(17) لماذا نعبد الله؟
مدحت القصراوي
ما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فالأول قِدَمُه، والآخِرُ دوامه وبقاؤه، والظاهر علوُه وعظمتُه، والباطن قربُه ودنوُه، فسبَق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه؛ فلا توارى منه سماءٌ سماءَ ولا أرضٌ أرضًا..
- التصنيفات: العقيدة الإسلامية - الأسماء والصفات -
الله خير من كل شيء..
ومن أجل التعريف برب العالمين فالشأن أن نعرف أسماءه وصفاته التي وصف بها نفسه، ومعانيها، وكل أسمائه تعالى وصفاته تدل على الذات الإلهية وما اتصفت به، فمن أسمائه تعالى وصفاتهما له دلالة واحدة، فالله تعالى (الخالق) أي المقدِّر، الذي يقدِّر الأمر، بمعنى يقدر ما يريد وجوده بهيئة معينة.
وهو (البارئ): هو الذي ينفّد في الوجود ويخرج إلى الوجود ما قدّره، فالخَلق هو التَّقدير، والبَرْء هو أن يوجِد في الوجود ما قدَّره، فهو "التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود، وليس كل من قدّر شيئًا ورتبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله" [1]، ومن معاني (البارئ) أنه الذي سلِم وبرأ من كل عيب ونقص.
وهو (السَّلَام) ومعناه: أنه سلِم "أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله" [2].
وهو (القُدّوس): ومعناه المطهَّر والمنزَّه عن السّوء.
وهو تعالى (الجبّار): ومعناه الذي يفعل ما يشاء ويجْبُر مَن شاء على ما شاء فيجبله عليه، وهو قريب من معنى اسم الله (القاهر)، فهو: "العالي العظيم الذي لا يقهره أحد ويقهر كل من عداه"[3]، وهذا هو أحد معانيه، وفي تفسير آخر لمعناه أنه تعالى (الجَبَّار) أنه الذي يجْبُر كسْر عبيده، فيصلح لهم أحوالهم؛ فهو اسمٌ يدل على باب الرحمة.
ولعلّ هذا الاسم العظيم بهذا المعنى الثاني قد اخْتير لمحِل عظيم، بل لأعظم محل طلبه الأولون والآخِرون، طلبه الأنبياء والرسل والصديقون والشهداء والصالحون والعباد والعارفون، وهو رؤية وجه رب العالمين عندما يرجع أهل الجنة من وادي المزيد بعد رؤية الله تعالي ومحاضرته، فيرجعون إلى أهليهم في الجنَّة فيجدهم أهلوهم قد ازدادوا حسنًا وجمالاً، فيقولون لهم: "قد ازددتُّم بعدنا حُسنًا وجمالاً"! فيقولون: "إنا جالسنا اليوم ربنا الجبار تبارك وتعالي، وبحقنا أن ننقلب بمثل ما انقلبنا به"، فاختار أهل الجنة هذا الاسم لهذا المحِلّ العظيم، أعظم ما في الجنة وأعظم ما في الدنيا والآخرة.
وهو تعالى (الأوّل والآخر)، أما اسمه تعالى (الأول) فتدبر معناه؛ هل هناك بداية لله؟ وهل تتصور له بداية؟ كلا.
بل كل بداية يقدرها ذهنك فالله تعالى قبلها، وهكذا كل ما قدره الذهن فالله تعالى قبله، حتى يعجز تمامًا ويصغر العبد تمامًا أمام هذا الوجود الأزلي، حتى ينتهي تقدير ذهنك ولا تنتهي دلالة اسمه تعالى (الأول).
واسم الله (الآخر) هل تتصور نهاية لله تعالى أو أن يعقبه شيء؟ كلا.
فكل نهاية يقدرها ذهنك فالله تعالى بعدها، باق وحي لا يموت، حتى يعيا ذهنك وتصغر أمام هذا الوجود الأبدي.
فاسمه تعالى (الآخر) لا مدى لمنتهاه ولا آخر لهذه الآخرية ولا حد لها.
فيجب على العبد أن يقول على وجه التسليم والإيمان والاعتراف بصغر النفس وعظمة الرب تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، وهذان الاسمان يصغُر العبد جدًا عندما يستحضرهما ويستحضر معانيهما ويدرك مدى ضآلة قيمته ووزنه وعمره أمام هذا الوجود الأزلي والأبدي للرب سبحانه وتعالى.
يقول شيخ الإسلام: "..بل كثير من الناس لا يتصور هذا تصورًا تامًا بل متى تصور الحادث [4] قدّر في ذهنه مبدأ ثم يتقدم في ذهنه شيء قبل ذلك، ثم شيء قبل ذلك، لكن إلى غايات محدودة بحسب تقدير ذهنه، كما يقدر الذهن عددًا بعد عدد، ولكن كل ما يقدره الذهن فهو منتهٍ، ومن الناس من إذا قيل له (الأزل) أو كان هذا موجودًا في الأزل تصور ذلك، وهذا غلط، بل الأزل ما ليس له أول، كما أن الأبد ليس له آخر، وكل ما يومئ إليه الذهن من غاية فالأزل وراءها" [5].
فالعقل يقف ويعجز عن الإحاطة بدلالة هذه الأسماء ويعجز عن تصوّرها على منتهاها، فيقف ويخضع ويركن لله تعالى، ولعل لهذا المعنى اختار حبر الأمة ابن عباس رضي الله عنه هذين الاسمين مع قوله تعالى: "وهو {الظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [6]، لقطع وسوسة الشياطين بالتشكيك في الإيمان"؛ ففي الحديث أنه إن وجد العبد شيئًا من الوسوسة أن يقول عندها: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:3]، ليستحضر العبد ضآلته أمام عظمة الله تعالى التي لا يحدها عقل أبدًا فيعلم أنه لا يحيط علما بالله تعالى {وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه من الآية:110].
يقول ابن القيم رحمه الله: "واعلم أن لك أنت أولًا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا، بل كل شيء فله أول وآخر وظاهر وباطن، حتى الخطرة واللحظة والنفَس، وأدنى من ذلك وأكثر؛ فأولية الله عز وجل سابقة على أولية كل ما سواه، وآخريته ثابتة بعد آخرية كل ما سواه، فأوليته سبْقُه لكل شيء، وآخريته بقاؤه بعد كل شيء" [7]، وهو تعالى (الظاهر) واسم (الباطن)، يقول ابن القيم رحمه الله في تفسير معناهما: "وظاهريته سبحانه فوقيته وعلوه على كل شيء، ومعنى الظهور يقتضي العلو، وظاهر الشيء هو ما علا منه، وأحاط بباطنه؛ وبطونه سبحانه إحاطته بكل شيء بحيث يكون أقرب إليه من نفسه، وهذا قرب غير قرب المحب من حبيبه، هذا لون وهذا لون" [8].
ويفسرهما رحمه الله بأنهما من جنس قوله تعالى: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة من الآية:261]، وقوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ من الآية:23]، فاسمه الظاهر يعني أنه فوق كل شيء وعلىّ على كل شيء ووسع كل شيء.
وأما اسمه الباطن فهو العلم بكل شيء والإحاطة بكل شيء، فالمخلوق إذا نظر إلى أشياء، وهي شيء خلف شيء، وارى هذا نظرَه عن ذاك، لكن الخالق سبحانه لا يوارى منه شيءٌ شيئًا بل كل شيء بادٍ له، لا يحول دون شيء، بل إنه تعالى يحيط بالشيء حيث الشيء لا يحيط بنفسه..
يقول رحمه الله: "وباب هذه المعرفة والتعبد هو معرفة إحاطة الرب سبحانه بالعالم وعظمته، وأن العوالم كلها في قبضته، وأن السموات السبع والأرضين السبع في يده كخردلة في يد العبد؛ قال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ} [الإسراء من الآية:60]، وقال: {وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ} [البروج:20]، ولهذا يقرن سبحانه بين هذين الاسمين الدالّين على هذين المعنيين: اسم العلو الدال على أنه الظاهر وأنه لا شيء فوقه، واسم العظمة الدال على الإحاطة وأنه لا شيء دونه [9].
كما قال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [الشورى من الآية:4]، وقال تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [سبأ من الآية:23]، وقال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة من الآية:115]، وهو تبارك وتعالى كما أنه العالي على خلقه بذاته فليس فوقه شيء، فهو الباطن بذاته فليس دونه شيء، بل ظهر على كل شيء فكان فوقه، وبطن فكان أقرب إلى كل شيء من نفسه، وهو محيط به حيث لا يحيط الشيء بنفسه، وكل شيء في قبضته وليس شيء في قبضة نفسه؛ فهذا أقرب لإحاطة العامة.
وأما القرب المذكور في القرآن والسنة فقرب خاصمن عابديه وسائليه وداعيه وهو من ثمرة التعبد باسمه الباطن، قال الله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة من الآية:186]، فهذا قربه من داعيه، وقال تعالى: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف من الآية:56]، فذكر الخبر وهو قريب عن لفظ الرحمة وهي مؤنثة إيذانًا بقربه تعالى من المحسنين؛ فكأنه قال إن الله برحمته قريب من المحسنين" [10].
ويقول رحمه الله عن الأسماء الأربعة: "فمعرفة هذه الأسماء الأربعة، الأول والآخر والظاهر والباطن، هي أركان العلم والمعرفة، فحقيق بالعبد أن يبلغ في معرفتها إلى حيث ينتهي به قواه وفهمه" [11].
ويقول: "فمدار هذه الأسماء الأربعة على الإحاطة، وهي إحاطتان زمانية ومكانية، فإحاطة أوليته وآخريته بالقَبْل والبَعْد، فكل سابق انتهى إلى أوليته، وكل آخر انتهى إلى آخريته، فأحاطت أوليته وآخريته بالأوائل والأواخر، وأحاطت ظاهريته وباطنيته بكل ظاهر وباطن؛ فما من ظاهر إلا والله فوقه، وما من باطن إلا والله دونه، وما من أول إلا والله قبله، وما من آخر إلا والله بعده، فالأول قِدَمُه، والآخِرُ دوامه وبقاؤه، والظاهر علوُه وعظمتُه، والباطن قربُه ودنوُه، فسبَق كل شيء بأوليته، وبقي بعد كل شيء بآخريته، وعلا على كل شيء بظهوره، ودنا من كل شيء ببطونه؛ فلا توارى منه سماءٌ سماءَ ولا أرضٌ أرضًا، ولا يحجب عنه ظاهرٌ باطنًا، بل الباطن له ظاهر، والغيب عنده شهادة، والبعيد منه قريب، والسر عنده علانية" [12].
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] تفسير ابن كثير، آخر سورة الحشر، وقال أن البرء هو الفرى، وأورد بيت الشعر:
ولأنت تفرى في ما خلقت *** وبعض القوم يخلق ثم لا يفرى
[2] تفسير ابن كثير، جـ4، ص439.
[3] من حواشي صحيح البخاري.
[4] يعنى المخلوق.
[5] مجموع الفتاوى، جـ16، ص330.
[6] سيأتي تفسيرهما.
[7] طريق الهجرتين، جـ 1 - ص47.
[8] طريق الهجرتين، جـ 1 - ص47.
[9] دونه يعني أقرب منه علمًا ورؤية وإحاطة، وليس المعنى «ليس تحته شيء» كما يظنه بعض الجهال.
[10] طريق الهجرتين، جـ1، ص43 -44.
[11] طريق الهجرتين، جـ1، ص46.
[12] طريق الهجرتين، جـ1، ص47، هذا الكلام يُكتب بمداد الذهب فهو من أنفع الأمور للعبد في معرفة ربه تعالى.