المتشرعة والحركيون
محمد عبده المنزلاوي
بين هؤلاء وأولئك ألفينا التربية ملقاة في قارعة الطريق.. لا هي كانت من نصيب اﻷول فتكلل بالخشية واﻹخبات، ولا كانت من حظ اﻵخر فتثمر التزكية والاحتياط! إن الجمع بين العلم والحركة شأن دعاة الهدى عبر القرون، قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "رحم الله عالمًا بدينه بصيرًا بأهل زمانه".
- التصنيفات: الفرق والجماعات الإسلامية - الدعاة ووسائل الدعوة -
العاملون في حقل الدعوة نوعان:
(المتشرعة) الذين خاضوا لجة العلم، وأقبلوا عليه إقبال الظامئ على الماء البارد.. لكنه استغرقهم فانبتوا عن واقعهم، دخلوا بطون الكتب فلم يخرجوا منها، وسلكوا شعاب التراث فتاهوا فيها، والبعض منهم الذي قرر الانعتاق من صومعة التاريخ، خرجوا غرباء عن الحياة.. حدثاء على الواقع، اصطبغت أحكامهم بالبساطة على واقع معقد، معهم نصوص لم يراعوا سياقها ولا زمانها ولا مكانها ولا وافقوا أهلها!
وحينما أنزلوها.. أنزلوها على غير أهلها وعلى غير مناطها، حتى صاروا كالدراويش لا في حلقة الذكر! بل في حلبة المصارعة، لا يدرون شيئاً عن العدو ومكره وحيله وحجم مؤامرته، وخلعوا من اﻷوصاف الفخمة الضخمة على منافقين ومجرمين ارتدوا ثياب الولاية قسرًا وقهرًا، واختلت في يدهم موازين اﻷحكام، كما اختلت في عقولهم المعايير والتصورات!
ونوع ثان هم: (الحركيون) استغرقهم الواقع حتى آذانهم فابتلعتهم أحداثه، وبعثرتهم تفاصيله، وتشعبت بهم مواقف الناس فيه.. وهم مع ذلك أزهد الناس في العلم، وأقعدهم في طلبه، ورغم ذلك يتبجحون على الفريق اﻷول بالفهم، وليت شعري كيف ينتج فهم من دون علم! أو ليس الفهم ثمرة من ثمار العلم؟! كيف يتحرك صاحب الفكرة في الناس بلا تأصيل ولا تدليل؟!
قوم يعزفون على وتر العواطف المحلقة، ويداعبون الخيال المجنح بشنشنات وحنجوريات تخلو من قال الله قال رسوله، حتى إذا ما اكتفت العاطفة وجاء دور العقل للنهل لم يجد شيئًا غير سراب وبرق خلب، فتفرق الناس عنهم إذ لم يجدوا لا شهدًا ولا سمنًا! ولما كان هذا شأنهم ناطحوا بجهلهم الكبار، وتكلم منهم اﻷغمار، ووسعوا ما حقه التضييق، وضيقوا ما حقة التوسعة! وقدموا ما واجبه التأخير، وأخروا ما واجبه التقديم! وتحولت البرجماتية والمكيافيلية إلى دين باسم المصالح والمفاسد! حتى فرغوا النصوص من محتواها، واﻷدلة من مدلولاتها وفحواها، واقتحموا ما لا يحسنون، فأدهشونا بالعجائب!
وبين هؤلاء وأولئك ألفينا التربية ملقاة في قارعة الطريق.. لا هي كانت من نصيب اﻷول فتكلل بالخشية واﻹخبات، ولا كانت من حظ اﻵخر فتثمر التزكية والاحتياط! إن الجمع بين العلم والحركة شأن دعاة الهدى عبر القرون، قال سفيان الثوري رحمه الله تعالى: "رحم الله عالمًا بدينه بصيرًا بأهل زمانه".
وقد اختصر سفيان رحمه الله حاجتنا إلى النوعين متكاملين متناغمين، فعلم بلا فهم لطبيعة الحياة وقصة الصراع: (دروشة وتحجر واستنعاج)، وحركة بلا علم: (عبث ومضيعة وخداج)، وكلاهما تشويه لحقيقة الدين، إنهما مكتملان بمثابة الجناحين للطائر، ولا طيران إلا بهما، ورأس الطائر في الحالين التربية.
ولست أزعم أن اﻷمة عرية عمن يجمع اﻷمرين.. كلا! لكنهم ما زالوا أفرادًا متناثرين لا رابط بينهم، وكلامنا متوجه إلى التيارات العاملة، والمجاميع المنظمة، فهل نعي خطورة هذا الخلل ونسعي في إصلاحه؟!