كيف تؤدي الحقوق إلى العباد؟
حياة الناس لا تستقيم إلا بمعرفة الحقوق، والالتزام بها، والإسلامُ ضبَط الحقوق وبيَّن الواجبات، وقد سبَق كافةَ المواثيق والاتفاقيات الدوليَّة، وبيَّنت الرسالات السماوية النازلة مِن عند الله تعالى، مِن آدمَ عليه السلام إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم الحقَّ الذي لك، والحقَّ الذي عليك تُجاهَ ربِّك سبحانه وتعالى حتى إنَّ الله عز وجل أوْجَب على نفسه ألاَّ يُعذِّب مَن لا يشرك به؛ ولذلك فإنَّ حقوقَ الإنسان، وفضيلته وكرامته، لا تظهر إلا بهذا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}.
الحمدُ لله تفرَّد بكلِّ كمال، وتفضَّل على عباده بجزيلِ النَّوال، بيده الخير ومنه الخير فله الحمدُ على كلِّ حال، وفي كلِّ حال، في الحال وفي المآل، أحْمَده سبحانه على ما منَح مِن النعماء، وأشْكُره على واسِعِ العطاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحْدَه لا شريكَ له، تقدَّس في الذات والصِّفات والأسماء، وأشهد أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه سيِّد المرسلين وخاتم الأنبياء، وإمام الحُنفاء، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله الأوفياء، وأصحابِه النُّجباء، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان ما دامتِ الأرضُ والسماء.
فإنَّ ممَّا لا يخفَى على أحدٍ أنَّ الأمم المتقدِّمة تُراعي مصالحَ أبنائها، وأمَّة الإسلام هي أعْلى الأمم، شامةً وشموخًا، وإباءً ورفعة؛ لأنَّها علمِتْ وعرَفَتِ الحقوق والمصالِح فقامتْ بها كما ينبغي، وكان هذا متمثِّلًا في القرون الفاضِلة، ومن بعدهم ممَّن اقتفَى أثرهم، وسار على درْبهم، وأخص مِن هؤلاء رجل مُدِح بقضائه بالحقوق، ومَن كان قاضيًا فلا إِخالُه إلا قائمًا بهذا الخُلُق النبيل في نفسه وفي من تحت ولايته، ألا وهو القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي البيساني؛ قال الذهبي رحمه الله في ترجمته: "قضَى سعيدًا، ولم يُبْقِ عملًا صالحًا إلا قدَّمه، ولا عهدًا في الجنة إلا أحْكَمه، ولا عَقْدَ بِرٍّ إلا أبرمه، فإنَّ صنائِعه في الرقاب، وأوقافه متجاوزةُ الحساب، لا سيَّما أوقافه لفَكاك الأَسْرى، كان للحقوق قاضيًا، وفي الحقائق ماضيًا، والسلطان له مطيع، ما افتَتَح الأقاليمَ إلا بأقاليدِ آرائه" (السير:21/340).
ولكن خلَف مِن بعدهم خلوفٌ أضاعوا الحقوق، ولم يلتزموا بأدائِها، إمَّا عن عمْد، وإمَّا عنْ جهْل، والله المستعان، ولما فرَّط الناس في حِفْظ الحقوق حصَل الخلَل، وعمَّ التشاحن في دُنيا الناس، وكثَرُت الضغينة في القلوب، والهجْر والقطيعة، فهجَر الابنُ أباه، والأخُ أخاه، وتبرَّمت الزوجةُ مِن زوجها تشكوه، ومَلَّ الزوج امرأتَه فكثُر الهجر، والسبب هو ضياعُ الحقوق، وشَكَا العامل صاحبَ العمل، واكتظَّتْ مكاتب العمل بالشكاوى؛ لأنَّ الحقوق بها خَلَل، والدعاء في الليل والنهار على مُغتصبي الأموال، وسارِق الفرحة مِن عيون الصِّغار، والسبب هو هضمُ الحقوق، ولأنَّ حفظ الحقوق أعظمُ ما يمكن للمرء القيام به؛ إذ هو جماعُ أنواع البر والخير.
إنَّ قضية الحقوق والالتزام بها، قضية كبيرةٌ جدًّا، وفي كثير مِن الحالات نجد أنَّها مُضيَّعة، أنواع مِن العقوق، الطلاق، تعليق الزوجة، هجْر الجار للجار، قطيعة الرَّحِم، مشكلات بين الموظَّفين وأصحاب الشركات، بين المدرِّسين، وأصحاب المدارس، كذلك عقود تُخترَق، وأخرى يُعتدَى عليها، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم أخبر أنَّ الربَّ عز وجل خصمُ مَن أَعْطَى به ثُمَّ غدر: « » (رواه البخاري).
قال الحافظ في (الفتح): "فالله سبحانه وتعالى خصمٌ لجميع الظالمين يومَ القِيامة، إلا أنَّه أراد التشديدَ على هؤلاء بالتصريح: والمعنى أعْطَى بي ثم غَدَر، يعني أعطى عهدًا وحلَفَ بالله، ثم نقضَه" (ا.هـ).
قال شيخُ الإسلام رحمه الله: "وكلُّ مَن شرَط شرطًا ثم نقضَه فقد غدَر، فقد جاءَ الكتاب والسُّنَّة بالأمر بالوفاءِ بالعهود والشروط، والمواثيق والعقود، وبأداءِ الأمانة ورعاية ذلك، والنهي عنِ الغدر ونقضِ العهود والخيانة، والتشديد على مَن يَفْعل ذلك" (اهـ. الفتاوى الكبرى:4/88)، ورتَّب النبي صلى الله عليه وسلم الوعيدَ الشديد لمَن اغتصب حقَّ مسلم؛ روى أبو أُمامةَ رضي الله عنه عنِ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « »، قال رجلٌ: وإن كان شيئًا يسيرًا يا رسولَ الله، قال: « » (رواه مسلم)
قال النوويُّ: "فيه غلظُ تحريم حقوقِ المسلمين، وأنَّه لا فرق بين كثيرِ الحقِّ وقليله" (ا.هـ. شرح مسلم:2/162).
وقال بعضُ السَّلَف: "وأيُّ سوء أقبحُ مِن غدرٍ يسوق إلى النِّفاق، وأيُّ عار أفضحُ مِن نقض العهد إذا عُدَّتْ مساوئ الأخلاق؟!".
