فجر
لا أحد منهم يستحق دمعة طُهر منكِ يا صغيرة..
قُلوبهم خَواء، وإنسانيتهم مَحض زَيفٍ وعبث كريه..
حينَ تُثقلهم كلماتهم الساخرة الجَوفاء.. يُثرثرونها كمن لا ينقطع!
غير أن الودّ في قلوبهم لم يحظ سوى برسم الحُروف وفقط.
- التصنيفات: الشعر والأدب -
(1)
لا أحد منهم يستحق دمعة طُهر منكِ يا صغيرة..
قُلوبهم خَواء، وإنسانيتهم مَحض زَيفٍ وعبث كريه..
حينَ تُثقلهم كلماتهم الساخرة الجَوفاء.. يُثرثرونها كمن لا ينقطع!
غير أن الودّ في قلوبهم لم يحظ سوى برسم الحُروف وفقط.
(2)
أطرقتْ قليلًا.. ثم التفتَتْ إليها وشبح ابتسامة مُبهمة على ثغرها.. وقالت:
أحيانا نتوقف رُغمًا عنا..
قد نفكر للحظات ثُمّ نتغافل، ونُعدّ الأمر مجرد مُصادفة.. ليس إلّا.
نتيجة لحدث صغير أو كبير.. أيًا يكن.. لا بأس!
المهم .. أن نخطو خطوة نحو تغيير مسار ما في حياتنا..
لنراجع قراراتنا واختياراتنا السابقة..
تُرانا اهتدينا.. أم أننا ظلمنا أنفسنا، وانسقنا مع هوانا..
فكان الخطأ حليفنا ورفيقنا الأقوى!
حسنًا .. دعيني الآن أتحدّث عن شيء آخر، لربما نصل في النهاية..
لن أخبركِ كيف أغصّ بالوجع من بعد منتصف كل ليلة خاصة ..
حين يخيم الصمت.. ابتداءً من غرفتي المُطلّة على شارعنا الساكن تمامًا ..
أتخيل أحيانًا أن الشُّهداء قد ارتاحوا.. وينعمون حيث قُدر لهم.. هانئين مُطمئنين..
المعتقلين قد يسبحون في ملكوت غير هذه الدنيا، بعدما نزفت جُروحهم، وأثقلتهم قروحهم
وجفت البطون إلا من الفُتات..
والأطفال... إيييي وماذا أقول عنهم..
لربما انتصر عليهم النوم في هذه الساعة المتأخرة..
في جوء بارد قاس وعالم أقسى..
..
حسنًا ربما أنا مخطئة في كل هذا..
رُبما تلاحقنا لعنات الشهداء حين تفوح لهم من هذه الدنيا رائحة الصلح والهَوان..
وينظرون لعبث يسري في أوقاتنا.. عبثٌ يُقهقهُ رُبما
من وقت كان الدم يغلي في وجوهنا ونحن نصرخ بملء الفم بشعارات سخيفة ..
ورُبما ينبغي ألا أثقلكِ بتعداد الأمور الأخرى التي لن تصل حتى للمستوى الذي نُبرر فيه قليلًا عجزنا
وقلة حيلنا ومحاولة تحسس شيء من أن الأيام تمرّ .. وأنهم جميعًا بخير ..
سيكونون بخير حتمًا.. وهم غير ذلك لو صدقنا!
وبمناسبة الصدق .. لم آتِ الآن لأخبركِ كم أنّ الكتابة تودّ لو تصفع كاتبها..
في زمن باتت قوافل الموت أضعافًا مضاعفة من مواكب الأفرح..
وعلى طريق ليس بالبعيد طفل كُفر جوعه وخوفه وتجمد أطرافه أقوى من إيمان نُعاسه..
ماذا بعد.. !؟ (سألَتها)
تنهدت .. ثُمّ أردفتْ:
ربما ليس هناك داعٍ أصلًا للحديث عن بُؤس هذا العالم حولَنا..
هو لا يحتاج من يحكيه .. فلنَصمُت عنه..
(قاطعتها دون وعي منها) وأكملتْ عنها:
أجل .. ولكن ليس تغافلًا وعيشًا في وهم حياة لا تمتّ لواقعها بأدنى صلة..
سنصمُت.. لنُنصِت.. ونترك المجال لأفعالنا قليلًا!
..........
(3)
تَفَلَّتَتْ من حوارهم الذي رأته رَكيكًا مُبتذلًا.. وعادت لشُرودها بعيدًا ...
(4)
هي ليسَت باليائسة الحزينة التي لا تعي سببَ وجودها هُنا.. فتمضي عبثًا.
ولا بالضّعيفة التي لا ترى من الدنيا إلا خيوطَ سوادها..
فقط كانت مُفعمة بالأمل الصادق.. كفراشة خرجت لتوّها من شرنقتها..
غير أنها على دراية أن النّار تلفح، وليست ضوءً مُبهرًا وحسب.
فكانت ترنو للوعي في كُلّ حركاتها.. وتؤمن أنّ من تَرَدَّى بهم الحالُ قبلها..
لم يطلبو الوَعي بصدق .. لم يعملو لينالوه .. فهلَكوا !
(5)
تُثقلها كَبواتُ هذه الأمّة .. تغار عليها ككُلّ محب صادق يرنو لحياتها ..
مُشفق على غيبوبتها الطويلة .... ولكنها آمنت أنّ البُؤس والنَّدب
وعدّ الأوجاع والجروح المُثخنة وإحصائها وتوبيخ من لهم يد من قريب أو بعيد.. ليس بالحل أبدًا.
(6)
صوته الصادح بَدَا شاذًا في موقف الحافلات أثناء انتظارها ...
ولكن سُرعان ما تسرّب بخفّة لكل خليّةٍ فيها...
استسلمت له تمامًا وكأنّها لا تسمع سواه..
وغرقت في تفاصيل كُلّ كلمة ..
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ، وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ . لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ . لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ . هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ . هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ . هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر:18/24]
ابتسمت برضا .... ولفحتها نسمات هواء طيّبة مع انطلاق السيارة.
(7)
عبثت قليلًا في غُرّتها المتدلّية على وجهها..
أزاحتها للخلفِ، وضمّتها مع بقيّة شعرها المُبعثر..
حرّكت كرسيًّا صغيرًا جوار المكتب.. وأخرجت سلسلةَ كتبٍ من الرّف العلويّ.
"كيمياء الصلاة" أمسكت بكتيب من السلسلة..
ثم جلست أرضًا كعادتها.. وانهمكت في معانٍ جديدةٍ عليها تمامًا..
لم تشعر إلا وصوتُ المؤذنِ يُعلنُ صلاة الفجر.
قرأتْ الجزءَ الأوّلَ وشارفت على نهايةِ الثاني.. لا تدري كيف!
رفعت يدها، وتركت رفيقَها الثاني من السلسلة جانبًا على حافة المكتب ..
(8)
توجّهتْ نحو شُرفتِها .. وقفتْ أمامها وأخذتْ نفسًا عميقًا من هواء الفجر المُنَدّى...
ثُمّ وجدت نفسها تقول يا رب يا رب! أُريد أن أكون من هذه المنظومةِ المتكاملةِ
رائعةَ البهاءِ والجلال في كونك.. أن تستخدمني.. تَحلَّ عَلَيَّ رحمتُك.. وتشملُني نظرةَ رضاك..
فأسعى في دُروب عُمري.. دُونما أدنى كلل..
أن تَتَفَتَّح القلوبُ فأنُفثُ فيها حبًّا ورحيقـًا من جمال تفضّلت عَلَيَّ به يا صاحب الجمال..
فأحيا على الصلاة .. أرتقي بالصلاة .. أثابرُ وأعملُ بالصلاة في كُل خطوة في كونك..
شُكرًا يا رب على كُلّ شيء لأنك جعلتني أداةً بكلمة.. بهمسة.. ببسمة..
بدعاء صادق أبثه وأستودعك إياه ...
أتمِمْ عليَّ نعمتك.