(9) المملوك ليس حرًا (2)
مدحت القصراوي
إن الجحود لا يليق، إننا عبيد، فأين أدب العبودية؟ فلا بد من البِر والوفاء للمالك إذ لم تخلق نفسك ولم تهبها مواهبها ولم تعطها حظها ولم تقدر لها قدَرها، بل هناك خالق مالك لهذه النفس، وعلينا التوجه نحو خالقنا ومالكنا، فالعلاقة به تعالى عميقة عميقة، مركوزة في نفوسنا ولها نداؤها، وهذا باب للولوج على الله تعالى
- التصنيفات: تربية النفس -
المملوك ليس حرًا (2)
من علم أنه مملوك وجب أن يتقيد بحكم سيده ومالكه، هذه حقيقة قامت عليها الحياة والتكاليف ولهذا فإن الملك سبحانه أمر ونهى، وأعدّ لمن خرج عن قيد العبودية عقابه {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان:4] فمن خرج عن مقتضى العبودية عوقب بالأغلال والسعير والسلاسل لخروجه عن أمر السيد سبحانه وتعالى، وهل يقيَد إلا العبد؟ وفي محل آخر {وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [سبأ:33]. وهل يوضع الغُلّ إلا في رقبة العبد؟
ولهذا لم تكن حرًا في تصرف ولست كذلك ولن تكون.
فلا بد من سؤالك كعبد {وَقِفُوهُمْ ۖ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات:24]، والجوارح تُسأل عنها لأنك عبد {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
والمال ليس ملكك تتصرف فيه كما تشاء بل لو انحرفت لكان {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ ۖ هَٰذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:42-43]
والجسد ليس ملكًا لك بل لربك يأمر بما يشاء فتُسأل عن شبابك فيما أبليته؟ وتقيد في تصرفاتك {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وجسد المرأة ليس ملكها بل تتصرف فيه بأمر سيدها، {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31].
لست حرًا في مشيتك {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37]، {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} [لقمان:19]، ولست حرًا في كلامك {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]، ولا صوتك كذلك {وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ۚ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19]، ويقول الملِك تعالى للمماليك في أمر شريف كريم {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53].
بل العمر واللحظات التي تمر عليك ليست ملكك بل بلّغنا عنه رسوله صلى الله عليه وسلم أنه «
ولأننا عبيد ولأن هناك ملكًا، فثمة جند لله تعالى يكتبون ما تعمل {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:29] ويقول: {وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} [النساء:18] حتى يقول الناس يوم القيامة {وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} إنه الملِك يكتب كل شيء من عمل وقول وبواطن عبيده وظواهرهم، ثم يحاسبهم على القلب والسمع والبصر والمشاعر والاتجاهات والمال والعمر والروح والكلمة والعمل والمشية، لأنهم مماليك.
لست حرًا في ولدك تتصرف معه كما تشاء بل أنت راعٍ ومسؤول عن هذه الرعية، بل ولست حرًا في إعطائهم المال، بل الملك تعالى يقول: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء:11] ثم يذكر قسمته تعالى للأموال.
إن الملك يحدد ما نأكل ومقداره وشروطه {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا} [الأعراف:31] {وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا} [المائدة:88].
بل يحدد من أي البيوت أُذن لنا {لَّيْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ ۚ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور:61].
إنه يعاقب من يضن بحياته عليه ويتأخر عن القتال من أجله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ، إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا ۗ وَاللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:38-39] فمن قال إنها حياتي وأنا حر فيها، قيل له: ليس كذلك، نعم إنها حياتك لكنك لست حرًا.
لا يجوز أن يزني عبد الله بأمة الله؛ ففي الحديث «البخاري) (جزء 4 - صفحة 1696).
وكثيرًا ما كان هذا التعبير من رسول الله صلى الله عليه وسلم « » « » « ».
ولهذا ينادي علينا سبحانه {يَا عِبَادِيَ}، وفي الحديث: « » وفي نداء أقرب « » ويقول: « ».
إن الجحود لا يليق، إننا عبيد، فأين أدب العبودية؟ فلا بد من البِر والوفاء للمالك إذ لم تخلق نفسك ولم تهبها مواهبها ولم تعطها حظها ولم تقدر لها قدَرها، بل هناك خالق مالك لهذه النفس، وعلينا التوجه نحو خالقنا ومالكنا، فالعلاقة به تعالى عميقة عميقة، مركوزة في نفوسنا ولها نداؤها، وهذا باب للولوج على الله تعالى.
يتبع إن شاء الله.