شرح دعاء وبيان علاقته برفع البلاء

منذ 2015-05-07

التوبة الجماعية يغفل عنها الكثير، فإصلاح الأوضاع العامة ونظام الحياة هو توبة جماعية وعلى الناس أن ترى هذا، وأن ترى ضرورته وخطورة التأخر عنه، وإلا عوقبوا بأقدار تخاطبهم: أن ارجعوا فإن الناس تُخاطَب بالأقدار كما تُخاطَب بالكتاب لينزجروا عن معاصيهم الفردية والجماعية، فلا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين، ولا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.

شرح دعاء {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} وبيان علاقته برفع البلاء.
{لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ} [الأنبياء من الآية:87]، لما كانت معصية آدم قد وقعت عن خداع من الشيطان له، وأقسم بالله تعالى كاذبًا على صحة ما يقول، ولم تكن معصية آدم عن مزاحمة لألوهية الله تعالى في قلب آدم لذلك فلما تاب كانت توبته من باب عبودية الربوبية، فنادى باسم (الرب) الخالق الرازق المصلح لشؤون خلقه والقيوم عليهم، فقال في توبته: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].

ولما كانت معصية يونس عليه السلام أن غضب لنفسه في موقف حيث خاف أن يُظن به سوء أو أنه كذب على قومه، ففعل تصرفًا لم يتقدم له فيه أمر، فلما كانت ثمة مزاحمة لكمال الألوهية -ولو في نطاق خلاف الأوْلى- فلما كان كذلك كانت توبته ورجوعه من باب الألوهية وتجريدها وتحقيق كمالها، فكانت توبته من باب: {لَّا إِلَٰهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء من الآية:87]، فكان المقصود الرجوع عما زاحم تلك الطاعة.

قال بعض السلف: "لو لم تكن التوبة أحب شيء إليه ما ابتلى بالذنب أحب خلقه إليه"، فكان يونس عليه السلام لا يتصرف إلا بأمر، فلعلو مرتبته عوتب أن تصرف في موقف بغير أمر، فكان بلاؤه لعلو منزلته، وكانت توبته آية إلى يوم القيامة، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متّى» (صحيح مسند أحمد:119/6).

{إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
أما الظلم فوضع الشيء في غير موضعه، فبذل الطاعة لغير الله تعالى، هو وضع للطاعة في غير موضعها وتقديمها لمن لا يستحقها، والظلم أيضًا هو نقص الحق، فإن العبد إذا لم يوف الله تعالى حقه من الطاعة قد ظلم فلم يوف الحقوق حيث تجب، والظلم راجع لنفسه {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَٰكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة من الآية:57]، فإن الله غني عن الطاعة، ولكن العبد قد ظلم نفسه فنقصها حقها وحظها من رضوان ربه ومحبته، وثوابه وتوفيقه في الدارين بقدر ما ارتكب من ظلم المعصية، وبحسب شدة المعصية فالظلم كائن لكل عاصي، والعبد ظلوم جهول إلا من تاب الله عليه، فالتوبة غاية كل مؤمن وبها تتم له الكرامة.

وأما الإشارة إلى الظلم بالماضي {كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}: "فللدلالة على عدم التلبس بالمعصية بل الخروج السريع عنها، وعدم التلبث أو التريث عن التوبة والاستغفار، فإن التأني عن التوبة ذنب آخر يضاف إلى الذنب، فإن كل وقت يمر على المذنب يسع لتوبته ولا يتوب فهو ذنب آخر مضاف إلى الذنب الأول، حتى يتوب" (الشيخ العز بن عبد السلام)

وقال ابن القيم: "أن من الناس من يؤخر التوبة من الذنب، ويغفل عن كون التأخير ذنب آخر، ثم عندما يتوب يتوب من الذنب الأول فقط وهو الذي يتلفت إليه ذهنه، ويغفل عن التوبة من ذنب تأخيره، وقد أمر الله تعالى بسرعة الخروج من الذنب وعدم التلبس به، فقال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:125]، وكل وقت يمر بلا توبة فهو إصرار حتى يتوب".

