المشكلة ليست في وجود الحق! المشكلة في أداة رؤيته

منذ 2015-05-05

إنكارك للحقائق لا يعني عدم وجودها، ولكن يعني خلل في وظيفة القلب الذي يبصر ويعمى، يمرض ويشفى، يقوى ويضعف، يصح ويسقم، ورؤيته وصحته وشفاؤه أو عماه ومرضه وسقمه يسري بالضرورة إلى الأعمال، فتصح بصحته وتنحرف بانحرافه ولا بد.

الله تعالى هو الحق، ووجوده سبحانه وتعالى أظهر شيء، وبه قام كل شيء واكتسب منه كل موجود وجوده.
كونك ترى هذه الحقيقة وتصدق بها أو لا تراها ولا تصدق بها، هذا أمر يخصك أنت، الآخرة قادمة، الوجود كله يسير نحو الآخرة، تدل عليها آيات الكتاب، وتدل عليها الدلائل والبراهين بل والفلَك ودورة المجرات وحساباتها، الكل يسير نحو المستقر والنهاية ولقاء الله، هذه حقيقة، كونك تراها أو لا تراها، تصدق بها أو لاتصدق بها، هذا أمر آخر يرجع إليك أنت.

أنزل الله كتابًا ضمّنه خطابه إلى خلقه، وهي أعظم نعم الله على البشرية، هذه حقيقة، كونك تؤمن بها أو تكذبها هذا أمر يرجع اليك أنت، الحق يخوض صراعه اليوم مع الباطل، هذه حقيقة يراهاه العدو ويخطط لها وإن غفل عنها الصديق، لكن كونك ترى الحق حقًا والباطل باطلاً، أو تضطرب فتخلط بينهما هذا أمر يرجع إليك أنت.

فرّق بين وجود الحق في ذاته، وبين رؤيته أو عدم رؤيته، بين الإيمان به أو جحوده وإنكاره وكراهته، هما أمران منفصلان، أنكر المشركون اليوم الآخر والبعث، وإذا حُدّثوا بها، قالوا -كما يقول الملحدون اليوم- أن هذا خطاب قديم عفا عليه الزمن كان يخوَف به الأولون، وأنه لم يتحقق هذا البعث إلى الآن وجاءت أجيال خلف أجيال، واستمرت الحياة إلى رقيّ وتطور، وبالتالي فحديث الآخرة هو أسطورة لا حقيقة لها {إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين:13].

كان الرد من الله تعالى في هذا الموطن ليس بإيراد أدلة البعث والقدرة عليه وحتمية الآخرة، وأنها أكثر يقينًا من الدنيا التي نعيشها، بل تكلم تعالى عن سبب عدم الرؤية فقال: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]، وقال قبلها {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [المطففين:14]، إنها المعاصي والاعتداء -الذنوب مع الخلق-، وكثرة الإثم -الذنوب مع الله-، رانت على القلوب فلم تر الحق ونفرت عنه، إنها الحقيقة وراء الموقف.

يقول ابن كثير: "ليس الأمر كما زعموا ولا كما قالوا، إن هذا القرآن أساطير الأولين، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ما عليها من الرَّيْن الذي قد لبس قلوبهم من كثرة الذنوب والخطايا".

إنكارك للحقائق لا يعني عدم وجودها، ولكن يعني خلل في وظيفة القلب الذي يبصر ويعمى، يمرض ويشفى، يقوى ويضعف، يصح ويسقم، ورؤيته وصحته وشفاؤه أو عماه ومرضه وسقمه يسري بالضرورة إلى الأعمال، فتصح بصحته وتنحرف بانحرافه ولا بد.

إن رؤية الحق نعمة، والعمى عنه عقوبة، وقد وعد الله عباده بالجزاء على التقوى أن يريهم الحق حقًا والباطل باطلاً: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال من الآية:29]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد من الآية:28]، {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام من الآية:122].

وفي المقابل يصرف الله تعالى قلب من أعرض ويضع الثقل على سمعه {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} [الأنعام من الآية:25]، في صراع الحق مع الباطل اليوم، أشد ما تخشاه أن تعاقَب بذنوبك أو خبيئاتك السيئة أو زيغ قلبك فترى الباطل حقًا والحق باطلًا.

عندما تجد أحدًا أخذ موقف الزيغ فاعلم أنه ليس بداية بداية الانحراف، ولكنه عقوبة في نفسه، وجزاء على ذنوب سلفت وخبيئات أفسدت القلب وزيغ وانحراف بدت كوامنه وأعطى أُكُله الخبيث، لا تحتج بموقف باطل لشخص آخر، فليس هذا حلاً، إنه غريق مثلك ومعاقب فصُرف عن رؤية الحق، فلن ينقذ الغريقَ غريق.

أخيرًا: إن رؤية الحق والتصديق بالله واليوم الآخر والرسالة وصراع الحق مع الباطل، التصديق بهذا تصديقًا مجملاً أمر، فقد تقف بك الذنوب عند هذا الحد فقط، أنك لم تفقد البوصلة ولكنك تؤمن إيمان الغافل أو الذي يتذكر أمرًا بصعوبة، هذا شأن، وكونك تترك حوائل الذنوب ومقاتل الآثام فيصح قلبك فتعيش هذه الحقائق وتشعر بها، وتستولي عليك وتملأ عليك مشاعرك، فتحدد اتجاهاتك وتنظم حياتك على وفقها، وتشعر وتتكلم وتقوم وتنام بهذه الحقائق معظما لله وخائفًا وشاعرًا بقربه ورقابته، تعيش اليوم الآخر بهوله وعظمته وخوفه ورجائه، تعيش الرسالة ومنهج الله حتى يسري في كيانك، وتنصر الحق حتى تصبح نصرته أحب إليك من أن لو جاءت الدنيا كلها بين يديك، هذه حال أخرى.

الحقائق كما هي في نفسها (حقائق)، تعامل معها صِدّيقون وشهداء وصالحون وبررة، وتعامل مع نفس الحقائق فجرة ومجرمون بل وملحدون، أين الفرق؟ ليس في وجود هذه الحقائق، وإنما في صحة الأداة التي تنظر وتشعر، وهي القلب، الفرق عندك أنت، وذنوبك أنت، أن تدركك هذه الذنوب وشؤمها أو يعافيك ربك، إن الخفة التي نراها اليوم والمواقف المخزية وضياع البدهيات وتبلد الحس، إنها ذنوب تدرك أصحابها، وأمراض قلوب خانت حامليها.

فلا علم ولا رؤية ولا بصيرة إلا بالله، ولا قوة على الحق ولا توفيق فيه إلا بالله، ويقيك شر ذنبك إلا هو، بتوبة ومراجعة وتطهير القلب، من الشهوة والأحقاد والكبر، وما أنت به أعلم وأبصر من بنفسك، {بَلِ الْإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ . وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14-15]، فإذا لاح لك الحق فلا تقل لقد ظهر بعد خفاء بل قل لقد أبصرتُ بعد عمى.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 0
  • 0
  • 4,739
  • nada

      منذ
    ‎جزاكم الله خيرا
  • nada

      منذ
    ‎جزاكم الله خيرا

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً