كيف تغادر بلدك في ثلاثة أيام (2)
للإنسان دومًا نظرة قاصرة، وهو يحب العاجلة، وأنا وجدت من قصة قتل خالتي أن المصائب قد تأتِ بخير في الدنيا قبل الآخرة، وفي قصة موسى والخضر عبر زاخرة، وإذا كان المثل يقول مصائب قوم عند قوم فوائد، فإنني وجدت أن بعض مصائبنا قد تأتِ بخير لنا نحن أنفسنا! لكننا قد لا نعي ما بين السطور حتى يمضي الزمان ويتضح المجهول!
على هامش القصة: أذكر لكم أن جدة أمي -التي كنا في زيارتها وأكدت لها أمي أنها ستبقى في دمشق لن تغادرها-، لم تعلم بمقتل خالتي، حيث خاف الجميع أن يخبرها رفقًا بسنها وصحتها، وعندما علمت بسفرنا المفاجئ وكيف أننا لم نودعها حارت في أمرنا وظلت الأفكار تراودها، وظلت تسأل كل من يمر ببيتها: "لماذا سافرت بيان؟ ألم تقل أنها لن تبرح الشام؟! كيف تمضي هكذا في ثلاثة أيام"! ولم تعلم جدتنا المسكينة بالحادثة إلا بعد بعد مرور سنة وأكثر، عندما سمعت حديثًا لجدي في الرائي وهو يبكي ويتأثر ويقول ابنتي بنان التي اغتالتها يد الظلم والعدوان..
وصلنا إلى عمّان وكانت تسكن هناك خالتي الكبيرة عنان، جلسنا بها أيضًا ثلاثة أيام، وكأنه كُتب علينا أن نحضر في كل بلد أيام جديدة للعزاء، حيث كان بيت خالتي أيضًا يعج بالنساء رغم انتهاء مدة العزاء! ثم غادرنا إلى مكة، حيث وجدنا جدتي في حالة صعبة، تبكي بألم وحرقة، كلماتها تبعث الشفقة، لا تصدق أنهم قد يقتلون أنثى، وبطريقة اغتيال، وكأن الموت قتلاً مقصور على الرجال!
وكان جدي يراعيها يحنو عليها ويداريها، رغم أنني أحسست أن حزنه أكبر، وخاصة أنه يكتمه في قلبه فلا يعبر،
ورغم أن أيام العزاء قد انصرمت فقد مضت ستة أيام، إلا أن فلول الناس كانت تأتي وتملأ المكان، يستقبلهم جدي بابتسامة وترحاب وكأنه ليس في مُصاب، يمازحهم بنكاته ويلقي عليهم النوادر والأشعار، يُضحكهم حتى تعلو أصوات ضحكاتهم وكأنهم في عرس أو بازار!
وكانت جدتي في طرف الدار تبكي وتشتكي من أفعال جدي وتقول: "هل سيصدق الناس حزنك! أم يظنون أنك لا تبالي"، فيقول جدي: "يا عائدة إنني لا أبالي بما يظنه الناس، هل تظنين ويظن غيرك أنني فاقد الإحساس"! لكن ظلمة الليل كانت تكشف ما يخفيه صخب النهار، كانت أصوات بكاء جدي ونشيج آلامه تملأ الدار! لا أدري هل كان ينام أم لا ينام، يصحو وعيناه منفختان وبياضهما بلون الرمان! لله درك يا جدي ما أروعك من إنسان، تشاركنا السعادة والحزن يملأ داخلك، تضحك والدموع تفيض في مقلك! لا تشكو إلا لخالقك، لله درك ما أفطنك !
للإنسان دومًا نظرة قاصرة، وهو يحب العاجلة، وأنا وجدت من قصة قتل خالتي أن المصائب قد تأتِ بخير في الدنيا قبل الآخرة، وفي قصة موسى والخضر عبر زاخرة، وإذا كان المثل يقول مصائب قوم عند قوم فوائد، فإنني وجدت أن بعض مصائبنا قد تأتِ بخير لنا نحن أنفسنا! لكننا قد لا نعي ما بين السطور حتى يمضي الزمان ويتضح المجهول!
