المؤثرات التربوية
العوامل الجغرافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية تؤثِّر في تكوين شخصية أفرادها بجوانبها المُختلفة، بما يتلاءم مع كل بيئة ويُناسبها من ظروف.
أبى (يام) أن يلحَق بركب الإيمان، وآثر الإيواء إلى جبال الكفر، فهلك مع أمه ومعظم بني قومه، ولم ينجُ مع أبيه وإخوته، ولم تؤثِّر فيه دعوة أبيه التي استمرَّت تِسعة قرون ونصْفًا.. ذلك الموقف وضعنا أمام قضية مِن أهمِّ القضايا التربوية، تضاربت فيها الآراء واختلفت فيها النظريات بين المفكِّرين والفلاسفة قديمًا وحديثًا، لماذا لم يتأثَّر (يام) بدعوة أبيه، وهل كان سبب كفره تأثُّره وراثيًّا بأمه، أم بيئيًّا ببني قومه؟ وحتى تتضح هذه الإشكالية لا بدَّ مِن دراسة أثر الوراثة والبيئة على تكوين الفرد البدَني والعقلي والنفسي والسلوكي.
أولاً- أثر الوراثة في تكوين الشخصية:
لقد أَوْلَت الشريعة الإسلامية عملية الاختيار بين الزوجين اهتمامًا بالغًا؛ نظرًا لما يرثه الأبناء من الآباء والأجداد من صفات تؤثر على تكوينهم بشكل عام، وقد ورَد في القرآن والسنَّة العديد من النصوص التي تؤكِّد على تأثير الوراثة في تكوين الشخصية الجسمي والعقلي والنفسي والسلوكي، وذلك قبل أن تخرج أبحاث القسِّ (مندل) في هذا الشأن بعد قرون، والتي لم يصدِّقْها الغرب إلا بعد جدل طويل دام عشرات السنين.
وقد أكَّد النبي صلى الله عليه وسلم على أن بعض خصائص الأجداد قد تَكمُن في الفروع ولا تظهر إلا بعد أجيال؛ فعن أبي هريرة: "أنَّ رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ولد لي غلامٌ أسود؟! فقال: « »، قال: نعم، قال: « »، قال: حُمْرٌ، قال: « »، قال: نعم، قال: « »، قال: أراه عرق نزعه، قال: « »" (صحيح البخاري:6847).
وكما يتأثَّر الولد وراثيًّا بأمِّه يتأثَّر أيضًا بأخواله، ويدلُّ على ذلك ما روتْه أم سلمة؛ قالت: "جاءت أم سليم إلى النبي فقالت: يا رسول الله، إنَّ الله لا يستحيي من الحق، فهل على المرأة غسلٌ إذا احتلمَت، فقال رسول الله: « »، فقالت أم سلمة: يا رسول الله، وتحتلم المرأة؟! فقال: « » (صحيح مسلم:313)، وزاد في حديث عائشة: « » (صحيح مسلم:314).
وقد علَّل القرآن الكريم اصطفاء الله تعالى لآل إبراهيم وآل عمران إلى توارُثِهم صفات النبوة وخصائص الاستقامة في قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} [آل عمران من الآية:33]، وقرَّر أيضًا أن الفجور والسوء قد ينتقل من الأجداد والآباء إلى الأبناء، فقال على لسان بني إسرائيل: {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مريم من الآية:28].
وقد رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح الجامع:2928)، وقال لأشجِّ عبد القيس: « » (صحيح مسلم:17)، وفيه قوله: « » (صحيح أبي داود:5225)، وقد بيَّنت السنة النبوية التفاوتَ في الطبائع والصفات: « » (صحيح البخاري:3383).
ثانيًا- الفطرة:
هي تلك الصفات والخصائص التي يتوارثها البشر جيلاً بعد جيل من لدن الإنسان الأول عليه السلام إلى أن تقوم الساعة، ويتساوى في اكتسابها جميع المكلَّفين من البشر، والتي يقوم على أساسها الحساب يوم القيامة.
إذًا هي سرُّ التكليف؛ فالله تعالى قد خلَق كل البشر في صورتهم التي تمكِّنهم مِن دورهم في خلافة الأرض والابتلاء فيها، وجعل لهم حدًّا أدنى من القدرات العقلية يُميِّزون بها بين الحق والباطل، ونزعهم لحبِّ الخير وكراهية الشرِّ.
وقد نسَبَها الله تعالى إليه في قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم من الآية:30]، وهذه النزعات الفطرية قد تَنحرف بتأثير البيئة؛ كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: « » (صحيح البخاري:1358).