وحياة الناس لا تستقيم إلا بمعرفة الحقوق، والالتزام بها، والإسلامُ ضبَط الحقوق وبيَّن الواجبات، وقد سبَق كافةَ المواثيق والاتفاقيات الدوليَّة، وبيَّنت الرسالات السماوية النازلة مِن عند الله تعالى، مِن آدمَ عليه السلام إلى محمَّد صلى الله عليه وسلم الحقَّ الذي لك، والحقَّ الذي عليك تُجاهَ ربِّك سبحانه وتعالى حتى إنَّ الله عز وجل أوْجَب على نفسه ألاَّ يُعذِّب مَن لا يشرك به؛ ولذلك فإنَّ حقوقَ الإنسان، وفضيلته وكرامته، لا تظهر إلا بهذا: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70]، فهذه الكرامة الإنسانية لا تُنال ولا يصِل الإنسان إليها إلا بأداءِ الحقوق.
"والحقوقُ في الإسلام سبقَتِ المواثيق الدولية وحقوقَ الإنسان التي يتغنَّى بها الغرب، ولم تَظهرْ قضيةُ الحقوق هذه إلا في أواخرِ العصور الوسطى؛ يعني: لمَّا سُحِقت هذه الشعوبُ الأوروبية بسببِ الإقطاع وتسلُّط الكنيسة والأغنياء ونحو ذلك، وثارتِ الثورة عليهم، برزتْ فكرةُ حقوق الإنسان جُزئيًّا بشكلٍ رسمي في الدول الغربية، في القرن الثالثَ عشرَ الميلادي، نتيجة الثورات الطَّبقيَّة والشعبيَّة في أوروبا، في القرن الثامن عشر في أمريكا ظهرتْ هذه في مقاومةِ التمييز الطبقي، والتسلُّط السياسي، والظُّلم الاجتماعي، وفي القرن العشرين جاءتِ المؤسَّسات الدولية، وأعلنَتْ مواثيق عُصبة الأمم المتحدة في جنيف، ثم في ميثاق الأمم المتحدة، حيث صدَر الإعلان العالمي لحقوقِ الإنسان في عام 1948م مِن قِبل هيئة الأمم المتحدة في 30 مادة" (شريط الحقوق الاجتماعية للشيخ المنجد).
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم سبَق كلَّ هؤلاء بالوحي الذي أوْحاه الله إليه بحفظِ حقوق الناس، وعدم ابتزازها وغصْبها والتسلُّط عليها، فقدْ بَيَّن عليه الصلاة والسلام أنَّ كلَّ المسلم على المسلم حرام، وبيَّن حُرْمةَ الدماء، وحُرْمة الأموال، وحُرْمة الأعراض، وأمَرَ الناسَ بصيانتها، والحفاظ عليها، وعدم هتْكِها، والنصوصُ كثيرةٌ في القرآن والسُّنة، بمنع القتْل والاعتداء والجرْح، إلا بحقٍّ كالقصاص، وفيه إجراءات لحفظ أموالِ الأيتام والمجانين، ومِن عظمةِ حُرْمة الأعراض حُرِّم الاعتداء عليها بالقذف، وشرع حدُّ القذف، وتحريم الاعتداءُ عليها بالسبِّ والشتم، ونحو ذلك.
وهناك حقوقٌ للرِّجال، وحقوقٌ للنِّساء حتى البهائم لها حقوقٌ في الإسلام؛ امرأة دخلتِ النار في هِرَّة حبستْها، لا هي أطعمتْها ولا هي تركتْها تأكل مِن خَشاشِ الأرض، ورجلٌ دخَل الجَنَّة في كلْب سقاه، فالحقوقُ في الإسلام عظيمة ومُصانَة، وهي أصيلة وأبدية، لا تَقْبل حَذْفًا ولا نسْخًا، ولا تعطيلًا ولا تغييرًا، ومصدرها مِن الله الذي يعلم ما يَصلُح للنفْس، وما يُصلِح النفوس، وهو العليم الخبير بمصالِح خَلْقه، وحدَّ حدودًا شرعيَّة لعدمِ انتهاكها، وفي القرآن والسنة تنزل الحقوق تِباعًا حتى أكْمل الله الدين، ولا يَعْني أنَّ كثيرًا من الناس الذين يُغيِّرون الحقوق، أنَّها تضيع ولا يُلتزم بأدائها، لا، فعندَ هؤلاء نقْصٌ في إسلامهم، ويَنبغي على الدعاة والمصلحين إعانة هؤلاء على أنفسِهم في أداءِ الحقوق، والأخذ على أيديهم، حتى يؤدُّوها على الوجهِ الأكمل كما ينبغي.
كيف نعرف الحقوق؟
سؤال يتبادَر إلى أذهان الكثير من الناس، فأقول وبالله التوفيق: تُعرَف الحقوق بعدَّة أمور:
1- النص الشرعي: بأن ينصَّ الشرع على أنَّ هذا حق؛ قال النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري).
2- التعاقد: فالله سبحانه وتعالى أباح التعاقدَ بيْن الناس، فالعقدُ على شرْع العاقدين، إلا شرطًا أحلَّ حرامًا، أو حرَّم حلالًا، فالعقد بصِفة عامَّة يُنظِّم الأمور، ويحدد الالتزامات والواجبات على الطرَفينِ، والمسلمون على شروطِهم كما بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم والقاعدة الشرعية: "أنَّ الأصل في الشروط الصحَّة واللزوم، إلا ما دلَّ الدليل على خِلافه" (كما يقول شيخ الإسلام) والمسلِمون عندَ شروطهم إلا شرطًا أحلَّ حرامًا أو حرَّم حلالًا.
و(مقاطع الحقوقِ عندَ الشروط)، وهذه عبارة عظيمة مِن الفاروق رضي الله عنه ولها قصَّة أخرجَها البخاريُّ في صحيحه معلقًا مجزومًا به مختصرًا، ووصَله ابنُ أبي شيبة وسعيدُ بن منصور مِن طريق إسماعيل بن عُبَيد الله بن أبي المهاجِر عن عبدِالرحمن بن غَنْم، قال: "شهدتُ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه أُتِي في امرأة جَعَل لها زوجُها دارَها، فقال عمر: لها شرطُها، فقال رجل: إذًا يُطلِّقْنَنَا، فقال عمر: إنَّما مقاطع الحقوقِ عندَ الشروط"، والمعنى: المواضع التي تُقْطع الحقوقُ فيها عندَ وجودِ الشروط، ينقطع الحق، فمثلًا المرأة تفِي لزوجها بحقوقه، فإذا اختلَّ الشرط الذي اشترطتْه عليه توقَّف حقُّه.
وعن عقبة رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري)، كذلك لو أنَّ رجلًا أستأجر رجلًا يعمل عندَه على مبلَغ مِن المال مُتَّفقٍ عليه وانتهى مِن العمل، فلا يجوز لصاحبِ العمل بخسُ حقِّه، أو مطالبته بعمل آخَر لم يتَّفقَا عليه، ولا يشترط عليه صاحبُ العمل الإتيانَ بعملٍ إضافي آخَر لم يتفقَا عليه؛ لأنَّ مقاطع الحقوقِ عندَ الشروط، قال ابنُ القيِّم رحمه الله تعالى: "وإذا كان مِن علامات النِّفاق إخلافُ الوعد وليس بمشروط، فكيف الوعدُ المؤكَّد بالشرط؟! بل ترْك الوفاء بالشرط يدخُل في الكذب والخُلف، والخيانة والغَدْر، وبالله التوفيق" (ا.هـ. إعلام الموقعين:3/303).
