وفُتح الباب المغلق!
ذهبنا إليهم نجرُّ الخُطى وعلى ظهورنا من حمل ثقل اليأس ما لا يُحدُّ ولا يُعدُّ. فطرقنا الباب الموصد، فَفُتِح الباب المغلق، وفتح الله به مغاليق القلوب
الموت والحياة بيد الحي الذي لا يموت !فإذا آمن الناس بهذه الحقيقة الدقيقة نظريًّا آمنَّا بها عمليًا وواقعًا تطبيقيًّا، فقد رأينا من عجائب صُنع الله ما يحيِّر الألباب ويُذهل العقول، ومن ذلك ما عشناه في قضيَّتين غريبتين في مدينة واحدة؛ فقد ذهبنا إلى مدينة (حفر الباطن) نحمل شفاعة صاحب السمو الملكي الأمير/ عبد المجيد بن عبد العزيز رحمه الله لأولياء الدَّم في هاتين القضيَّتين، فلعلَّ الله أن يأذن بالفرج من عنده، فننال من فضله في قوله: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة:32].
فذهبنا إلى أولياء الدم في القضية الأولى في موكب مهيب بعد أن تم التنسيق مع طلاب العلم ومشايخ القبائل ورؤوس الناس في تلك المدينة وما جاورها، فجلسنا إليهم بعد أن أحسنوا الاستقبال وذكَّرناهم بالله ورغبناهم فيما عنده، ونقلنا لهم شفاعة سمو الأمير وجاهه الكريم فتقبَّلوه بقبول حسن، وبعد مساجلات ومداولات طلبوا منا مهلة قصيرة لمدة أسبوع كامل للتهيئة المناسبة للقرار القادم، وبعد إلحاحهم عليه قبلناه منهم، فليس على محسنٍ من سبيل !
وعدنا لرحلنا عبر رحلتنا بأمل الرجوع إليهم لإنهاء العفو الذي أقبلت تباشيره وهلَّت أنواره. وحتى لا يخبو وهج العفو في صدورهم تم الاتصال بوالد المجني عليه للتأكيد على قبوله للزيارة القادمة في إجازة نهاية الأسبوع، فرحَّب بالقدوم الميمون، وكان بيننا وبينه مغرب يوم الخميس موعدًا لا نُخلفه نحن ولا هو مكانًا سوى في بيته !
وتقطَّعت الأسباب في ذهابنا إلى القضية الثانية لشدَّة أهلها وفظاظة ردِّهم وقسوة تعاملهم، فكانوا لا يأذنون لأحدٍ بدخول بيوتهم أو أن ينبس ببنت شفة في الحديث معهم في هذه القضية التي أجمعوا فيها أمرهم وأحكموا رأيهم في استيفاء القصاص ممن حرمهم من ابنهم القتيل. بل بلغ الكمد في نفوسهم وشدة موجدتهم على قتيلهم إلى الحدِّ الأسيف من طرد الناس بالحجارة عن بيوتهم وإغلاق أبوابهم في وجوه قاصديهم.
وبعد أسبوع حملنا أوراقنا وارتحلنا آمالنا إلى تلك المدينة التي استوت قضيتنا فيها على سوقها، وبلغت بنا الآمال مبلغها بكتابة مسودَّة محضر العفو قبل القدوم إليهم. وبعد صلاة العصر من يوم الخميس الذي وصلنا فيه إليهم زارهم زائر، فمن ذلك الزائر؟ وما الذي أحدثه في صدورهم من قرار تتحدَّد به المصائر؟!
وسابقتنا آمالنا ولهفتنا إليهم قبل دخولنا عليهم، وبعد المغرب حصل ما لم يكن بالحسبان، لقد تغيَّر استقبالهم وتبدَّل حالهم وتحوَّل مقالهم، فإذا بالقساوة بعد اللين، والفظاظة عقب الرقة، والصدود خلف الإقبال، فما الذي حلَّ بواديهم وتغيَّر في ناديهم؟
لقد كان الزائر العاثر زوج إحدى بناتهم الذي انطلق عليهم مهدِّدًا متوعدًا بطلاق ابنتهم وحرمانها من ذريتها إذا حصل العفو، فكيف يرضى بالذلَّة لذريته -بزعمه- إذا حصل العفو؟! وبعد محاولات طويلة رجعنا بخيبة كبيرة إلا من الأجر الذي نحتسبه عند الله تعالى.
وليس ما سبق من القصة بغريب إلى هذا الحدِّ، وإنما العجب العجاب أنه وفي غمرة أسفنا وحزننا من حرماننا من العفو الذي كان قاب قوسين منا أنقدح في أذهاننا أن نذهب للقضية الثانية إعذارًا إلى الله تعالى فالرجوع إلى هذا المكان قد يكون متعذِّرًا في الوقت القريب. ذهبنا إليهم نجرُّ الخُطى وعلى ظهورنا من حمل ثقل اليأس ما لا يُحدُّ ولا يُعدُّ. فطرقنا الباب الموصد، فَفُتِح الباب المغلق، وفتح الله به مغاليق القلوب، فرجعنا بالعفو عن القاتل ومعه رجعنا بالإيمان العميق والمزيد من التصديق؛ أن الحياة والوفاة بيد المحيي المميت لا بيد أحد غيره !!
- التصنيف: