(14) لماذا نعبد الله؟
مدحت القصراوي
من علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به؛ فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف.
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية -
3- الفقر إلى الله.
يقول شيخ الإسلام أن: "..نفس الذوات المخلوقة مفتقرة إلى الصانع، وأن فقرها وحاجتها إليه وصف ذاتي لهذه الموجودات المخلوقة، كما أن الغنى وصف ذاتي للرب الخالق، وأنه لا علة لهذا الافتقار غير نفس الماهية وعين الإنّية، كما أنه لا علة لغناه غير نفس ذاته" (مجموع الفتاوى، جـ2، ص9).
"ففي القلب شعث لا يلمّه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يُذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يُسكّنه إلا الاجتماع عليه والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضى بأمره ونهيه وقضائه ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدًا.
فالتفرق [1] يوقع وحشة الحجاب، وألمه أشد من ألم العذاب؛ قال الله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ . ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين:15-16]، فاجتمع عليهم عذاب الحجاب وعذاب الجحيم" (مدارج السالكين، جـ3، ص164).
ويقول أيضًا رحمه الله بعد كلام، أن العبد لا بد أن يشهد أنه:
"..لا بلاغ إلا بالله وحده؛ فإنه لا يوصل إليه إلا هو، ولا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يصرف السيئات إلا هو، ولا يدل عليه إلا هو، وإذا أراد عبدَه لأمر هيأه له؛ فمنه الإيجاد ومنه الإعداد ومنه الإمداد، وإذا أقامه في مقام -أي مقام كان- فبحمده أقامه فيه، وبحكمته أقامه فيه، ولا يليق به غيره ولا يصلح له سواه، ولا مانع لما أعطى الله ولا معطي لما منع، ولا يمنع عبده حقًا هو للعبد فيكون بمنعه ظالمًا له..
بل إنما منعه ليتوسل إليه بمحابه، ليعبده وليتضرع إليه ويتذلل بين يديه ويتملقه ويعطي فقره إليه حقه؛ بحيث يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة فاقة تامة إليه على تعاقب الأنفاس، وهذا هو الواقع في نفس الأمر وإن لم يشهده العبد، فلم يمنع الرب عبده ما العبد محتاج إليه بُخْلا منه ولا نقصًا من خزائنه ولا استئثارًا عليه بما هو حق للعبد، بل منعه ليرده إليه، وليعزه بالتذلل له، وليغنيه بالافتقار إليه، وليجبره بالانكسار بين يديه، وليذيقه بمرارة المنع حلاوة الخضوع له ولذة الفقر إليه، وليلبسه خِلعة العبودية، ويوليه بعزله أشرف الولايات" (زاد المعاد، جـ2، ص325).
ويقول رحمه الله:
"...ومن علامات صحة القلب أنه لا يزال يضرب على صاحبه حتى ينيب إلى الله ويخبت إليه، ويتعلق به تعلق المحب المضطر إلى محبوبه الذي لا حياة له ولا فلاح ولا نعيم ولا سرور إلا برضاه وقربه والأنس به؛ فبه يطمئن، وإليه يسكن، وإليه يأوي، وبه يفرح، وعليه يتوكل، وبه يثق، وإياه يرجو، وله يخاف.
فذِكره: (قوته وغذاؤه، ومحبته) والشوق إليه: (حياته ونعيمه ولذته وسروره)، والالتفات إلى غيره والتعلق بسواه: (داؤه)، والرجوع إليه (دواؤه)، فإذا حصل له ربُه سكن إليه واطمأن به وزال ذلك الاضطراب والقلق وانسدت تلك الفاقة، فإن في القلب فاقة لا يسدها شيء سوى الله تعالى أبدًا.
وفيه شعث لا يلمه غير الإقبال عليه، وفيه مرض لا يشفيه غير الإخلاص له وعبادته وحده، فهو دائمًا يضرب على صاحبه حتى يسكن ويطمئن إلى إلهه ومعبوده، فحينئذ يباشر روحَ الحياة ويذوق طعمها ويصير له حياة أخرى غير حياة الغافلين المعرضين عن هذا الأمر الذي له خُلق الخلق، ولأجله خلقت الجنة والنار، وله أرسلت الرسل ونزلت الكتب، ولو لم يكن جزاء إلا نفس وجوده لكفى به جزاء، وكفى بفوته حسرة وعقوبة" (إغاثة اللهفان، جـ1، ص71).
ومن استجاب لأمر الله تعالى واستقام استقامت كل خلية في جسده واستراحت، وكانت في موضعها الذي خُلقت فيه وله، وسعدت بهذا في الدنيا، وسعدت به في الآخرة، لأن حب الله تعالى نعيم، وآثاره كلها خير للإنسان؛ فتذوّق حب الله تعالى في ذاته أعظم نعيم يتنعم به العبد في الدنيا.
وما من أحدٍ في الدنيا يحب أحدًا دون الله تعالى إلا وعُذب به، وقد تكلم أهل الجاهلية القديمة والمعاصرة والعشاق عن الهجير وألم الفراق وعذاب المحبين، وعلى هذا تدور أغانيهم وقصصهم وأشعارهم وإنتاجهم الفني.. إلا حب رب العالمين ينعم به العبد، ويصلحه، ويجلب له سعادة الدارين، ومن حُرم من ربه حُرم كل شيءٍ، هذه هي الحقيقة، ولعل هذا هو ما يدفع الكثير من الناس الذين حُرموا من هذا القرآن العظيم، ومن الجري على مقتضاه ومن العمل على وجهته الشريفة، إلى السكْر والغيبوبة والحشيش والمخدرات وغيرها، لأنه في ألم، وهو ألم مستمر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] يعنى فيما هو دون الله تعالى من مطالب الدنيا التي لا يُبتغى بها وجهه وإرضاؤه.