3- العُرْف والعادة: وهي ما تَعارَف عليه الناس ولم تُخالف الشرع، والمعروف عُرْفًا كالمشروطِ شرْطًا، والعلماء يقولون: العادات نوعٌ من الشروط، والشيخ ابن باز رحمه الله تعالى جعَل الشَّرْط العُرفي كالنطقي؛ لأنَّ العاداتِ والأعرافَ إذا سار الناس عليها، ورضُوا بها، واستقرَّتْ عندهم وألِفوها، ولم تُخالفِ الشرع، وتعاملوا بها واعتبروها سائرةً بينهم، وسائدة بينهم، كانت مُلزِمةً لأصحابها، وأما إذا كانتِ العادة والعُرْف مخالفتَيْن للشَّرْع، فإنَّهما لا يكونانِ مُعتبرَين.
4- توثيق العقود: وهذا شيءٌ أمَر الله به {وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ} [البقرة من الآية:282]، فإنَّ الآية اشتملتْ على التوثيقِ بالكتابة والتوثيقِ بالشهود، والتوثيق بالرهن، والإخلال بهذه الحقوق يُعرِّض الإنسانَ لمقْت الله عز وجل وسخطه، وهو ظلم {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان من الآية:19]، وبالظُّلم تُنزَع البركة، وتقلُّ الخيرات، وتنتشر الأمراض، والأوجاع والآفات (شريط الحقوق الاجتماعية للمنجد حفظه الله)
وهذه بعض الحقوق أُبيِّنها، وأستعين ربِّي على القيامِ بها:
حق الوالدين:
فما أعظمَ هذا الحقَّ الذي فرَّط فيه الكثيرُ من الناس! نسمع الشكوى منهم، وتُحزننا دموعُهم التي تُراق مِن عيونهم، مِن تفريط أبنائهم، محرومٌ مَن حُرِم أداء هذا الحق، فقد ثنَّى بهما الله عز وجل بعدَ الأمر بعبادتِه وحْدَه واجتناب الشِّرك به سبحانه فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء من الآية:36]، وهذا يدلُّ هذا على فضلِهما وعِظَم القيام بحقِّهما، وقال صلى الله عليه وسلم: « » (والحديث أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح)، ويُروَى عن عبدِ الله بن المبارك أنَّه بَكَى لما ماتتْ أمُّه، فقيل له، فقال: "إنِّي لأعلمُ أنَّ الموت حق، ولكن كان لي بابانِ للجَنَّة مفتوحانِ فَأُغلق أحدُهما".
ومِن حقهما في حياتهما:
الإحسانُ إليهما، وخاصَّة عندَ الكِبَر، وعدم التأفُّف والتبرُّم من قضاءِ حوائجهما، وعدم إسماعهما كلامًا يُنغِّص عليهما أو يَجْرَح شعورهما، والقول لهما قولًا حسنًا طيبًا، مقرونًا بالاحترام والتقدير والتبجيل، ونُصْحهما إذا فرَّط أحدهما برِفْق ولِين جانب، والإنفاق عليهما، ومدّ يدِ العون لهما، والقيام بخِدمتهما ورعايتهما.
ومِن حقهما بعد موتهما:
الدُّعاءُ لهما، وزيارةُ صديقهما، وإنفاذُ وعدِهما، وصِلة الرَّحِم التي لا تُوصل إلا بهما، ومهما قام الإنسانُ بحقِّ أبيه وأمِّه، فإنَّه لا يستطيع أن يُوفي حقهما، إلاَّ أن يَجِدَهما، أو أحدهما عبدًا مملوكًا فيشتريه ثم يُعتِقه، كما صحَّ الخبرُ عن رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم.
وإنَّ قصص العقوقِ التي نسمعها لينفطِرُ لها الفؤاد أسًى، وتذوب لها النفس حسْرَة؛ إذ العقوقُ مِن الكبائر، بل لا يدخُل الجنة عاقٌّ، ويُحرَم التوفيق في الدنيا، وربَّما عُجِّلتْ له العقوبة، وربَّما ابتُلي في أولاده، فالجزاءُ مِن جنس العمل، والسَّلف مواقفهم مع البرِّ وأداء الحقوق تُجاهَ الوالدين عجيبة: أبو هُرَيرةَ كان لا يخرُج ولا يدخل حتى يُسلِّم على أمِّه، وكان يحملها وينزلها، فقد كانتْ كبيرةً مكفوفة، ومحمد ابن الحنفيَّة كان يَغْسِل رأسَ أمِّه ويمشطها، ويخضبها، وكان عليُّ بن الحسين مِن أبرِّ الناس بأمِّه، وكان لا يأكُل معها، فسُئِل، فقال: "أخاف أن تَسبِق عينُها إلى شيءٍ مِن الطعام وأنا لا أعلمُ به، فآكله فأكون قد عققتُها".
وطلبتْ أمُّ مِسْعر ماءً في ليلة، فجاءَ بالماء فوجَدَها نائمة، فوقَف بالماء عندَ رأسها حتى أصْبَح!
حق الأقارب: والأقارب هم أرحامُ الرجل مِن جهة أبيه وأمِّه، وقد حثَّ ربُّنا عز وجل على العناية بذوي القُرْبى وإعطائهم حقَّهم؛ قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء من الآية:26].
وبيَّن رسولُنا صلى الله عليه وسلم عِظَم حقِّ الأقارب بقوله: « »، قال أبو هُرَيرَة: اقْرؤوا إنْ شِئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد:22]، (رواه البخاري).
فأين الذين يَقْطعون ولا يَصِلون أرحامَهم، وأين الذين يَهجُرون ولا يُكلِّمون أرحامَهم، ليسمعوا كلام الرب، وحديثَ المعصوم، عسى أن تُفيقَ القلوب مِن غفلتها، وحقُّ الأقارب يتطلَّب بذْلَ الجاه، والنَّفْع المادي لهُم، والتلطُّفَ معهم، وقضاءَ حوائجهم، وسدَّ خَلَّتهم، والسؤال عنهم، ومراعاة أحوالهم.
حق اليتامى: واليتيم في الناس من مات أبوه.
لقد أولى القرآن الكريم عناية فائقة بأمر اليتيم وشأن اليتيم، واهتم القرآن بتربية اليتيم وبأمره من الناحية النفسية ومن الناحية المادية على السواء، مراعاة لظروف اليتيم النفسية بعد فقد أبيه، فقد يحس بشيء من الذل أو القهر أو الانكسار، وراعى القرآن هذه الحالة النفسية مراعاة دقيقة؛ لأن الذي يشرع هو الحكيم الخبير.