سبحانك! وأما التسبيح عند الاستغفار (سبحانك) فهو عميق الدلالة، وقليل ما نلتفت إلى دلالته. 
ذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شأن التسبيح عمومًا إلى قولين، فقال علي بن أبي طالب: "كلمة رضيها الله لنفسه" فجعلوها كلمة ثناء لله تعالى، وقال ابن عباس رضي الله عنه: "تنزيه الله عن السوء" وعلى وجه التنزيه لله تعالى نقول أن للتسبيح في هذا المحل دلالات تُتدبر:

1- إني لما عصيتك ما عصيتك إلا بعلمك، ولم أخرج حينها عن قدرتك ولا عن ربوبيتك، فأنا في قبضتك وتحت سمعك وبصرك وقد أحاطني علمك، وما خرجت عن مشيئتك، ولا أُعجزك أو أفلت من عقابك إن قدّرته عليّ، فسبحانك عن كل ما يتوهمه متوهِم.

2- إني لما عصيتك أطعتُ هواي، فزاحم ألوهيتك في قلبي، ولم يكن هذا عن استحقاق هواي أن يُطاع، ولا أن شيئًا أو أحدًا أحق منك أو أوْلى أن يُلتفت إليه طاعة ومحبة، فأنت الخير وأنت الأوْلى وأنت الأحق بالطاعة والتعظيم والمحبة، فسبحانك عن كل ما لا يليق وعن سوء ما يوهمه ذنبي.

3- أنه ليس عند غيرك من صفة أو اسم أو قدرة يستحق بها أن يُلتفت غليه أو يطاع، فسبحانك أنت المتفرد بكل اسم حسن ووصف عليّ يوجب العبودية والطاعة، والالتفات والتعظيم لك وحدك. 

4- إني لما الْتفتُّ إلى هواي لأجد فيه ما ظننته من تحصيل مصلحة لذة أو منفعة أو سعادة، وعصيتُ أمرك جهلاً مني وحمقًا، فإنه ليس في خلاف أمرك خير، ولا مصلحة ولا منفعة، هكذا الحقيقة وهكذا ذقتُ وهكذا وجدتُ فالخير والمنفعة والمصلحة فيما أمرتَ لا فيما عصيتُ فسبحانك.

5- أنه لما عظم ذنبي وفرط مني ورأيت أني أهلكت نفسي بنفسي، وألقيت بيدي إلى خسراني، واقتضى جهلي وظلمي ما يوجب الشرور لنفسي، وإني لما كنت كذلك وتعاظم عليّ ذنبي حتى عظم عليّ أن يرفع مقتضاه، فإني أنزهك عن أن توهم لي نفسي أن هذا الذنب يتعاظم عفوك ورحمتك، وأنزهك عن أن تظن نفسي ألا تقبلني إن أتيت إليك ورجعت من باب التوبة والذل، أو أن توصد بابا أمام عبدك وقد أتاك مطأطئ الرأس خاضع القلب معترفًا بالذنب، ومقرًا به وراجعًا من حيث ابتعد، فسبحانك أن ترد من تاب اليك، أو يظن ظان ما لا يليق.

6- سبحانك حيث يرى أعداؤك أنهم قد عصوك ولم تعاجلهم بعقوبة فظنوا رضاك عن جرائمهم، أو توهموا عدم قدرة أحد عليهم، أو أنهم آمنون وقد عصوك، أو أنك ستترك عقابهم أو تترك الانتصاف للمظلوم، فسبحانك! أن تتوهم نفس ذلك.

7- وسبحانك! أن يظن ظان أن تجري الحياة على هرج أو أن تستقر المعصية وأن تقبلها الحياة، وأن تصبح الطاعة عارضة أو تصبح المعصية أصيلة فسبحانك أن يُظن ذلك.

8- وسبحانك أن يجد العاصي الأمن عند غيرك أو الملجأ عند سواك، أو الاطمئنان وقد خالفوا أمرك فلا تطمئن نفس إلا في طاعتك، فسبحانك! أن تتوهم نفس غير ذلك، وللتسبيح مقتضيات تتبين مع التدبر، وتتبين مع ما يصدر من ظنون السوء، أويحدث في النفس من قنوط، أو يظن أن يغفل الله عن عمل العامل وظلم الظالم أو غير ذلك مما يلقيه الشيطان وتقبله النفس.

سبب هذا الدعاء ومقتضاه..
ولما كان الخير كله في يدي رب العالمين، وهذا مقتضى أسمائه وصفاته، وهكذا جرت أفعاله تعالى بالخير (بيدك الخير)، ولما كانت طبيعة النفوس الجهل والظلم، وكان هذا لازمًا، وكان مقتضى هذا -إن حُرمت من توفيق الله وتوبته- أنها تقتضي الشرور وتسبب البلاء. 

قال تعالى: {مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء من الآية:79]، يعني فسببها هو النفوس وما تقتضيه، ولهذا كان هذا الدعاء للخروج من بلاء لا يظن الناس -على ما اعتادوا- أن يخرج أحد منه، أن يبقى رجل في بطن حوت في أسفل البحر، فمن يظن أن يبقى حيًا وأن يخرج من ظلمات بطن الحوت، وظلمات البحر، وظلمات الليل وظلمات البلاء والكرب؟ لكنه خرج وعاد حيًا سليمًا، وعاد خيرًا مما كان قبلها. 

فصارت مثلاً لكل ظلمة وكل كرب وكل بلاء أن سبب ظلماته التقصير بحسب درجته، فذنوب الأنبياء في نطاق خلاف الأوْلى، فكيف بغيرهم ممن ذنوبه أعظم، وما تقتضيه من البلاءات والشرور أعظم فكان سبيل رفع البلاء والخروج من آلامه وظلماته هو الخروج من الذنب، وتجريد الطاعة والتعظيم لله تعالى، ومن هنا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة". 

ومهما رأى الرائي وظن الظان أن البلاء لا خروج منه وأنه قد أحاط بالناس، فتلك مقتضيات يرفعها الله تعالى بتوبة عباده وتجريدهم طاعتهم له، فمعنى لا إله إلا الله هنا يقصد بها قائلها أصلها وكمالها، فيقصد أصلها بالخروج من الشرك الأعظم، ويقصد كمالها بخروج أي مزاحمة لهوى أو نفس أو شهوة أو قوة على الأرض، وتجريد هذا لله تعالى وحده، وهذا سبب سعادة العبد، وكلما كان نصيبه من هذا المعنى والتجريد أعظم كانت منزلته ومرتبته أعظم، ودرجته أرفع، وكان نصيبه من السعادة أكبر وهذا المعنى به تُكفَّر السيئات، وتُغفر الذنوب.

ولذلك علم يونس عليه السلام أن البلاء مرتبط بمخالفة، وأنه لا سبيل للخروج منه إلا بالخروج مما سبّبها، وهذا نهج المؤمنين، ولذلك عند مواجهة المؤمنين لعدوهم علموا أن الخطر عليهم هو ذنوبهم، ولهذا قال تعالى عنهم عند مواجهة عدوهم: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ . فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:147-148].

فهكذا كل من أراد أن يخرج من بلاء أو شرور أو كروب، كما ينبغي أن يُعلم أن التوبة فردية وجماعية، ولا بد من هذه التوبة على هيئتيها الفردية والجماعية وعندها فسرعة رفع البلاء أقرب مما يتصور الخلق بإذن ربهم تعالى.

والتوبة الجماعية يغفل عنها الكثير، فإصلاح الأوضاع العامة ونظام الحياة هو توبة جماعية وعلى الناس أن ترى هذا، وأن ترى ضرورته وخطورة التأخر عنه، وإلا عوقبوا بأقدار تخاطبهم: أن ارجعوا فإن الناس تُخاطَب بالأقدار كما تُخاطَب بالكتاب لينزجروا عن معاصيهم الفردية والجماعية، فلا إله إلا أنت سبحانك، إني كنت من الظالمين، ولا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 11
  • 0
  • 46,629

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً