الطلاق.. الميلاد الجديد
رويدًا رويدًا على القلوب المجروحة والأكباد المقروحة، فإن في رحمة الله متّسع، وما زال الأمل في المستقبل الأفضل، فغدًا صباح جديد، وستشرق الدنيا بفجر سعيد
من قال بأن الطلاق نهاية الحياة، وأن السعادة تنتهي بانتهاء الزواج؟!
إن الطلاق في حقيقته نهايةُ تجربة قاسية محكوم عليها بالفشل، وخاتمةٌ موجعة لعذاب نفسي أو بدني أو كليهما لرجل وامرأة ليسا لبعضهما، وكان لزامًا عليهما أن يفترقا، فلا يعقل أن يستمر نزيف المشاعر، وتتواصل جراحات القلوب، بين زوجين أثبتت التجارب أنهما لن يحتملا إكمال مشوار الحياة معًا.
إذًا لماذا يظلان معًا يُعذِّب كُل واحد منها الآخر، وفي وسعهما أن تكون لكل واحد منها حياة أخرى ملؤها الفرح والمرح والسعادة والبهجة؟!
هل من المقبول والمعقول أن نحكم عليهما بما يشبه الإقامة الجبرية، والسجن القصري، والحبس القهري، وقد كان بالإمكان أن ينطلقا إلى فضاء أرحب، ويرتعا في باحات واسعة وفناءات شاسعة؟!
قال الله تعالى: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللهُ كُلًّا مِّن سَعَتِهِ ۚ وَكَانَ اللهُ وَاسِعًا حَكِيمًا} [النساء:130].
فكم من زوج ذاق الأمرّين من زوجته، ثم كان الفراق بالطلاق، فكان الانعتاق بعد الانغلاق والفرج عقب الاحتراق، وأقبل الهناء مع زوجة جديدة جعلت للحياة مذاقًا آخر!
وكم من مطلقة بائسة، تزوجت بزوج آخر، فسعدت بحياتها بعد أن ضاقت عليها الدنيا بما رحبت وبلغت القلوب الحناجر!
فرويدًا رويدًا على القلوب المجروحة والأكباد المقروحة، فإن في رحمة الله متّسع، وما زال الأمل في المستقبل الأفضل، فغدًا صباح جديد، وستشرق الدنيا بفجر سعيد!
ولكن، ثمَّة سؤال مهم للغاية ويحتاج إلى إجابة واضحة!
لماذا نخرج أعداء خُصماء، فنُطيل من أمد العناء، ونزيد من فرص الشقاء؟!
لماذا تنتهي الشراكة الزوجية في أغلب الحالات بخصومات طاحنة وعداوات ضارية بين من عاشوا الحياة الرغيدة والليالي السعيدة، ولو لحين من الدهر؟!
فإذا اتَّفق الزوجان على إنهاء الحياة الزوجية بعد أن أصبح البقاء تحت مظلتها مستحيلًا، فلما لا يجلسان جلسة هادئة وصريحة وواضحة، يتفقان فيها على إنهاء هذه الشراكة بأقل الخسائر بدلًا من محاولة تكبيد الخصم المهاجر أكبر وأفدح الخسائر؟
تأملوا معي قول ربي، وكيف يربي هذين الزوجين المطلّقين على التشاور والمناقشة بينهما على إرضاع الأطفال بعد الطلاق ومتى ينتهي الفطام لهم من غير إضرار بهم، قال الله تعالى: { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا ۗ وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّا آتَيْتُم بِالْمَعْرُوفِ ۗ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة من الآية:233].
"وفي هذا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاوُر فيما يؤدِّي إلى إصلاح الصغير".
"أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه ".
أزعم أنه قد مرَّ في حياتهما الكثير من الجلسات الناجحة والحوارات المتزنة، فخرجا بالكثير من القرارات الصحيحة، فلماذا لا تكون هذه الجلسة الأخيرة واحدة من تلك الحوارات الناجحة في حياتهما لإنهاء حياتهما معًا؟
إن جلسة كهذه كفيلة بتقريب وجهات النظر في أكثر القضايا المهمة والمعقدة بينهما، لترتيب الحاضر الجاثم والمستقبل القادم، وخصوصًا إذا كان بينهما أبناء أو متعلقات حقوقية ومالية، حتى نقضي على بؤر التوتر وأسباب الخلاف فيما سيأتي من أيام وأعوام.
فإنّ الجُرْحَ يَنْفِرُ بَعدَ حينٍ *** إذا كانَ البِناءُ على فَسادِ
فكفى ما تجرعته القلوب من غصص، وما عالجته النفوس من آلام، وما نثرته العيون من دموع!
____________
ملحوظة: يراجع كتابي (السراح الجميل).