وقفات مع حديث: «آلفقر تخافون؟»
أيمن الشعبان
لا ينبغي أن نخشى ذلك بل الخوف الفعلي من انفتاح الدنيا وزينتها علينا، وهذا والله أمر ملموس حتى أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول: "ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر".
- التصنيفات: شرح الأحاديث وبيان فقهها -
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته أجمعين، وبعد:
قال عليه الصلاة والسلام: « » (حديث حسن، صحيح الجامع).
الحديث فيه: "بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم للأمة بأن الله سيغنيهم من بعد فقرهم، ولكنه يحذرهم من هذا الغنى الذي ينسي العباد عبادة ربهم فلا يزال حب الدنيا بهم حتى تزيغ القلوب بعد استقامتها، وتضل بعد هداها، وتكون الدنيا سبب فتنتهم" (من شرح الجامع الصغير للمناوي).
يحذر عليه الصلاة والسلام بطريقة الاستفهام الإنكاري الخوف الفعلي الحقيقي من الفقر؟!
فلا ينبغي أن نخشى ذلك بل الخوف الفعلي من انفتاح الدنيا وزينتها علينا، وهذا والله أمر ملموس حتى أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه يقول: "ابتلينا بالضراء فصبرنا وابتلينا بالسراء فلم نصبر"، فالذي تضرر منه كثير من الناس الغنى لا الفقر يقول ربنا سبحانه {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ . أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ} [العلق:6-7].
مَرَّ قيسُ بن زهير -وهو شيخ من مشايخ القبائل في الجاهلية- بقومه؛ فوجدهم فقراء، قال: "الحمد لله".
قالوا: "ما لك؟"، قال: "يتعاونون ويتساعدون، ثم مَرَّ بعد سنة"، وإذا هم أغنياء، عندهم خيل وبقر وإبل، فغضب، قالوا: "ما لك؟"، قال: "يتقاتلون"، وما مَرَّ على كلامه أشهر إلا وقد وقعت مقتلة بينهم.
ثم أقسم عليه الصلاة والسلام أن الدنيا ستفتح علينا جميعًا بل ذكرها بصيغة مبالغة وتوكيد « »، لكن للأسف سننخدع بهذه الدنيا وزينتها وبهارجها، ونغرق فيها ونجري خلفها ونركض ورائها، مع أن الدنيا كلما اقتربت منها هربت منك، وكلما ابتعدت عنها سارعت إليك.
كذلك بين عليه الصلاة والسلام أن سبب الانحراف عن الصراط المستقيم أساسه وأصله ولب الموضوع؛ كثرة تعلق القلوب بالدنيا وزخارفها، وهذا أمر مشاهد للأسف فكثير من المسلمين قد تأثروا وصرفتهم الدنيا بملذاتها وشهواتها، حتى قصروا كثيرًا عن حقوق خالقهم والمنعم عليهم، كما فرطوا بكثير من الطاعات حتى وقعوا بالمحذور والمنهيات، ناهيك عن التقصير بحقوق الناس سيما ذوي القربى وحصول القطيعة والجفاء، نسأل الله العافية والهداية لجميع المسلمين.
بعدها يقسم عليه الصلاة والسلام أنه ترك صحابته الكرام على أتم حال وأفضل طريقة، بوصف دقيق غاية في الروعة والبلاغة، « » وهي الطريقة الواضحة ناصعة البياض، والطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، أي وضّح وبيّن هذه الشريعة بلا لبس ولا غموض ولا ريب أو شك، ولا مجال لأن نفتح باب البدع والإضافة على الدين (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة من الآية:3]، قال السعدي: "أي: اخترته واصطفيته لكم دينًا، كما ارتضيتكم له، فقوموا به شكرًا لربكم، واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها".
قوله « »: "ظاهر السوق أن هذا بيان لحال القلوب لا لحالة الملة، والمعنى على قلوب هي مثل الأرض البيضاء ليلاً ونهارًا، ويحتمل أن يكون لفظ المثل مقحمًا والمعنى على قلوب بيضاء نقية عن الميل إلى الباطل لا يميلها عن الإقبال عن الله تعالى السراء والضراء فليفهم" (ذكره المناوي في شرح الجامع الصغير).
لذلك قال عليه الصلاة والسلام: « »، وهنا إشارة لأهمية القلب وضرورة تعاهده، حتى أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: « » (صحيح مسلم:1599).
وعن طريق القلب يكون التعلق بالدنيا، فيتمنى ويشتهي ويطلب كل ما راق له، وإذا أراد الإنسان إشباع الغريزة التي في القلب والسير على هواه، فإنه يهلك ويُهلِك بقية الجوارح، لأنه ملك والبقية جنود.
اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، وسدد ألسنتنا للحق، ونقِّ قلوبنا من الرياء والسمعة والشهوات والزيغ والهوى، ونعوذ بك ربنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.