(20) اليقين
مدحت القصراوي
إنه ما كان لفطرة نظيفة أن تحتاج إلى اليقين في وجود الله أو استحقاقه العبادة، لكن لما غلب انتكاس الفطرة، وتسلط شياطين البشرية على أجهزة التوجيه والإعلام والتعليم والتربية والدراسات العليا، مشككين ومستهترين بوجود رب العالمين، وضاغطين على النفوس إلى إنكار وجوده تعالى أو إهمال هذا الوجود.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
إذا بان لك وجوب الهجرة إلى الدار الآخرة، وإذا بان لك أحقية رب العالمين في الطاعة واتباع المنهج وبذل الجهد في التربية عليه.. تأتي خطوة اليقين قبل المضي في الطريق، ذلك أن اليقين نقطة فارقة، تجعل العبد يسير بنظام الوثبات مع الثبات عليها وعدم التراجع ليقينه بغايته واستشعاره باقترابه منه يومًا بعد يوم، فما بقي يصبح كل يوم أقل، حتى اللقاء.
إنه ما كان لفطرة نظيفة أن تحتاج إلى اليقين في وجود الله أو استحقاقه العبادة، لكن لما غلب انتكاس الفطرة، وتسلط شياطين البشرية على أجهزة التوجيه والإعلام والتعليم والتربية والدراسات العليا، مشككين ومستهترين بوجود رب العالمين، وضاغطين على النفوس إلى إنكار وجوده تعالى أو إهمال هذا الوجود.
ومعنى الإنكار معروف، أما إهمال وجوده تعالى فمعناه ألا يكون لمعرفته والتصديق به أثر عملي على حياة الناس، والعجيب أن في مثل هذا نزل قرآن يُتلى، فقد قال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة:57]، والتصديق هنا منصرف للإقرار بوجوده تعالى ولمقتضى هذا التصديق بوجوده من إفراده بالعبادة والطاعة، يقول البيضاوي: "{نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} بالخلق متيقنين محققين للتصديق بالأعمال الدالة عليه.." (تفسير البيضاوي).
ولبداية الطريق لا بد من اليقين، ولوجود قُطّاع الطريق لا بد من اليقين، فقد تسلطوا بأعمال منهجية تشكك النفوس في اليقين الأعظم لتحرم الناس من معرفة غاية وجودهم، فيُفسدوا وتفسد بهم الحياة، وطلب اليقين مشروع ومطلوب، بل علّق الله تعالى به الانتفاع بالآيات المخلوقة {قَدْ بَيَّنَّا الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [البقرة من الآية:118]، {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:4]، {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات من الآية:20]، وعلق به الانتفاع بالآيات المتلوة {هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية:20]، ورفع عبادًا له لدرجة الإمامة في الدين بسبب اليقين مع ما قاموا به من الصبر {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
وقرر تعالى أنه لا بدأن يكون للعبد أمور يقينية يبني عليها، وهذه الأمور هي ما فُطر عليه وشهدت على صحة هذا الرسل، ولهذا قال موسى لفرعون لما سأله: "وما رب العالمين" قال: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ} [الدخان:7]، يقول شيخ الإسلام: "يعني إن كنتم توقنون بشيء فهذا أظهر الأشياء وأعظمها يقينًا، وإلا فأنتم لا توقنون بشيء".
والله تعالى لم يجعل عباده في حيرة وشك، بل فطرهم تعالى على فطرة تعرف الله تعالى وتقرّ به وتحبه، وجعل فيها من البدهيات التي تشهد بها، ومن معرفة وحب والحق والعدل والصدق، وكراهة وإنكار الكذب والفسق والظلم وغيره، وغير هذا من البدهيات والأمور الفطرية التي علمها ضروري في كل نفس ما تتلقى به الرسالة وتبني عليه العلوم.
ولهذا فالرسل جاءت لتقرير الفطرة وتكميلها، ولم تأتت لتغييرها وتحويرها، ولهذا تشهد الفطرة للحق المنزل، والحق المنزل يؤكد ما في الفطرة من العلوم والإرادات الصحيحة، وينكر عليها ما طرأ عليها من التحوير والانحراف، ولهذا قال تعالى عما أنزل {نُّورٌ عَلَىٰ نُورٍ} [النور من الآية:35]، يعني نور الشرع والقرآن الذي يتنزل على نور الفطرة الصحيحة.
لهذا فاليقين هو الأصل، وهو الميسور، ولهذا مدحه الشرع وعلّق عليه الانتفاع بالآيات، وشرع طلبه ومدح الزيادة فيه، وجعل الترقي في مدارجه جائزة وثوابًا، وجعل أعلى المنازل بعد الأنبياء درجة الصديقية وهي التصديق بالحق وللحق، بمعنى التصديق به علمًا وعملاً، تصديقًا كاملاً يستلزم التسليم المطلق.
ولما كان اليقين هو أصل الفطرة الذي تأتي الرسالات لتقريره وتأكيده عُد الشك جريمة، فقال تعالى {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُّرِيبٍ} [سبأ:54]، وقيل للكافرين المنكرين للبعث وهم في النار: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية:32]، وعاب على المنافقين شكهم فقال: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة من الآية:1]، وأشهر الأقوال فيه أنه الشك، فلم يكن الشك عذرًا بل كان جريمة، لأنه ليس صادرًا عن نقص الدليل، فهذا غير وارد لأن الحق واضح تعرفه الفطرة، وجاءت به الرسل وما من رسول إلا ومعه من الأدلة ما على مثلِه آمن الناس، كما قال صلى الله عليه وسلم، بل إن أدلة الحق لتتزاحم على القلوب.
وفي مثل قوله تعالى: {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، وقوله: {للْمُوقِنِينَ} للعلماء في هذا اليقين ثلاث أوجه كلها مطلوبة:
1- يوقنون: يعلمون حقائق الأشياء، وهذا قول الطبري.
2- يوقنون: المشرفون على اليقين، يعني: بعلمهم بالقرآن ونظرهم فيه فهم مقبلون ومشرفون على اليقين.
3- يوقنون: يطلبون اليقين، وهذا قول ابن كثير والبيضاوي.
فالقرآن يرغّب في طلب اليقين ويجعله مطلبًا لخيرة خلقه، وهو البحث عن الحقائق بأدلتها، فقد قال إبراهيم عليه السلام: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة من الآية:260]، وقد نفى عنه رسول الله الشك، وما طلبه إنما هو درجة المشاهدة في اليقين يعني: الترقي في مدارجه، بل كان عليه السلام من أول طريقه صاحب اليقين الثابت: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ} [الأنعام:75]، ولهذا نكتب جملاً عامة في اليقين في الله تعالى، واليقين في الدار الآخرة، واليقين في الرسالة، واليقين في الكتاب العظيم..