)(3) فإذا كان العبد قد استشعر الوجود الإلهي استشعار الرائي لحقيقته، فإنه من باب أولى وأحرى أن يكون – في كل أمره – قد استشعر الوجود الغيبي، من العالم الروحاني العلوي، والأخروي، استشعار الصحبة والمعية، التي تنافس الصحبة المادية، والمعية الحسية، في الإدراك والشعور! فيسيح المؤمن في فضاء الله الواسع سياحة لا تنتهي بحد! لا من حيث مجال الوجود، ولا من حيث مجال العمر! إذ يتحرك المؤمن في الدنيا وليس في حسابه وجود الأجيال المقبلة فحسب، ولكن أيضا وجود الخلائق الكونية الروحانية الأخرى، مما ينتمي إلى عالم الغيب الفسيح، فيخالق كل أولئك بخلق الود والمحبة! ومن أجمل الأحاديث في هذا الصدد قول النبي صلى الله عليه و سلم: « » (4) .. هكذا يعيش المؤمن وهو يغرف من جمال صحبة الملائكة، ويعرف لها حقا، ويتذوق من جمال الطهر والصفاء ما يرقي شعوره بالوجود إلى درجة من الدين، لا ينـزع معه إلى الشر إلا خطأ! فأي تدين هذا أم أي فن!
إن الإيمان بالغيب نعمة كبرى حقا!
ويتفرد النداء الإلهي والتعبير القرآني بوصف الناس بـ"العباد"؛ للدلالة على الرضى والحب والإشفاق وكل المعاني الراجعة إلى صفات الله الرحمن الرحيم الودود الغفور؛ وذلك لما للإنسان بوصفه "عبدا" عند الله من مقام وقرب. وإنما العبد: من انقاد قلبه لربه رغبا ورهبا، وخضعت جوارحه لمولاه طاعة وحبا. وتلك هي الصفة التي جاء الدين لإسباغها على الإنسان؛ فيرقيه إلى أعلى منازل العبودية. وذلك أساس مقتضى شهادة لا إله إلا الله. فكأن الدين كل الدين إنما هو إعطاء صفة عبد لهذا المخلوق (الإنسان)، أو كما قال الشاطبي رحمه الله عن وظيفة الدين المقاصدية، إنما هي إخراج المكلف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبدا لله اختيارا، كما هو عبد لله اضطرارا.(8)
ثم إن وصف عبد أو عباد، ولو ورد مجردا عن الإضافة، لا معنى له إلا بتقدير الإضافة. وهي النسبة إلى الله سبحانه؛ أي عبد الله و عباد الله. وقد تأتي العبارة صريحة النسبة والإضافة إلى الله، وهذا فرق جوهري هام جدا، في إطلاق ألفاظ: الإنسان، وابن آدم، وعبد الله؛ إذ ينسب في الأول إلى أصله الخِلقي الجبلي، وينسب في الثاني إلى أبيه، وما تحمله هذه النسبة من دلالة على طبيعة آدم، بينما يتفرد التعبير الأخير بنسبته إلى الله، وكفى بذلك شرفا ورفعة وجمالا.
نصيحة غالية : كيف تتلذذ بقراءة سورة الفاتحة ؟
ولذلك كان وصف "العبودية" في القرآن لا يرد إلا في سياق البشارة والمحبة والرضى الإلهي الكريم. وما لم يكن ظاهره من الآيات كذلك فهو ملحق بهذا الأصل في المعنى؛ لأن الكلية الاستقرائية إذا استقرت "كلية" رجع إليها كل جزيء، ولو بدا أنه شاذ عنها، كما هو مقرر في الأصول.(9) وأوضح مثال لذلك قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] ** .
* كتاب ( منجدة الغارقين ومذكرة الموحدين بصفات الله سبحانه وتعالى التي هي من أصل الدين ) للأخ المهتدي بالله الإبراهيمي.
* * كتاب ( جمالية الدين: معارج القلب إلى حياة الروح ) للدكتور فريد الأنصاري.