هل ولّى أم تولّى كبره زمن إدانة أهل السنة (1)
محمد بوقنطار
لعل من عاش أحداث (الحادي عشر من سبتمبر) وقف على حقيقة ما طفا على السطح من ملامح تؤسس لحملة باغية وطأت لعتو آلة حربية طاغية لم تترك الخيار أمام حكومات منبطحة راضية ومتبنية لتلك الأصوات الوافدة من الخارج والمنبعثة من الداخل، الصادعة هنا وهناك المطالبة باستئصال شأفة المنهج السني والمنادية بإقصائه من الوجود، وتنحيته ووأده في جبانة الأثر بعد العين..
- التصنيفات: قضايا إسلامية - الدفاع عن علماء أهل السنة والجماعة -
عُومل أهل السنة عمومًا على وفق ذلك المثل الذي كان يضربه أجدادنا وأسلافنا المغاربة عندما كانوا يحسون بظلم محاسبة المؤشر ومؤاخذة المشير بفعل الفعل ثم منعه والمؤاخذة عليه.
ولست أدري أيوفق المرء إلى نقله من مهد ولادته ومحاضن معهود لسان استعماله ونعني بها (العامية) إلى مبنى لغة الضاد، فقد كان المغاربة وإلى اليوم ساعة المؤاخذة يخرجون هذا المثل بمنطق الدفع وأسلوب الترفع فيقولون: "اطلع لكرمة تاكل الكرموس، انزل شكون كالها ليك"، أي "تسلق شجرة التين لتأكله" فهذا تأشير وإباحة ثم يأتي بعده النهي والمحاسبة: "انزل من أباح لك هذا".
ويهمنا من سوق المثل عقل سياق ضربه، ذلك أن أمريكا بخيلها ورجلها وهي تواجه في وقت سابق عدوها الهلامي، ونعني به ما كان يسمى ساعتها بالمد الشيوعي الأحمر، في ظل نظام دولي كانت حسب الدعوى تقود دورة إنتاجه وبيعه وشرائه وربحه وخسارته، وانحيازه وحياده وحربه وسلمه وأمره ونهيه قوة ثنائية القطبية، وهي المواجهة التي تقاطعت فيها مصالح المسلمين مع أمريكا، أو لنقل إيثار مصالح أمريكا على مصالح عدوها في بعض بؤر التماس والتوتر، حيث شجعت وفتحت أمام الشباب ذي التوجه السني رحلات الشتاء والصيف إلى أفغانستان لمجاهدة العدو الشيوعي المشترك، كما فتحت وشجعت على الزج والدفع بالمنهج السني وأصوله الفكرية القوية لمدافعة الأفكار الماركسية الثورية، التي كانت قد غزت الأسواق والأبواق والجامعات، واحتلت هامشًا من تفكير منتديات الشباب وملتقيات الكهولة المتحزبة المشكلة للهرم السكاني للمجتمعات العربية الإسلامية آنذاك.
ولربما اعتقد السنيون في ذلك الوقت من خلال ذلك الزج والتشجيع، وتحيين بعض مما واطأ في ظاهر المرحلة من صحيح الأحاديث النبوية، مستشرفين باعتقادهم قومة الخلافة على منهاج النبوة، وأنه قد حان وقتها وأزفت ساعتها، ولم يكن ليعكر صفو هذا الاعتقاد انحناء أمريكا ومدها للشباب المجاهد بالمدد المادي والمعنوي، وذلك على اعتبار أن عظمة ما ينتسبون له ويقطعون وادي رفع لوائه يقبل هذا، وفي سياقه الذي قرره سيد الخلق صلى الله عليه وسلم بقوله كما ثبت في الصحيحين: « »، وأن قوله عليه الصلاة والسلام بالمقابل: « » كان قد نسخ بما ثبت من الاستعانة بأمية بن صفوان..
إضافة إلى ما كان يصلهم وهم في ساحة الوغى باستمرار الحال على ما كان عليه، وعايشوه في مسقط الرأس من انتشار وتوسع وتمكين وصحوة مباركة للمنهج السني، في مقابل ما كان يحصل من محاصرة لبؤر الضلال والغواية الفكرية والزيغ السلوكي، فكلها معطيات ومؤشرات كانت ترسل إشارات تصنع في نفوسهم قواعد ذلك الإحساس الذي استساغ لغمه المدخون فئات عريضة من شباب الأمة، منهم من قضى نحبه دونه، ومنهم من أطال الله عمره ليجتر الذكرى ويعيش واقع وطقس انقلاب مؤشر الأمس وصانع رمس محاصرة أهل السنة اليوم.
ولعل من عاش أحداث (الحادي عشر من سبتمبر) وقف على حقيقة ما طفا على السطح من ملامح تؤسس لحملة باغية وطأت لعتو آلة حربية طاغية لم تترك الخيار أمام حكومات منبطحة راضية ومتبنية لتلك الأصوات الوافدة من الخارج والمنبعثة من الداخل، الصادعة هنا وهناك المطالبة باستئصال شأفة المنهج السني والمنادية بإقصائه من الوجود، وتنحيته ووأده في جبانة الأثر بعد العين، وما صاحب هذه الأفعال التي تجاوزت مدخول النيات من لوازم حملات إدانة وتشكيك وتشويه وتجريم لأتباع المنهج؛ بله المنهج نفسه الذي حُمل أوزار بعض من الفصيل الضيق من معشر المنتسبين أو من أهله، ولا شك أنه تحميل لم يكلف أصحابه سواء من الداخل أو الخارج أنفسهم يسير قراءة معيارية للوحي يتسنى من خلالها تصنيف المنهج الحاضن لهذا الوحي وكذا المنتسبين له بين خانتي (الغلو والتطرف).
