(13) لماذا نعبد الله؟
مدحت القصراوي
من كان مراده وحبه الله، وحياته في معرفته، ومحبته في التوجه إليه وذكره، وطمأنينته به، وسكونه إليه وحده، عرف هذا وأقرّ به.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
2- الفقر الى الله..
وفي كلام أغلى من الذهب يقول ابن القيم عن أحكام الشريعة وتعليلها، هل هي رياضة للنفوس أم لمجرد العوض في الآخرة والمجازاة لدخول الجنة؟ فقال رحمه الله: "بل الأمر أعظم من ذلك كله وأجلّ، بل أوامر المحبوب قرة العيون، وسرور القلوب، ونعيم الأرواح، ولذّات النفوس، وبها كمال النعيم؛ فقُرّة عين المحبّ في الصلاة والحج، وفرح قلبه وسروره ونعيمه في ذلك وفي الصيام والذكر والتلاوة، وأما الصدقة فعجب من العجب، وأما الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله والصبر على أعداء الله سبحانه فاللّذة بذلك أمر آخر لا يناله الوصف ولا يدركه من ليس له نصيب منه..
وكل من كان به أقوم كان نصيبه من الالتذاذ به أعظم، ومن غلظ فهمه وكثف طبعه عن إدراك هذا فليتأمل إقدام القوم على قتل آبائهم وأبنائهم وأحبابهم، ومفارقة أوطانهم وبذل نحورهم لأعدائهم، ومحبتهم للقتل وإيثارهم له على البقاء، وإيثار لوم اللائمين وذم المخالفين على مدحهم وتعظيمهم، ووقوع هذا من البشر بدون أمر يذوقه قلبه من حلاوته ولذّته وسروره ونعيمه ممتنع، والواقع شاهد ذلك، بل ما قام بقلوبهم من اللذة والسرور والنعيم أعظم مما يقوم بقلب العاشق الذي يتحمل ما يتحمله في موافقة رضى معشوقه، فهو يلتذ به ويتنعم به لما يعلم من سرور معشوقه به..
فيا منكرًا هذا تأخر فإنه *** حرام على الخفاش أن يبصر الشمسا
فمن كان مراده وحبه الله، وحياته في معرفته، ومحبته في التوجه إليه وذكره، وطمأنينته به، وسكونه إليه وحده، عرف هذا وأقرّ به.
الأصل الثاني: كمال النعيم في الدار الآخرة أيضًا به سبحانه برؤيته وسماع كلامه وقربه ورضوانه، لا كما يزعم من يزعم أنه لا لذة في الآخرة إلا بالمخلوق من المأكول والمشروب والملبس والمنكوح، بل اللذة والنعيم التام في حظهم من الخالق تعالى أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال، وفي دعاء النبي الذي رواه الإمام أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم في صحيحيهما « »، ولهذا قال تعالى في حق الكفار: {كَلاّ إِنّهُمْ عَن رّبّهِمْ يَوْمَئِذٍ لّمَحْجُوبُونَ . ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15-16]، فعذاب الحجاب من أعظم أنواع العذاب الذي يعذب به أعداءه.
ولذّة النظر إلى وجه الله الكريم أعظم أنواع اللذات التي ينعم بها أولياءه، ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقام حظهم من رؤيته وسماع كلامه والدنو منه وقربه، وهذان الأصلان ثابتان بالكتاب والسنة وعليهما أهل العلم والإيمان" (طريق الهجرتين، جـ1، ص101-103).
وكان شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ كثيرًا ما يتمثل ببيت شعر كان يمثل مأخذه في طريقه لربه تعالى وتعبده، وكثيرًا ما كان يقوله، فكان يقول:
والفقر لي وصف ذات لازمٌ أبدًا *** كما أنَّ الغِنى وصفٌ له ذاتي
حتى أن بعد موته رحمه الله يقول ابن القيم: "فرأيته في المنام يقول نفس هذا البيت"، وذلك من شدة تمثله به رحمه الله وتنبيهه أنه أساس الطريق لرب العالمين.
يقول شيخ الإسلام عن بعض العارفين: "فمن تمام نعمة الله على عباده المؤمنين أن ينزل بهم الشدة والضر، وما يلجئهم إلى توحيده، فيدعونه مخلصين له الدين، ويرجونه لا يرجون أحدًا سواه، وتتعلق قلوبهم به لا بغيره، فيحصل لهم من التوكل عليه، والإنابة إليه، وحلاوة الإيمان، وذوق طعمه، والبراءة من الشرك ما هو أعظم نعمة عليهم من زوال المرض والخوف، أو الجدب أو حصول اليسر وزوال العسر في المعيشة؛ فإن ذلك لذّات بدنية ونعم دنيوية قد يحصل للكافر منها أعظم مما يحصل للمؤمن..
وأما ما يحصل لأهل التوحيد المخلصين لله الدين فأعظم من أن يعبر عن كنهه مقال أو يستحضر تفصيله بال، ولكل مؤمن من ذلك نصيب بقدر إيمانه، ولهذا قال بعض السلف: (يا ابن آدم لقد بورك لك في حاجة أكثرت فيها من قرع باب سيدك) وقال بعض الشيوخ: (إنه ليكون لي إلى الله حاجة فأدعوه فيفتح لي من لذيذ معرفته وحلاوة مناجاته ما لا أحب معه أن يعجل قضاء حاجتي خشية أن تنصرف نفسى)" مجموع الفتاوى، جـ10، ص333).