ومن حقهم: أمر الله جل وعلا ولي اليتيم والوصي على ماله بالمحافظة على هذا المال محافظة تامةً كاملة.
وأمر الولي بعدم تبديد أمواله، أو تبديلها بالخبيث من الأموال، أو المتاجرة بها فيما حرم الله جل وعلا، وبألا يسرف بالإنفاق من أموال اليتامى، وبألا يسرع في تبديدها قبل أن يكبر أصحابها اليتامى ليأخذوا حقهم.
وأمر الله ولي اليتيم أيضًا بأنه إذا ما أحس النضج والرشد عند هؤلاء اليتامى، ورأى أنهم أصبحوا قادرين على تصريف شئونهم، وتدبير أحوالهم، والمحافظة على أموالهم، أمره الله أن يسارع برد لهذه الأموال كاملة وافرة غير منقوصة، وإن كان هذا الولي غنيًا فليستعفف عن الأكل من أموال اليتامى، وإن كان فقيرًا فله أن يأكل من هذه الأموال مع اليتامى بالمعروف من غير سرفٍ ولا تبذير، وفي أضيق نطاق، وأقل الحدود، ثم أمر الله وصي اليتيم بعد ذلك إذا ما كبر اليتامى أن يدفع إليهم أموالهم، وأن يُشهد على ذلك تبرئة للذمة، ودرًا للشبهة، قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا} [الأسراء:34].
حق المساكين: والمساكين حقهم مكفول، وسعيهم مشكور، وعملهم فيما كان فوق استطاعتهم مغفور، والله عفوًا غفور، كل هذا لكي لا يكون عالة على إخوانهم المسلمين، فيعاونون على أداء معيشتهم من الصدقات والزكوات، وتبذل لهم عن طيب خاطر، وسلامة قلب، وألا يعايرون بهذه الأموال، وأن تراعى مشاعرهم، ومن كان في بيته متعففًا فليسارع إليه فهو الأولى والأحوج يقول الله تعالى: {يحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} [البقرة من الآية:273]، وأن لا تأكل حقوقهم، وأن لا يظلمهم أحد بحجة أنهم مساكين لا يستطيعون دفع الضر عن أنفسهم، فالله عز وجل يدفع البلاء عن عباده بدعاء الضعفاء والمساكين.
وأما الجيران: فقد أوْجَب الشرعُ لهم حقًّا، وهم مصدرُ أمْن إنْ كانوا ثقات، ومصدر خوفٍ إذا كانوا غير ذلك.
والله أوْصَى بالإحسان إليهم وقرَن ذلك بعبادته والإحسان إلى الوالدين {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء:36].
وقال ابنُ أبي جمرة: "إذا أُكِّد حقُّ الجار مع الحائل بيْن الشخص وبينه، وأُمِر بحِفْظه وإيصال الخير إليه، وكفِّ أسباب الضرر عنه، فيَنبغي له أن يُراعِي حقَّ الحافِظَين اللَّذين ليس بينه وبينهما جدارٌ ولا حائل، فلا يُؤذيهما بإيقاعِ المخالفات في مرورِ الساعات، فقدْ جاء أنَّهما يُسرَّانِ بوقوع الحسناتِ، ويَحزنان بوقوعِ السيِّئات، فينبغي مراعاةُ جانبهما وحفْظ خواطرهما بالتكثيرِ مِن عمل الطاعات، والمواظَبة على اجتناب المعصية، فهما أوْلى برعايةِ الحق مِن كثيرٍ مِن الجيران" (ا.هـ. فتح الباري:10/444)، فالاعتداء على الجيران عظيم، والولوغ في أعراضِهم باللِّسان شديد، وهتْك حُرماتهم إيذانٌ بالهَلاك من الله عز وجل لِمَن فعَل ذلك.
يقول الشاعر:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا الْتِئَامُ *** وَلاَ يَلْتَامُ مَا جَرَحَ اللِّسَانُ
ورُوي عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم قوله: « » (رواه البزَّار في مسنده وأبو نعيم في "الحليه"، ورُوي هذا الحديث من وجوه متَّصلة ومُرْسَلة، ولا تخلو كلُّها من مقال، وضعَّفه العجلوني في كشْف الخفاء:1/393)، والألباني في السلسلة الضعيفة:3493).
حق الأصدقاء والإخوان في الله: فإنَّ الإخوة إذا كانتْ لله تُثمِر كلَّ خير، وإنْ كانت لمصالح شخصية وأغراض دنيوية، ما تَلْبث إلا أن يَنكشِف المستور، ويحصُل الهجران والتنافُر، وما حصل التنافر بين الإخوان في الله إلا بسببِ ضياعِ الحقوق، فحقوق الإخوةِ كثيرة، وإذا قصَّر بعضُهم في حقوق إخوانهم الآخرين حصَلَتْ بسبب ذلك الفُرْقة.
فمِن ذلك مثلًا: تقصير بعضِهم في السؤال عن أحوالِ البعض الآخَر، وفي تفقُّد شؤون البعض الآخَر، ومساندة ودعْم بعضهم الآخَر في حال الضائِقة والملمَّات، وعدم الاهتمام بمشاعِرِه، فعندما ينظُر الواحد ويرَى أنَّ أخاه قد أعرض عنه ولم يسألْ عن حاله، وأنَّه وقَع في ضائقة ولم يجدْ مَن يُنقذه، فإنَّ هذا يُسبِّب نفرةً بلا شك.
وحقُّهم يقتضي عيادةَ مرْضاهم، وتشميتَ عاطسهم، وردَّ السلام عليهم، وإجابةَ دعوتهم، واتِّباعَ جنازتهم، وطلبَ النصحية منه، وقَبوله إذا أسداها لأخيه، ولا شكَّ أنَّ كل هذا لا يعني أنَّ الأخ لا يُخطِئ ولا تَقع منه الزلَّة والهفوة، ومَن طلب أخًا بلا عيب صار بلا أخ -كما يقول الفُضيل بن عِياض رحمه الله-.