وهكذا بين عشية وضحاها انقلبت أمريكا ومعها من معها، والإشارة تغني عن العبارة لتتم محاسبة متسلق شجرة التين ولتستعدي ضد أكله السابق وهو (العبد الآبق) الأنظمة والحكومات والناس أجمعين، ولتنسب إليه كل ما يجري اليوم في العالم من هرج وتدبير، تكفير وسفك دماء وتفجير، مع أن الذين أفسدوا باسم الجهاد وثبتت مسؤوليتهم بكل أركانها وتورطوا في التفجير والتدمير لم ينطلقوا من قواعد عقيدة أهل السنة، ولا حتى من فتاوى أئمة المنهج السني المعاصرين، ولا من سبقهم وكانوا عالة على فكره ونعني به شيخ الإسلام (ابن تيمية)، بل يمكن الجزم بالقول أن أول من أدان هذا الفكر وما ترتب عنه من تكفير وتفجير واستباحة دم هم أئمة أهل السنة، وحتى لا نتهم بالرجم بالغيب ينظر في هذا ويرجع إلى بيانات هيئة كبار العلماء.
ومهم أن يعلم المنصف أن مشروع الإدانة هذا سواء صيغ له سبب أم استغنى المتهجم عن صياغته سيبقى كما هو الآن مشروعًا متواصل الصرير يعلو ضجيجه حينًا ويخفت حينًا من الدهر قصير، كما ليس يعني ربط مشروع الإدانة بتفجيرات (الحادي عشر من سبتمبر) التأسيس لبداية هذه الإدانة واستهلال فصلها الأول؛ وإنما قد يعني التأريخ لمرحلة تميزت عن سابقاتها بسقف عال التوتر، وذلك بالنظر إلى حجم الهجوم وما اتخذه من أشكال عنف وتكالب وتهارش استوعبت أنياب فكه الكل، بل لم يسلم من عضه ونفخه ونفثه حتى بؤرة الموقد الأول مهبط الوحي دولة السعودية، بضابط ما قرره في غير مداهنة وبكل صفاقة (بوش الابن)، ووقع على ميثاقه الغليظ بالنار والحديد والتهديد والوعيد، وذلك عندما وقف ليسمع العالم قولته التي لم تترك للأغيار منطقة أعراف أو حتى حياد مسالم قولة: "إما معنا أو ضدنا".
وطبعًا كان لكل اصطفاف تبعاته ولوازمه بين الوعد والوعيد، ولما كان الكل قد اختار أن يكون (مع) كان التابع واللازم لهذا التماهي والانبطاح استهلال جنينه حيث ولادة مشهد سياسي عربي جديد، دارت على أرض تجلياته الكثير من العمليات الجراحية القيصرية التي تسكع مقصها بكل حرية وجرأة في جسد الأمة المريضة، والمراد بالطبع تغيير ملامح التطرف الذي صار يجنح إليه هذا الجسد حسب الزعم.
ولعل الواقف ولو بقراءة لا تغوص إلى العمق بين سطور توصيات مؤسسة كمؤسسة راند الأمريكية سيكتشف العلاقة التناسبية الواضحة بين تنظيرات هذه المؤسسة وما هو موضع تفعيل وبناء؛ وما هو قيد تنفيذ اليوم لما جاء ذكره بين ثنايا كل التقارير والتوصيات التي ترادفت اتباعا وذلك بهدف بناء (شبكات الإسلام المعتدل).
ولسنا في حاجة إلى التنصيص على ما هية هذا الإسلام فمن ذاق عرف ومن لم يتذوق تزندق وتفسق، أو حتى إعادة تشكيل وطرح نظريات دينية تؤسس لفكر يحمل اسم السنة لكنه مناقض لمضمونها ومخاصم لحقيقتها ومفرغ لمنهجها من أصوله وقواعده، ولعل هذا من أكبر المكر وأشنع وسائل التشكيك والتشويه لمنهج أهل السنة، منهج السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار أصحاب الفوز العظيم من الذين خلد الله ذكرهم في كتابه العزيز وقرر فيهم شهادة نتعبد بتلاوتها حيث قال جل جلاله: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100].
وهل بعد هذا الرضا المتبادل ابتغاء منهم وتفضلا منه سبحانه وبعد ما أعده لهم من عطاء يغني التفصيل فيه إجمال وصفه بالفوز العظيم، سبيل آخر يتبع أو يبحث في مضمونه وحقيقته وما هية جوهره غير تلك السبل التي حُذرنا من سلك فجاجها الوعرة والحيدة بسلكها عن سبيل المؤمنين ومشاقة الرسول من بعد تبين الهدى نعوذ بالله من الخدلان.