ثالثًا- البيئة:
لا يَختلف اثنان حول دور البيئة في تكوين الإنسان النفسي والسلوكي والجسدي كذلك، فلكلِّ مجتمع نظام مِن القيم والمعتقدات وأساليب العيش التي تَحكمه وتتجسَّد في إفراده، يورثها الآباء إلى الأبناء، فالأطفال الذين عُثر عليهم في الغابات، تأثَّروا بتلك البيئة فظهَرت عليهم علامات وَصِفات تُناسب تلك البيئة من التوحُّش والقوة، وحدَّة النظر، والجرْي على أربع.
إذًا العوامل الجغرافية والاجتماعية والدينية والاقتصادية تؤثِّر في تكوين شخصية أفرادها بجوانبها المُختلفة، بما يتلاءم مع كل بيئة ويُناسبها من ظروف.
{الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا} [التوبة من الآية:97]؛ حيث يَغلب عليهم التفكير المادي وقسوة الظروف الجغرافية، على خلاف الحضر، كما يقول ابن عباس: "مَن سكَن البادية جَفا".
وقد نهى الإسلام عن رفقة السوء: {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف من الآية:199]، وأمر بمصاحبة ومجالسة الصالحين: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الكهف من الآية:28].
وبعد العرض السريع للمؤثِّرات الثلاثة، يتبادَر إلى الأذهان سؤال مفاده: أيهما أكثر تأثيرًا في تكوين الشخصية؟
إنَّ شخصية الإنسان محصلة للتفاعل المستمر بين الخصائص الوراثية والنزعات الفِطرية والعوامل البيئية؛ فالمُعطيات الوراثية لا تفعل فعلها، ولا تؤدي دورها، إلا إذا تفاعلَت مع ظروف بيئة مناسبة، ومِن ثَمَّ فالمُعطيات الوراثية سبب لكنه غير كافٍ، ومِن خلال تفاعُل المؤثِّرات الثلاثة تتكون الشخصية وتَحدُث التربية، ويتَفاوت تأثير كلٍّ منهما مِن حيث الشدة والضَّعف بحسب طبيعة الموقف والظروف الملائمة.
التنشئة الاجتماعية:
وتَرتكز عملية التربية كليًّا على الفطرة التي وضعها الله في الإنسان مِن خلال ما وضَعه الله في كل إنسان مِن مَيلٍ للطواعية والتقليد، لا سيما الصغار؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: « »، فالله تعالى قد فطَر الإنسان على العبادة، فإن نشَأ الطفل في بيئة تَعبُد الله قلَّدهم، والعكس صحيح.
وكما ذكرْنا آنفًا أنَّ الإنسان مفطور على إشباع غرائز معيَّنة لولاها لانقرضَت البشرية منذ زمن بعيد؛ مثل الشهوات المادية، ومثل الحاجة للطعام والشراب، وستر العورة، أو الشهوات المعنوية مثل حبِّ الظهور، أو الجنسية.
وقد أنزل الله الكتب وأرسل الرسل لتهذيب تلك الغرائز وتقويمها بما يُحقِّق الغاية مِن خَلقِ الإنسان؛ بحيث لا إفراط ولا تفريط، وجعل الجنة أو النار جزاءً على ذلك، ومِن ثَمَّ فعمل الشيطان كله يَرتكِز حول هذه النقطة: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص من الآية:82]، {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ} [النساء من الآية:120].
أما ما يتعلق بـ(يام) بن نوح -على نوحٍ السلام- فأثَّر فيه ما ورثه من أمه من موروثات ظهرت ونشطت في وجود بيئة ساعدت على ظهورها، في الوقت الذي ساعدت فيه تلك الظروف البيئية على تنحِّي موروثاته من أبيه، ويبرز ذلك نجاة إخوته الآخرين مِن أمٍّ صالحة مع أبيهم؛ ولذلك قال الله تعالى لإبراهيم عندما سأله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة من الآية:124]، رغم اصطفاء الله لآل إبراهيم، وجعل في عقبِه النبوَّة.
نفْس الأمر مع أبناء يعقوب عليه السلام فعَلوا بيوسف ما فعلوه نتيجة ظُروف بيئية ساعَدَت على ذلك، وقد أثَّر فيهم ما ورثوه من خير في التخفيف من حدَّة انتقامهم من يوسف عليه السلام، وفي اعتذارِهم وتوبتِهم على ما اقترفوه في حق أخيهم.