فرحيلنا إلى مكة كان به خيرًا كثيرًا، أول الخير أنه بعد مغادرتنا بشهر أو شهرين حدثت قصة خلع حجاب المحجبات في شوارع البلاد، من قبل البنات المظليات، حتى أنني أذكر قصة اشتهرت في الأوساط، أن سيدة فاضلة كبيرة عندما جاءت المظلية تخلع حجابها رجتها بقولها: "يا ابنتي أرجوك لا تفعلي فإن خلع حجابي كبير على نفسي، وهو يمثّل لي كما لو خلعت أنت كل ملابسك"! فما كان من تلك الملعونة إلا أن خلعت كل ملابسها وهي تضحك وتقول: "ها انظري، لا قيمة لأي شيء في نظري"! ثم خلعت حجاب المرأة المسكينة، التي لم تصدق ما تراه! وأي نوع من البشر هذه لا تعرف الحياء؟! ومع أسفي لكل الأخوات اللواتي عانين وعايّن هذه القصة، إلا أنني حمدت الله أننا كنا قد رحلنا!
أما الخير الآخر الذي أصابنا بقدومنا إلى مكة فهو قربنا من جدي، وأيضًا قربنا من الحرم..
وأما قربنا من جدي فهي قصة طويلة كقصص ألف ليلة وليلة، قصة تحتمل صفحات وصفحات تعلمنا خلالها ثقافات ومعلومات، وتعلمنا الخشوع في الصلاة، وتعلمنا كثرة الدعاء، بل لن تصدقوا لقد تعلمنا منه طبخ بعض الأكلات وصناعة أنواع من الحلويات!
الجلوس معه لا يملّ أبدًا، فلديه إلمام بكل علم، فبالإضافة للفقه والتفسير، والأدب والشعر والتاريخ يعرف في علم الفلك والأصوات، وهو فوق هذا بارع ببعض الرياضات -وخاصة حمل الأثقال-، فلديه من كل الأوزان، وكان لزامًا لكل من يعيش معه في نفس الدار أن يتعلم، شاء أم أبى، لكن بطريقة مرغّبة، فأي كلمة أو جملة أو شعر يمر معنا خلال الكلام، علينا فورًا أن نوثقه بإحضار الكتاب، حيث كان دومًا يقول: "ليس العلم بالحفظ في الصدور، وإنما بمعرفة أين وكيف تراجع المسألة"!
ولا زال زوجي إلى اليوم يذكر أفضاله بأن علمه كيف يبحث في أصعب الكتب، ويستخرج جواب كل مسألة فقهية، مهما كانت صعبة ومستعصية! كنا نحمل لسان العرب وهو أثقل منّا، فلا يجب أن يغيب معنى كلمة عنّا، وعلينا أن نجتهد لتعلم لغتنا! وهكذا إذا خطر ببالنا أن نسأله في أي مسألة يعيدنا إلى الكتاب،كي نتبحر ونستفيد في بحثنا عن الجواب..
إن العيش في منزل (علي الطنطاوي) قمة في الروعة، ثقافة وعلم وتسلية ونكتة، ووجه باسم وأب حنون، كان لمنزله القريب من الحرم أيضًا روعة أخرى وفرصة، فكنّا لا نضيّع صلاة فيه، وخاصة حين نفكر في قيمة الركعة بميزان الحسنات، فمن الغباء الاستغناء عن مئة ألف، والصلاة في البيت بينما الحرم على بُعد خطوة، لكن جدتي كانت تقف لنا بالمرصاد إذ كيف نذهب وحدنا ونحن بنات! وكيف نذهب في صلاة الفجر! فكنّا نتسحّب ونهرب، ثم نعود لنجدها تشتكي لجدي وهو يضحك، يجاملها بنعم دون أن يعترض فتقع مشادة لطيفة نكون نحن فيها السبب!
- التصنيف: