اللقنة ليس بحامل للعلم (1)
مدحت القصراوي
امل العلم هو من يقف بالعلم مواقف الإشهاد التي ينصُر فيها الحق ويلقي به في وجه الباطل، فيدمغ الله الباطل ويجري قدره على يد هؤلاء العلماء الكرام.
- التصنيفات: طلب العلم -
يقول أبو الحسن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لكميل بن زياد:
"يا كميل! إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير، والناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل نجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق يميلون مع كل صائح، لم يستضيئوا بنور العلم ولم يلجأوا إلى ركن وثيق"، ثم قال: "آه. إن ها هنا علمًا -وأشار بيده إلى صدره- لو أصبت له حَمَلة، بل قد أصبت لَقِنًا يستعمل آلة الدين للدنيا، ويستظهر بحجج الله على كتابه، وبنعمه على معاصيه، أو حامل حق لا بصيرة له في إحيائه، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة، لا يدري أين الحق، إن قال أخطأ وإن أخطأ لم يدر، مشغوف بما لا يدري، فهو فتنة لمن فتن به، وإن من الخير كله من عرّفه الله دينه، وكفى بالمرء جهلًا ألا يعرف دينه" (أعلام الموقعين، ج-2، ص168).
أما اللقن (واللقنة) الذي اشتكى منه عليّ رضي الله عنه فهو: "الذكي الفطن سريع الفهم"، لكن يبقى هل عنده من خشوع القلب والرغبة في الآخرة، أم يبقى بعد ما فهم يوجه العلم لاصطياد الدنيا به، يشتكي رحمه الله أن هذا الحفظ والفهم لا يقترن بالعمل أو زهد القلب في الدنيا ورغبته في الآخرة، ذلك أن الناس تظن أن من يلقي العلم ويحفظ مختلف الأقوال ويلقيها على الناس، يظن الناس أن هذا هو العالم، ومن هنا خُدع المسلمون ولُدغوا لدغات قاتلة، بل وضل من الناس من ضل بسبب هؤلاء اللقنة، إن الحفاظ كثير، والبلغاء كثير، لكن الشأن هو في (حمل العلم).
وحمل العلم يعني حفظه وفهمه، والعمل به باطنًا وظاهرًا، ورؤية الأمور والحياة على وفقه، وحمل الناس على مقتضاه، وبلاغه للناس كما هو؛ فلا ينتقي ولا يتخير ما يخدم الأوضاع القائمة أو المتسلطة بالباطل، وإنما يبلغ دين الله تعالى كما أنزله، ليقيم الحياة على وفقه.
حامل العلم هو من يقف بالعلم مواقف الإشهاد التي ينصُر فيها الحق ويلقي به في وجه الباطل، فيدمغ الله الباطل ويجري قدره على يد هؤلاء العلماء الكرام.
إن الذكاء والحفظ وإلقاء المحفوظات والأقوال لا يكفي..
والتخير مما أنزل الله -وأبلغ رسولُه- ما يخدم أوضاعًا مناقضة ومحاربة لدين الله تعالى، جريمة نقض دين الله تعالى بعضه ببعض، واستظهار بحجج الله على كتابه لإبطاله، والاستظهار بنعم الله تعالى على معاصيه، وهؤلاء كثير كما قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا يغنون عن الناس شيئًا.
وأما حامل العلم الذي لا بصيرة له في إحيائه، وينقدح الشك في قلبه لأول عارض من شبهة، فهؤلاء هم أتباع اللقنة، الذين يظنون أنفسهم طلبة علم.
وأما الهمج الرعاع أتباع كل ناعق المائلين مع كل صائح فجماهير لا أول لها ولا آخر، ترقص على جثث المؤمنين وتغني على إبطال دين الله تعالى وفاعليته في الحياة، وعلى ضياع مستقبلها هي نفسها!
وأما العالم الرباني فعلم على الهدى وإن أصبح الناس في حالة نطح ورفس وشرود حمر مستنفرة.
وأما طلاب العلم والهدى فهم على الطريق صامدون رغم تعاقب الليالي وتطاول البلاء وانتفاش الباطل.
إن العلم ليس حفظًا وتعليمًا وإلقاء للناس فحسب، فهذا يفعله اللقنة ويفعله المنافق، كما يفعله العالم الصادق؛ لكن العالم حامل العلم حقًا هو من يخوض بالعلم قضيته ونضاله كما خاضه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كوارث عن رسول الله، يرث علمه وحركته بهذا الدين وتربيته للناس عليه ومواجهته صلى الله عليه وسلم للباطل ودحره له حتى صرخ شيطان (أزب العقبة) يحذر قريش من حركة الإسلام يوم العقبة الكبرى، ولو كان العلم غير ذلك لما صرخ الشيطان.
أما مع هؤلاء اللقنة فلا يحتاج (أزب العقبة) أن يصرخ بل هو مطمئن على الباطل لأنه حينئذ يحيا في مأمن، لأنه -ويا للمفارقة- يحيا في حماية (الدين)! ليس دين محمد، بل هو دين اللقنة!