قال الشاعر:
وَكُنْتُ إِذَا الصَّدِيقُ أَرَادَ غَيْظِي *** وَشَرَّقَنِي عَلَى ظَمَأٍ بِرِيقِي
غَفَرْتُ ذُنُوبَهُ وَكَظَمْتُ غَيْظِي *** مَخَافَةَ أَنْ أَعِيشَ بِلاَ صَدِيقِ
وحُسْن التعامل مع الإخوان عندَ سلف الأمَّة يُظهِر لك أمرًا عجيبًا منهم، والفرق بيننا وبين هؤلاء واضحٌ، وأنَّهم صانوا الحقوقَ وحَفِظوها وأدَّوْها كما يَنبغي، وأنَّ الواحد من السلف كان يتفقَّد أحوالَ أخيه بعدَ موته مدَّة، وقصة شيخ الإسلام مع خَصْمه الذي كان يقع فيه لمَّا مات خيرُ شاهد على ذلك، وغيرها كثيرٌ قبل ابن تيمية رحمه الله، ولمَّا أتى أحدُ السلف يُريد أربعمائة درهم مِن أخيه لدَيْن رَكِبه، أعطاه أخوه ثم ظلَّ يبكي، فقالت له زوجه: لماذا تبْكي؟ قال: لأني لم أتفقَّدْ حالَه حتى احتاج إلى أن يَأتيني!
وإذا حصل اختلافٌ بين الإخوان، فإنَّه لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: اختلافٌ في وجهات النَّظر وفي الرأي، وهو لا يفسد للودِّ قضية، كحالِ أحمدَ بن حنبل الإمام مع صاحبِه الخُلَّص إسحاق بن راهويه؛ قال أحمد: "لم يَعْبُرِ الجسرَ إلى خرسان مِثْلُ إسحاق، وإنْ كان يُخالِفُنا في أشياءَ، فما زال الناس يخالف بعضُهم بعضًا".
الحالة الثانية: اختلاف يحصُل به الغضبُ والهجْر، فهذه يَحسُن معها المعاتَبة، والمصارَحة، والمكاشَفة، وألاَّ يجعل في النَّفْس شيئًا تُجاهَ أخيه.
حق السلطان المسلم:
فإنَّ السلطان المسلِم طاعتُه واجبة، وحقُّه عظيم على رَعيِّته؛ إذ بالسمع والطاعة له تنتظم مصالِحُ الدِّين والدنيا معًا، وبالافتياتِ عليه قولًا أو فِعلًا فسادُ الدِّين والدنيا.
فيُعامَل بما يجب له مِن الاحترام والتوقير، وما جعَل الله له مِن الإعظام والتبجيل، وكما قال الحسنُ البصري رحمه الله: "هم يَلُون مِن أمورنا خمسًا: الجمعة، والجماعة، والعيد، والثغور، والحدود، واللهِ لا يستقيمُ الدين إلا بهم، وإنْ جاروا وظَلَموا، والله لمَا يُصلِح الله بهم أكثرُ ممَّا يفسدون، مع أنَّ طاعتهم -والله- لغبطة، وأنَّ فرقتهم لكُفْر" (أ.هـ، معاملة الحكَّام لعبدالسلام برجس، ص:7).
ومن حق السلطان المسلم على رعيته:
1- عدم الخروج عليه؛ إذ الخروجُ عليه مفسدة، وشرٌّ مستطير، ولا يُجنَى من ورائِه خير، إذِ الشرُّ كلُّه فيه متحقِّق -أعني: الخروج- حتى وإنْ ظَلَم وجار في حُكمه، إلا إذا رأينا منه كفرًا بَواحًا معنا فيه مِن الله فيه بُرهان، وبشهادةِ أهلِ الحَلِّ والعَقْد والعلماء الثِّقات، يحكمون بأنَّ هذا كُفر، ومَن يخرج يضمن أنه ستكون الغلبةُ له، وليس قول الدهماء ولا الهمج الرعاع في هذه المسائل، فلا تَنزع يدًا مِن طاعة نحوهم، ما داموا مسلمين.
2- الدعاء له، ورَحِم الله الفُضيل بنَ عِياض القائل: "لو كان لي دعوةٌ ما جعلتُها إلا في السلطان"، فأمرنا أن ندعوَ لهم بالصلاح، ولم نُؤمرْ أن ندعوَ عليهم وإنْ جاروا وظلَموا؛ لأن جَورَهم وظلمهم على أنفسِهم وعلى المسلمين، وصلاحَهم لأنفسهم وللمسلمين.
وجاء في كتاب (السُّنة) للبَرْبَهاري رحمه الله: "إذا رأيتَ الرجل يدعو على السلطان: فاعلمْ أنَّه صاحبُ هوًى، وإذا سمعتَ الرجل يدعو للسلطان بالصلاح: فاعلمْ أنَّه صاحِب سُنَّة".
3- الْتماس العُذر له، كان العلماء يقولون: "إذا استقامتْ لكم أمورُ السلطان فأكْثِروا حمدَ الله تعالى وشُكْره، وإنْ جاءَكم منه ما تكرهون، وجِّهوه إلى ما تستوجبونه بذُنوبكم، وتستحقُّونه بآثامكم، وأقيموا عُذرَ السلطان؛ لانتشارِ الأمور عليه، وكثرة ما يُكابِدُه مِن ضبطِ جوانب المملكة، واستئلاف الأعداء، وإرْضاء الأولياء، وقلَّة الناصح، وكثرة التدليس والطَّمَع" (ا.هـ. سراج الملوك للطرطوشي، ص:43)، فالمؤمِنُ يطلب المعاذيرَ، والمنافق يطلب العثرات، والأحقُّ بذلك السلطان المسلِم.
4- بذل النصيحة له سِرًّا وعلانية، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: « »، قالوا: لِمَن؟ قال: « » (صحيح مسلم:55).
5- إعانته على ما تَحمَّله مِن أعباءِ الأمَّة ومساعدته على ذلك بقدْر الإمكان؛ قال الله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة من الآية:2].
6- رد القلوب النافِرة عنه إليه، وجمْع محبَّة الناس عليه؛ لما في ذلك مِن مصالح الأمة، وانتظام أمورِ المِلَّة.
7- الذبُّ عنه بالقول والفعل، وبالمال والنفْس والأهل، في الظاهِر والباطِن، والسِّرِّ والعَلَن.
حق الرعية على الراعي: ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ كلَّ حق يقابله واجب، وإذا كنَّا ذكَرْنا حقوقَ السلطان المسلم على رعيته، فإنَّ لهم حقوقًا على راعيهم، ومنها:
1"- حماية بيْضة الإسلام والذبُّ عنها في كلِّ قُطر، وفي كل إقليم، بجهادِ المشركين، وصدِّ عدوان المحاربين والباغين، وتجنيدِ الجيوش، وتحصينِ الثغور بالعُدَّة المانعة، والعُدَّة الدافعة.
2- حِفظ الدِّين على أصوله المقرَّرة، وقواعده المحرَّرة، ونشر العلوم الشرعية، وتعظيم العلماء، ومخالطتهم ومع تمكُّنهم من النصيحة له، ومشاورتهم في مواردِ الأحكام.
3- إقامةُ شعائر الإسلام، كفروضِ الصلوات، والجمع والجماعات، والأذان، والإقامة، والخطابة، والنَّظَر في أمر الصِّيام والفِطر وأهِلَّتِه.
