وما توفيقي إلا بالله - (1) مشاهد من التوفيق
تسأل كيف يتأتى التوفيق !.... {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}[هود من الآية:88]، فلتسألهم هم، انظر إلى حال من حالفهم التوفيق تجدهم متوكلين، منيبين، ذاكرين الله كثيرًا، مستغفرين، سائلين الله شاعرين بفقرهم إليه،شاكرين، وكذلك تجدهم بارعين ويستعملون البارعين...
"يا بُنَيّ، خذ مني هذه العبرة، لقد حضرت إلى هذه البلاد كنملةٍ صغيرة، فأعطاني الله هذه النعم الجزيلة، فالزم مسلكي واحذُ حذوي، فاعمل على إعزاز هذا الدين وتوقير أهله، ولا تنفق المال في ترفٍ أو لهوٍ، واقتصد قدر اللزوم، فإن الإسراف والبطر من أعظم أسباب الهلاك".
تلك كانت من وصيته، فتُرى أي رجل هذا؟! الاحتفالات والأفراح تعمُّ روما وأتباعها فرحًا بموته!.. استولى جيشه على "أوترانتو" جنوبي إيطاليا، وأعد البابا العدة للهرب من روما، فكيف لا يحتفلون؟.. كانت نهايته عظيمة، لكنها لم تكن نهاية دولته، والتي صارت في عهد رجل من ذريته الأعظم شأناً والأقوى والأوسع .. ولكن كيف كانت البداية؟
الغبار يثور في أجواء هذا السهل، المعركة الدائرة غير متكافئة، الجيش الأضعف يحاول مواجهة هذه القوة التي أمامه، الصراع عند حدود دولته، إنه يقاتل في سبيل دينه برغم قوة الجيش المغولي، ولكن الكفة لصالح المغول، ترى ماذا سيفعلون إن انتصروا عند حدود الدولة السلجوقية المسلمة و... ما هذا! من أين أتى هؤلاء، إنهم يقاتلون في صفنا، الأمور تتغير الآن، هاهو النصر يلوح.. لقد غلب الجيش المسلم، ولكن مهلًا.. من هؤلاء الغرباء ! هل هم الملائكةٌ ؟!..
تلك كانت البداية، بداية أمةٍ عظيمةٍ، هي جزء من أمة الإسلام، وآخر دوله العظيمة وأحدثها، وهذه كانت المقدمة، مقدمة الجيش، جيش من أطياف الماضي عن بعض جوانب التوفيق، فقط بعض جوانبه، فليس الحديث عن المعنى الوافي للتوفيق، فلنترك هذا لمن هو أهلٌ له، ولننظر نظرةً عن كثب في هذه الأطياف.
لقد نزحت أسرٌ مسلمةٌ من خراسان إبان الاجتياح المغولي للعالم الإسلامي، وبعد موت جنكيز خان أراد البعض العودة إلى الأرض الأمِّ، أرض الآباء، وفي طريقهم لقي قائدهم سليمان بن قيالب مصرعه، وانقسموا من بعده، فمنهم من واصل سيره إلى خراسان، ومنهم من اتجه نحو الغرب ينشدون المقرّ الأمين، وكان القائد لهذه الأسر- نحو أربعمائة أسرة - هو أرطغرل بن سليمان، ولقد لاحت له من بعيد هذه المعركة بين جيش علاء الدين سلطان دولة سلاجقة الروم المسلمة وجيش المغول، لم يكن أرطغرل يعرف الجيشين المتقاتلين، ولكن أخذته النخوة بإعانة الجيش الأضعف فانقضَّ على جيش المغول وقاتلهم حتى انهزموا، وكم كانت فرحة الفريقين بالنصر!، فقد تبين له أن الجيش الذي نصره هو جيش المسلمين، وبالطبع صارت له مكانةٌ عند علاء الدين الذي أقطعه جزءاً من الأرض، واستعان به بعد ذلك في حروبه، وورث عثمان أرطغرل، وعثمان هذا هو من تُنسب إليه الدولة العثمانية.. فتأمل في التوفيق ، وتذكَّر قول الله تعالى {وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ۙ وَلَٰكِن لِّيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا} [الأنفال من الآية:42]، توافق مجيء هذه الأسر مع توقيت المعركة وظهور الضعف في الجيش المسلم، توفيقًا من الله للجيش المسلم للنصر، وتوفيقًا لعباده المؤمنين لتأسيس دولة مسلمة تحيا بها هذه الأمة من جديد، وتصير يومًا أقوى وأوسع دولة في العالم.. وما كانت هذه الوصية إلا وصية محمد الفاتح لابنه فتأمل فيها تحقير نفسه ورؤية فضل الله ورحمته ومِنَّتِهِ وتوفيقه، ولو بحثنا في بعض الملامح من التوفيق له، أو لبعض آبائه، أو لرجل من ذريته وهو السلطان سليمان القانوني لطالت بنا الصفحات، لكنَّنا سنثبُّ وثبةً أخرى، واسعةٌ هي، ولكنها محببةٌ إلى النفس.
هو مقاتلٌ لا يُشقُّ له غبار، من أعلى العراق جاء، على رأس عشرة آلاف قدِم مسرعًا، لم يكترث بالطريق الوعر المخيف قليل الماء، مفازةً مهلكةً قطعها متوكلًا على ربه مع تدبيرٍ وبراعةٍ ليصل قبل فوات الأوان، وقد كان.. كان حقًا قائدًا بالغ الفطنة، فائق البراعة. انضمّ إلى باقي الجيوش المجتمعة، فصارت جيشًا واحدًا، قاده هو، فالهزيمة لها ما بعدها لكلا الفئتين، نظمَّ، عبأ، خطط، و.. وبدأ القتال، وبرغم كل ما فعلوه؛ انكشف المسلمون بعد الهجمة الأولى، كانت أعداد الروم هائلةً بالنسبة إليهم، "إلى أين يا حماة الإسلام وطلاب الشهادة!"، هكذا صاحت النساء، فنساؤهم لونٌ ءاخرٌ من دونه النساء، "قاتلت رسول الله في كل موطنٍ وأفرُّ اليوم! من يبايع على الموت؟"، هكذا صاح أحد الرجال، بايعه أربعمائة ، صدموا الروم، صدوهم غير حافلين بما أصابهم، قُتل من الأربعمائة خلقٌ، وأُثخن الباقون بالجراح، وأفلحت الكرة الثانية، وهُزم الروم شر هزيمة... ما كان هذا؟!... إنه التوفيق.
كان الرجل الذي نادى بالمبايعة على الموت هو عكرمة بن أبي جهل، فتأمل.. قاتل عكرمة رسول الله كما يقول في كل موطن وهرب في فتح مكة، ثم أسلم بعدها،وكان ما سبق من معاداته لرسول الله صلى الله عليه وسلم دافعًا له للبذل في سبيل الله، حتى توافقت قمة البذل في هذه المعركة مع التوقيت المناسب لحاجة المسلمين لها، مع القائد البارع، فمن هو؟
"خالد بن الوليد، قائدٌ عربيٌ، ولد بمكة المكرمة،تعلم الفروسية، وشارك في معاركٍ كثيرة، وانتصر فيها على الأعداء، وفتح بلاد فارس والشام..."، كانت هذه مقدمة الدرس في المرحلة الابتدائية، لا أدري هل أُلغيَ هو الآخر لمواجهة التطرف أم لا، كان الدرس الوحيد الذي ظلَّت مقدمته محفورةً في ذاكرتي إلى الآن، كان هو قائد هذه المعركة الحاسمة، معركة اليرموك، ولكن بم يذكرك إسلامه؟
نعم، صلح الحديبية، الصلح الذي اشتد على المسلمين لبنوده المجحفة، ولكن كان هذا الصلح فتحًا مبينًا، فاتسعت دائرة الدعوة لدين الله، وتمكن من يريد الوقوف على حقيقة الإسلام مِن معرفته، ودخل الكثير الإسلام، ومنهم خالد، فكان سيفًا من سيوف الله، فتأمل كيف كان التوفيق في هذا الصلح {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا . لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا} [الفتح:1-2].
تسأل كيف يتأتى التوفيق !.. {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود من الآية:88]، فلتسألهم هم، انظر إلى حال من حالفهم التوفيق تجدهم متوكلين، منيبين، ذاكرين الله كثيرًا، مستغفرين، سائلين الله شاعرين بفقرهم إليه، شاكرين، وكذلك تجدهم بارعين ويستعملون البارعين.. فلنبدأ بالحديث عن إحدى هذه الصفات وليكن الـ...مهلًا، لقد طال بنا الحديث!، لعلَّ الله يمنُّ على أحدنا ويكتب عن أسباب التوفيق فينفعنا الله بهذا ويكون التوفيق حليفنا، وحتى ذلك الحين، فلنتأمل في أحوال هؤلاء من أقوالهم وأفعالهم، لماذا تظنني بدأت بوصية الفاتح إذن! هل نسيتها!
- التصنيف:
- المصدر: