خناق غزّة
منذ 2008-10-14
وأما إذا أهمل داء الهوان من ركون إلى الدنيا وكراهية للموت، فلن نجني إلا مزيداً من النكبات والمثلات، ويدوم مسلسل الإهانات واللطمات.....
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن ولاه وبعد:-
"ابتلينا بزمان ليس فيه آداب الإسلام ولا أخلاق الجاهلية ولا أخلاق ذوي المروءة"، صدق والله - أبو بكر الواسطي (ت321هـ)- في عبارته السالفة، فها هي غزة يُحكم خناقها، ويعظم بلاؤها، ويُطفأ نورها، وتخبو حركاتها، ويتعالى في أرجائها أنين المكلومين، وتوجعات المرضى والمصابين.
فأما آداب الإسلام وحقوق الأخوة الإيمانية تجاه أهل غزة، من إغاثة الملهوف، وإطعام الجائع، وفك العاني، ونصرة المظلوم فقد أضحت عند الكثيرين نسياً منسياً، فلا تعدو دائرة البيانات والتوصيات.
رحم الله سيد التابعين في زمانه أويس القرني، فكان إذا أمسى تصدّق بما في بيته من الطعام والثياب ثم قال: "اللهم من مات جوعاً فلا تؤاخذني، ومن مات عرياً فلا تؤاخذني به" (الحلية 2/87).
وها هو الإمام محمد بن عبدوس (ت 260هـ) يطرق باب صاحبه في ليلة شاتية، ثم يقول: "ما نمت الليلة غماً لفقراء أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه مائة دينار غلة ضيعتي هذا العام، احذر أن يمسي الليل وعندك منها شيء" (ترتيب المدارك 1/435).
فرحم الله تلك الأرواح، لم يبق منها إلا الأشباح.
لا تعرضنّ لذكرنا في ذكرهم*** ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
«»
وأما أخلاق الجاهلية ومرؤاتها فقد اندرست عند الأكثرين، فلا تكاد تعرف إلا في التاريخ والأشعار. ذهب التكرّم والوفاء من الورى وتصرّما إلا من الأشعار، فلقد كان للعرب في الجاهلية من محاسن الأخلاق ومكارم الشيم ما لهم، وقد ورد الأثر بذلك -في حديث طويل- وفيه: «أخلاق للعرب كانت في الجاهلية ما أشرفها بها يتحاجزون في الحياة الدنيا»، قال الحافظ ابن كثير في (البداية 3/145): " هذا حديث غريب جداً .."
ومن ذلك أن مشركي العرب بمكة قد رفضوا حصار الشِّعْب ونقضوا الصحيفة، وأما عرب اليوم -إلا ما شاء الله وقليل ما هم - فلا تسل عن رذائل الأخلاق، ودناءة النفوس تجاه أهل غزة المظلومين.
لقد حوصر المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وانحاز معه بنو هاشم، وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم، "فالمؤمن ديناً والكافر حميّة"، " فلما عرفت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد منعه قومه، فأجمع المشركون من قريش على مُنابذتهم وإخراجهم من قلة إلى الشعب، وقطعوا عنهم الميرة، واستمر الحصار ثلاث سنين، حتى هلك من هلك".
ومع هذا الحصار الخانق، إلا أن مروءات العرب أسقطت هذا الحصار، ونقضت تلك الصحيفة الظالمة "بل إن هذه المروءات تبدو ظاهرة جلية في انحياز كفرة بني هاشم وبني المطلب حميّةً لقومهم، كما أن هذه المرؤات استمرت أثناء الحصار، فهشام بن عمرو يأتي ليلاً بالبعير قد أوقره طعاماً بالليل حتى: يدفعه إلى المحاصرين في الشعب، ويأتي بالبعير قد أوقره بُرّاً فيفعل مثل ذلك، ولما عوتب في ذلك من قبل مشركي قريش، وبلغ ذلك أبا سفيان بن حرب -وكان مشركاً آنذاك-، قال:- "دعوه، رجل وصل أهل رَحمِه، أما إني أحلف بالله لو فعلنا مثل ما فعل كان أحسن بنا".
ثم اجتمع بعضهم ليلاً في الحجون بأعلى مكة، وتعاهدوا على القيام في نقض الصحيفة، وتحقق ذلك وأنشد أبو طالب -عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- في مدح هؤلاء النفر الذين نقضوا الصحيفة، فمما قاله:
جزى الله رهطاً بالحجون تتابعوا على ملأً يهدي لحزْم ويْرشدُ
قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا على مهل وسائر الناس رُقّد
(انظر سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد الصالحي 2/502، 503، 543، 545)
أرأيتَ إلى أخلاق العرب ومرؤاتهم حيال هذه النازلة، إذ لا تفارقك تلك المروءات سواءً قبل الحصار أو في أثنائه أو بعده.
وأما عرب اليوم وكوارث ونكبات غزة ملء السمع والبصر، ومع ذلك فلا تسمع إلا جعجعة ولا ترى طحناً، فطموحهم لا يتجاوز "الإدانة" ، وغاية سعيهم الشجب والثرثرة، وطلب الغوث من مجلس الأمن، والذي لم ينالوا منه حتى مجرد الإدانة!.
لا يزال موقف العرب وأهل الإسلام تجاه هذا الحصار لا ينفك عن الأثرة والأنانية. وعن الخور والجبن، فماذا قدمنا لأهل غزة؟ لا يتجاوز سعي الأكثرين في ذلك عن الدعاء، وقنوت النوازل في الصلوات ولا نزاع في أهمية وعظم الفزع إلى الله عز وجل في مثل هذه الوقائع، لكن بمقدورنا أن نكون أكثر شجاعة وأن نقدِّم بذل المال وإنفاق الصدقات وتعجيل الزكوات في حق هؤلاء الإخوة من أهل الإسلام والسنة، فهم فقراء مساكين وغارمين، وقبل ذلك هم من أهل الثغور والجهاد في سبيل الله تعالى، أفليسوا أحق وأولى بالمواساة والانفاق ؟!.
وإذا كنا نتأسى برسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعاء وقنوت النوازل لأهل غزة، فعلينا أن نتأسى به صلى الله عليه وسلم في الصدقة وبذل المعروف وإغاثة الملهوف كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: "كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار، فجاء قوم حفاة عراة، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، فتمعّر (تغيّر) وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما رأى بهم من الفاقة، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذّن، وأقام فصلى، ثم خطب فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم...} [النساء: 1]، والآية في الحشر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18]، تصدّق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع برّه، من صاع تمره، حتى قال: ولو بشق تمرة، فجاء رجل من الأنصار بصرّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، قال: ثم تتابع الناس حتى رأيتُ كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل (يستنير) كأنه مُذْهبة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء» [أخرجه مسلم].
وقد احتسب العلماء قديماً وحديثاً في جميع التبرعات لأهل الحاجات ومن ذلك ما فعله علماء الأندلس من حثّ أهل الإسلام على بذل المال لأجل فكاك الأسرى من النصارى، فهذا أبو عبد الله ابن الحجام (ت 614هـ) يقوم في جامع إشبيلية، ويحث المصلين على الإنفاق في فكاك الأسرى، فتسارع الناس إلى بذل ما عندهم، وخلع كثير منهم بعض ما كان عليه من الثياب..
وإذا كان الغرب قد نعق بـ "الفوضى الخلاّقة"، فنحن ندعو إلى القوة المُحكمة والمنضبطة.
وهذا الهوان الجاثم على العرب، وذاك الذل والصغار المتلاحق على أمة الإسلام لا يُرفع إلا بخلق الشجاعة، فهي خصلة الأنبياء عليهم السلام والصحابة الكرام رضي الله عنهم، ومن سار على سبلهم من الأئمة الأعلام.
وأما إذا أهمل داء الهوان من ركون إلى الدنيا وكراهية للموت، فلن نجني إلا مزيداً من النكبات والمثلات، ويدوم مسلسل الإهانات واللطمات.
ولا يقيم على خسف يُراد به*** إلا الأذلاّن عيرُ الحي والوتدُ
هذا على الخسف معقول بُرمّته*** وذا يشج فلا يبكي له أحد
المصدر: موقع الشيخ عبدالعزيز
- التصنيف:
سارة .
منذعلي
منذأبو تراب الفلسطيني
منذ