4- فصل القضايا والأحكام بتقليدِ الوُلاة والحكَّام؛ لقطع النِّزاعات بينَ الخصوم، كف الظُّلم عن المظلوم.
5- إقامة فرْض الجهاد بنفسِه، وبجيوشه، في كلِّ سَنَة مرَّة، وهذا أقلُّ ما يجب -كما يقولُ العلماء- فإنْ دعتِ الحاجة إلى أكثرَ منه، وجَب بقدْرِ الحاجة.
6- إقامة الحدود الشرعيَّة على الشروطِ المرعيَّة؛ صيانةً لمحارمِ الله عن التجرُّؤِ عليها، ولحقوق العباد عن التخطِّي إليها.
7- العدل في سُلطانه، وسلوك موارده في جميعِ شأنه؛ إذ العدل سبب لنموِّ الخيرات، ونزول البرَكات، ومزيد الخيرات، وأن الظلم والجور سبب لخراب الممالك، واقتحام المهالك، وفي كلامِ الحِكمة: عدل الملك حياةُ الرعية، ورُوح المملكة، فما بقاء جسدٍ لا رُوح فيه" (ا.هـ باختصار من معاملة الحكَّام؛ للشيخ البرجس، ص:77-79).
حق العلماء وأهل العلم:
فالعلماءُ حقُّهم عظيم، وفضلُهم عظيم، وخيرُهم جزيل، الحيتان والنمل لهم في البحر والجحور تستغفِر، والملائكة بأجنحتها لهم تخْضَع، والعلماء في القيامة تَشْفَع، حياتهم غنيمة، وموتهم مُصيبة، يُذكِّرون الغافِل، ويُعلِّمون الجاهل، لا يُتوقع منهم بائِقة، ولا يُخاف منهم غائلة، بجميلِ موعظتهم يَرجِع المقصرون.
الطاعة لهم في غيرِ معصية الله واجِبة، والمعصية لهم محرَّمة، مَن أطاعهم رشَد، ومَن عصاهم عنَد، ما ورد على إمامِ المسلمين من أمر اشتبه عليه فبقولِ العلماء يَعْمل، وعن رأيهم يَصدُر، هم حُجَّة الله على العباد، ولن تخلوَ الأرض من قائم لله بحُجَّة؛ {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ} [النساء:165].
هم سراجُ البلاد، ومنار العِباد، وقوام الأمَّة، وينابيع الحِكمة، هم غيظ الشيطان، بهم تحيا قلوبُ أهلِ الحق، وتموت قلوبُ أهل الزَّيف، مَثَلهم في الأرض كالنُّجوم في السماء يُهْتَدى بها في ظلماتِ البَرِّ والبحر، إذا طمستِ النجوم تحيَّروا، وإذا أسْفَر الظلام أبْصَروا.
فمن الحقوق تجاه العلماء: الردُّ إليهم عندَ الاختلاف، وحماية أعراضهم، وعُذْرهم فيما أخطؤوا فيه، وربْط الشباب بهم، وتخصيصهم بالتحية، وألاَّ يتطلب عثرتهم، وتَوقيرهم وعدم رفْع الصوت عليهم، ولا يُضرب قولهم بقولِ بعضِهم البعض، أما أن يأتي حَدَثٌ لا يعرف قَبيلًا مِن دبير، ولا يُفرِّق بين الكوع والكُرسوع، فيَفْرِي بلِسانه وقلمِه في أعراضِهم بحُجج واهية، وسُبل غير مُسدَّدة، بحُجَّة أنهم ليسوا على المنهج، وصار المنهجُ مسمارَ جُحا، لكلِّ مَن أراد الطعن في العلماء، ولا يَدري المسكينُ أنَّ لحومهم مسمومة، وعادَة الله في هتْك أستار مُنتقصيهم معلومة، ومَن وقَع فيهم بالسَّلْب، بلاه الله قبلَ موته بموتِ القلْب، والعالِم يحمي الناسَ من نار الآخرة، يدلُّهم على الخير، ويُرشدهم إليهم، ويُحذِّرهم من الشر والركونِ إليه، وقديمًا قيل: "العالِم أبو الرُّوح، والأب أبو النُّطَف".
وكذلك هناك حقوقٌ للمتعلِّمين على عُلمائهم، فمِنها: تشجيعهم، واختيار المواهِب منهم، وشحْذ هِممهم، والتفرُّس في وجوههم، واختيار النجيب منهم ومكافأته، والرِّفْق بهم، وعدم كسْر قلوبهم.
قال الضِّياءُ المقدسي عن ابن قدامة يصف حاله مع طلابه: "وما علمتُ أنَّه أوْجَع قلْبَ طالب، وكانتْ له جارية تُؤذيه بخُلُقها فما يقول لها شيئًا، وأولاده يتضاربون وهو لا يَتكلَّم، وسمعتُ البهاء يقول: ما رأيتُ أكثرَ احتمالًا منه".
قال الضياء: وسمعتُ البهاء يقول: "كان الشيخُ في القراءة يُمازِحنا وينبسط، وكَلَّموه مرة في صبيانٍ يشتغلون -يشغبون- عليه، فقال: هم صبيان ولا بدَّ لَهُم من اللِّعِب، وأنتم كُنتم مثلَهم، وكان لا يُنافِس أهلَ الدنيا، ولا يكاد يشْكُو، وربَّما كان أكثرَ حاجةً من غيره، وكان يُؤثِر" (ا.هـ) (لسير:22/170، 171).
حق العمَّال والأُجراء:
وإنما يكون بعدم بخْسِ حقِّهم، وعدم الاعتداء والتسلُّط عليهم، وضرْبهم وأخْذ أموالهم، وأمْرهم بأعمال فوق طاقاتِهم حتى يقوموا بها، ومَن قام بحقِّ الأُجراء فرَّج الله كَرْبه، ونفَّس همَّه، وأراح قلْبه، وأطمأنَّتْ نفسُه.
وفي حديثِ الثلاثة الذين انطبقَتْ عليهم صخرةُ الغار: قال ثالثُهم: « » (رواه البخاري ومسلم)، فانظُرْ، لَمَّا حفظ حقَّ الأجير، فرج الله كُربتَه، وأنزل فرجَه عليه فانفرجتِ الصخرة، حتى خرجوا يمشون في الشمس.
حق المرضى وذوي الاحتياجات الخاصَّة:
فإنَّ نظرةَ الإسلام إلى هؤلاءِ نظرةُ رحمةٍ وعطف وشفقه؛ لأنَّ بهؤلاءِ تُرزق الأمَّة، وتُنصَر على أعدائها، والأمم السابقة كانتْ تتخلَّص مِن الأطفال المعاقين كحالِ الفراعنة، وأفلاطون أخْرَج المعاقين مِن مدينتِه الفاضله! لماذا؟ لأنَّهم عالَة.
أمَّا دِين الإسلام العظيم فحَفِظ حقهم، واحترَم مشاعرَهم، وراعى وُدَّهم، وسعى سعيًا حثيثًا في خِدمتهم، ورفع الحرَج عنهم؛ قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [النور من الآية:61]، وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91].
"وأَمَر عمرُ بن عبد العزيز رحمه الله بإحصاءِ المعاقين في الدولة الإسلاميَّة؛ ليعينَهم في أشياء وما يحتاجون، وذهَب أبو حنيفة إلى أنَّ بيت المال مسؤول عن النَّفَقة عليهم، والوليد بن عبد الملك كان أوَّلَ مَن بنى مستشفًى للمجذومين سنة 88هـ، وأعْطَى كلَّ مُقْعَد خادمًا، وكل أعمى قائدًا من بيت المال، ووضع لهم ديوان المرضى، وقال الوليد: لأَدَعنَّ الزَّمْنَى أحب إلى من أهلي مِن الصحيح، وبنَى الناصر قلاوون مارستانًا للمعاقين" (شريط الحقوق الاجتماعية للمنجد حفظه الله).
حق الضيف:
فإنَّ المال نعمةٌ للإنسان، وهو مُستخلَف فيه، مسؤول عنه، ويحتاج المرءُ في إنفاقه إلى وازعٍ إيماني قوي، وباعِث من الترغيب والترهيب يدفَعُه إلى مخالفةِ طبائع النفس، ويُهوِّن عليه مخالفة الهوى، ويُسهِّل عليه التغلبَ على الحِرص والشح بمساعدته، ولذلك ربطه بأصْل الدِّيانة، وأكبر البواعِث وأقواها على العمل، وهو الإيمان بالله تعالى ومِن ثَمَّ نزل القرآن في شأن الأنصاري وامرأته اللذين خالفَا أمرَ البخل، وشُحّ النفْس، وجادَا لضيفهما بقُوتِ صِبيانهما الذي لا يَجدانِ غيره، ولا يَملكان سواه، فآثراه على أنفسِهما وعلى أولادهما، وباتَا وأولادهما بلا طعام، خاوية بُطونهم من لُقْمة تسدُّ رمقَهم، فنزل فيهم قولُه تعالى: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
وقد قيل:
إِذَا مَا أَتَاكَ الضَّيْفُ فَابْدَأْ بِحَقِّهِ *** قُبَيْلَ الْعِيَالِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَصْوَبُ
وَعَظِّمْ حُقُوقَ الضَّيْفِ وَاعْلَمْ بِأَنَّهُ *** عَلَيْكَ بِمَا تُولِيهِ مُثْنٍ وَذَاهِبُ
وحق الضيف: مأخوذٌ مِن قول نبيِّنا صلى الله عليه وسلم: « »، ويكون بإكرامه، وحُسْن استقباله، والتعجُّل بالقِرَى نحوه، وهذه سُنَّة أبي الأنبياء عليه الصلاة والسلام، وطلاقة الوجه له، وطِيب الكلام معه، وخِدمته، وإظهار السعادة والسُّرور له، وصِدْق المعاملة معه، ومؤانَسته بالكلام، ولا يَتكلَّف له ما لا يُطاق، ولا يُكثِر السكوت، ولا يتصنَّع بالكذب، وأن يُحسِن وداعَه كما أحْسَن استقباله.
وقد قسَّم الخطَّابيُّ الأضيافَ وأحوالهم إلى ثلاثةِ أقسام وكيف تكون ضِيافتُهم:
"أ- أتْحَفَه في اليوم الأول، وتَكلَّف له على قدْر وُجْدِه.
ب- فإذا كان اليومُ الثاني: قدَّم إليه ما يَحضُره.
جـ- فإذا جاوز مدَّة الثلاث كان مُخيَّرًا بين أن يتمَّ على وتيرته، وبين أن يُمسِك، وجعَله كالصَّدَقة النافلة" (ا.هـ)، (غريب الحديث1/353).
وقد قال العلماء: "تجب الضيافة في مواطِن:
1- إذا خِيف على الضيف الهلاكُ، ولم يكن له ما يُبلِّغه مأمنَه، فتجب الضيافةُ في حقِّه على مَن مرَّ بهم.
2- وتجِب للمسلمين على الكفَّار، إذا صالحَهم المسلمون على ذلك، واشترط عليهم حاكِمُ المسلمين أن يُضيفوا مَن مرَّ بهم من المسلمين، فيجب عليهم ذلك وفاءً بالشَّرْط المذكور" (ا.هـ)، (شرح مسلم:2/18، والمغني:9/322).
حق المُضِيف على الضيف:
"يُبادر إلى موافقِة المُضِيف، مثل أكْل الطعام، وعدم الاعتذار بالشِّبَع، بل يأكل كيف أمْكن، ولا يسأل صاحب المنزل عن شيء مِن داره سوى القِبْلة، وموضع قضاء الحاجة، وألاَّ يتطلع إلى ناحيةِ الحريم، وألا يخالفَه إذا أجْلسَه في مكانٍ وأكرمه به، وألاَّ يمتنع عن غسلِ يديه، وإذا رأى صاحبَ المنزل قد تحرَّك بحركة فلا يمنعه منها، وألاَّ يُحرِجه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري) (بتصرُّف من الجامع شرح الأربعين النووية؛ د. محمد يسري 1/590-597).
حق كبير السِّنِّ:
للرجل الكبير حقٌّ في شريعةِ الإسلام، صاحِب الشيبة في الإسلام يُتأدَّب معه، ويُسمَع لقوله، ويُراعى حقُّه، ولا يُبخس منه شيء؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف من الآية:85]. "ومِن محاسنِ هذه الشريعة الغرَّاء أنها فرضَتْ للأكابر حقوقًا يجب أن تُعطَى لهم كاملةً غيرَ منقوصة، وأن تُبذل لهم -تعبُّدًا، وتأدُّبًا- عن قناعة، وطِيب خاطر، وسماحة نفْس، كخفض الصوت بحَضرتهم، وإعداد المحاريبِ لإمامتهم، والانتفاع بخِبْرتهم، والالتقاط مِن جواهر علومهم، وإفساح المجالِس لهم، وتهيئة الموضِع اللائق بشيبتهم في صدورها، كما تُوضَع الدرر الكبار في العقد المنضود" (ا.هـ)، (حرمة أهل العلم د.محمد المقدم ص:286).
ولقدْ شمَّر السلفُ ومَن تبعهم من الخلف عن سوقِ الدأب في سوق الأدب في مراعاةِ حقِّ هؤلاء.
لا خيرَ في أمة لا تحترم كُبراءَها؛ قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: « » (رواه البخاري في الأدب المفرد، وأحمد في مسنده، واللفظ له).
قال بعضُ المشايخ مخاطبًا النشء، مُعلِّمًا ومؤدِّبًا في وصيةٍ نافعة ماتعة، حَرِيٌّ بكل متعلِّم تدبُّرُها والعمل بها:
"اعْرِف للكبير قدْرَه وحقَّه، فإذا ماشيتَه فقدِّمه عليك في الدخول والخروج، وإذا التقيتَ به فأعطِه حقَّه من السلام والاحترام، وإذا اشتركتَ معه في حديثٍ فمَكِّنْه من الكلام قَبْلَك، واستمعْ إليه بإصغاء وإجلال، وإذا كان في الحديثِ ما يدعو للمناقَشة، فناقِشْه بأدب وسكينة ولُطف، وغُضَّ مِن صوتك في حديثِك إليه، وإذا خاطبتَه أو ناديتَه، فلا تنسَ تكريمَه في الخطاب والنِّداء" (حرمة أهل العلم، ص:286).
وجعَل الله عزَّ جلَّ كما أخبر نبيُّه صلى الله عليه وسلم البَرَكةَ مع الأكابر؛ لأنهم المجرِّبون للأمور، المحافظون على تَكثيرِ الأجور، فحثَّ على مجالستهم والاقتداء برأيهم، والاهتداء بهَديهم، كما يقول المناوي في (فيض القدير)، فتسويدُ الكِبار من حُسن الفِعال في القيام بعَملهم بعدَ رحيلهم، وتسويد الصِّغار عيبٌ واحتقار وانتقاص لهم بعدَ وفاتهم، وكان واحد من سلفِنا، وهو بكر المُزني رحمه الله إذا رأى مَن هو أكبر منه، قال: "هذا سبَقَني بالإيمان والعمل الصالِح، فهو خيرٌ مني، وإذا رأى مَن هو أصغر، قال: أنا سبقتُه إلى المعاصي، فهو خيرٌ مني".
فلا بدَّ مِن ربط الصغار بالكبار، وعدم الإقدام على أيِّ فعل إلا بمشورةِ العقلاء الكِبار، وإلا تكون النتيجة كما قال الشاعر:
إِنَّ الْأُمُورَ إِذَا الْأَحْدَاثُ دَبَّرَهَا *** دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي سَيْرِهَا الخَلَلاَ
وحضَر سفيانُ الثوري مجلسَ شابٍّ مِن أهل العلم، وهو يترأس ويتكبَّر بالعِلْم على مَن هو أكبر، فغَضِب سفيان، وقال: "لم يكن السلفُ هكذا، كان أحدُهم لا يَدَّعي الإمامة، ولا يجلس في الصدر حتَّى يَطلُب هذا العلمَ ثلاثين، وأنت تتكبَّر على مَن هو أسنُّ منك؟! قم عنِّي، ولا أراك تدنو مِن مجلسي"، فنَهيب بالصِّغار أن يحفظوا حقَّ الكبار، وأن يُنزلوهم المنزلةَ اللائقة بهم.
يَا عَائِبًا لِلشُّيُوخِ مِنْ أَشَرٍ *** دَاخَلَهُ فِي الصِّبَا وَمِنْ بَذَخِ
اذْكُرْ إِذَا شِئْتَ أَنْ تُعَيِّرَهُمْ *** جَدَّكَ وَاذْكُرْ أَبَاكَ يَا ابْنَ أَخِ
وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّبَابَ مُنْسَلِخٌ *** عَنْكَ وَمَا وِزْرُهُ بِمُنْسَلِخِ
مَن لاَ يُعِزُّ الشُّيُوخَ لاَ بَلَغَتْ *** يَوْمًا بِهِ سِنُّهُ إِلَى الشِّيَخِ
حق ذوي الهيئات والمناصِب والمكانة الاجتماعية:
وأعْني بأصحابِ المكانة الاجتماعية، الذين لم يُعرَفْ عنهم زَلَّة، ولم يُعهَد منهم كَبْوة، فينبغي أن تُقال عثراتُهم، ويُحسن الظنُّ بهم، ولا يُشهَّر بهم، بل السِّتْرُ عليهم واجب، ما لم يوجبْ فعلُهم حدًّا مِن حدود الله عزَّ وجلَّ.
والنبيُّ صلى الله عليه وسلم قال: « » (رواه أحمد وأبو داود عن عائشةَ رضي الله عنها وصحَّحه الألبانيُّ رحمه الله تعالى).
قال الشافعي رضي الله عنه: "في تفسير الهيئة هو مَن لم يظهر منه رِيبة" (نقله الخطَّابي في معالم السنن).
وقال النووي في (شرح مسلم): "الستر المندوب إليه هنا المراد به الستر على ذوي الهيئات ونحوهم، ممَّن ليس هو معروفًا بالأذَى والفساد، وخرَج بذوي الهيئات مَن عُرِف بالأذى والعناد بيْن العباد، فلا يُقالُ له عَثَار، بل تُضرم عليه النار"، كذا قال المناويُّ في فيضه.
وليس شرْطًا أن يكونَ أصحاب الهيئة والمكانة، والخصال الحميدة، اشتهرتْ عدالتُهم ودامتْ طاعتُهم، فزلَّتْ في بعض الأحايين أقدامُهم بورطة، فقد ردَّ هذا القول وعابَه ابنُ القيِّم على ابن عقيل كما في (بدائع الفوائد):
"قلت -ابن القيم-: ليس ما ذَكَره بالبيِّن، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم يُعبِّر عن أهل التقوى والطاعة والعبادة، بأنَّهم ذوو الهيئات، ولا عهدَ بهذه العبارة في كلامِ الله ورسوله للمطيعين المتَّقين، والظاهر أنَّهم ذوو الأقدار بيْن الناس مِن الجاه، والشَّرف، والسؤدد، فإنَّ الله تعالى خصَّهم بنوع التكريم، وتفضيل على بني جِنْسهم..
فمَن كان منهم مستورًا، مشهورًا بالخير، حتى كبَا به جوادُه، ونبَا عصبُ صبْره، وأُديل عليه شيطانه، فلا تسارع إلى تأنيبه وعقوبته، بل تُقال عثرتُه، ما لم يكن حدًّا مِن حدود الله، فإنَّه يتعين استيفاؤُه مِن الشريف، كما يتعيَّن أخذُه مِن الوضيع، فإنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: « »، وقال: « »" (ا.هـ)، (3/139).
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يُعينَنا على القيامِ بحقوق خلقه، إنَّه نعمَ المولَى ونعمَ النصير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] القُتَارُ: رِيحُ القِدْرِ، وَقد يكونُ من الشِّواءِ والعَظْمِ المُحْرَق، وريِحُ اللّحْم المَشْوي (تاج العروس:13 / 362).
- التصنيف: