الشاطبي المفترى عليه
فهد بن صالح العجلان
لا أظنّ أن أحدًا من العلماء قد قُدّم بحالة مختلفة عن صورته الحقيقية كما حصل مع الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي
- التصنيفات: تراجم العلماء -
لا أظنّ أن أحدًا من العلماء قد قُدّم بحالة مختلفة عن صورته الحقيقية كما حصل مع الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي (ت 790هـ). فلقد حرص كثير من المنحرفين على وضع اسم (الشاطبي) في واجهة تأويلاتهم المنحرفة للأحكام والنصوص الشرعية، واتخذوا من (موافقات) الشاطبي ذريعة للتهوين من النصوص الجزئية كافّة بدعوى المصلحة أو العقل أو التمسك بالأصول والكليات و(بذلك يكون الشاطبي قد دشن قطيعة إيبيستمولوجية حقيقية مع طريقة الشافعي وكل الأصوليين الذين جاؤوا بعده)[1].
فالشاطبي بهذا قد انفصل بمشروعه المقاصدي عن جادّة العلماء في تتبع الفروع الفقهية والعناية بالنصوص الجزئية لأنه قد: (دعا إلى ضرورة بنائها أعني الأصول على مقاصد الشارع بدل بنائها على استثمار ألفاظ النصوص الدينية كما دأب على العمل بذلك علماء الأصول انطلاقًا من الشافعي)[2].
وحين تقرأ للشاطبي كما هو ستجد أن الصورة مختلفة تمامًا، وأنّ هذا التصوّر لا يحكي حقيقة الشاطبي ولا موافقاته، فهو تصوير للشاطبي بحسب ما يريد للشاطبي أن يكون، وعلى وفق ما يراد من موافقاته أن تخدم مشاريع التخفّف من الأحكام الشرعية.
إن أدنى قراءة عابرة لرسالة (الموافقات) التي كتبها الشاطبي تكشف حقيقة هذا الخداع والافتراء الذي بغي به على هذا الإمام، وستجد أن تعظيم الشريعة ومراعاة نصوصها وجزئياتها وتقديم الدليل الشرعي على كلّ ما سواه من عقل ومصلحة واجتهاد؛ أصل محكم وثابت قطعي يعتمده الشاطبي أساساً لكلّ شيء يكتبه في الموافقات، فهو على جادّة الأئمة الأسلاف في تعظيم النصوص الشرعية والانقياد لها وفي كيفية استنباط أحكامها.
فالعقل عند الشاطبي لا يتقدّم على النقل بل: (العقل إنما ينظر من وراء الشرع)[3].
فهو تابع منقاد له، بل حتى المسائل الشرعية التي يُستدلّ بالعقل فيها على صحّة النقل فإنما هي عنده على كيفية: (إذا تعاضد النقل والعقل على المسائل الشرعية فعلى شرط أن يتقدم النقل فيكون متبوعًا ويتأخر العقل فيكون تابعًا)[4].
والنصوص الجزئية لها عناية تامّة: وقد أخلى لها في (موافقاته) حيزًا واسعًا لإدراكه بخطر التهاون بها: فإن ما يخرم قاعدة شرعية أو حكمًا شرعيًا ليس بحقّ في نفسه)[5].
وقد كَسَر أيّ استغلالٍ لنظريته في المقاصد بأن قرّر بكل وضوح: (أنّ من أخذ بالجزئي معرضًا عن كليّه فهو مخطئ، كذلك من أخذ بالكلي معرضًا عن جزئيه)[6]. فلا مكان لنظريته المقاصدية لمنطق نسف الجزئيات تمسكًا بالمقاصد.
ثمّ صعد بالدليل الجزئي لأعلى درجات الأهمية والاحتياط حين جعل ثبوته كافياً لجعله أصلاً برأسه: فـ(كلّ دليل شرعي يمكن أخذه كليًا وسواء علينا أكان كليًا أم جزئيًا إلا ما خصّه الدليل)[7].
واتباع الهوى: مزلق خطر ينحرف بالشريعة عن أصل وضعها فـ: (المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلّف عن داعية هواه حتى يكون عبدًا لله اختياراً كما هو عبد الله اضطرارًا)[8].
وتفريعًا على هذا الأصل شدّد الشاطبي على حرمة اتباع رخص الفقهاء في الأقوال الفقهية لأنّ: (تتبع الرخص ميلٌ مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضادّ لذلك الأصل المتفق عليه)[9].
وأوجب على المفتي أن يختار للمستفتي أرجح القولين، ولا يفتيه بجميع القولين معاً حتى لا يكون هذا سببًا لاتباع الهوى في الأحكام: (فإنه إذا أفتى بالقولين معًا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان وهو قول ثالث خارج عن القولين)[10]. لأن حاصل هذا مناقضة أصل وضع الشريعة فـ: (متى خيرنا المقلدين في مذاهب الأئمة لينتقوا منها أطيبها عندهم لم يبق لهم مرجع إلا اتباع الشهوات في الاختيار، وهذا مناقض لمقصد وضع الشريعة فلا يصحّ القول بالتخيير على حال)[11].
ويعتني بتعظيم السلف الصالح ومنهجهم وفقههم في نفس قارئ موافقاته، فيخاطبه بمنطق العالم الناصح: (الحذر الحذر من مخالفة الأولين فلو كان ثمّ فضلٌ ما لكان الأولون أحقّ به)[12].
فاتباع منهج السلف أصل يعرف به المسلم صحة طريقه وسلامة منهجه: (فيقال لمن استدلّ بأمثال ذلك: هل وجد هذا المعنى الذي استنبطت في عمل الأولين أو لم يوجد؟ فإن زعم أنه لم يوجد -ولا بدّ من ذلك- فيقال له: أفكانوا غافلين عما تنبهت له أو جاهلين به أم لا؟ ولا يسعه أن يقول بهذا لأنه فتح لباب الفضيحة على نفسه وخرق للإجماع، وإن قال: إنهم كانوا عارفين بمآخذ هذه الأدلة كما كانوا عارفين بمآخذ غيرها قيل له: فما الذي حال بينهم وبين العمل بمقتضاها على زعمك حتى خالفوها إلى غيرها؟ ما ذاك إلا لأنهم اجتمعوا فيه على الخطأ دونك أيها المتقوّل، والبرهان الشرعي والعادي دال على عكس القضية، فكلّ ما جاء مخالفًا لما عليه السلف الصالح فهو الضلال بعينه)[13]. ولأهمية جانب التعبّد لله والقيام بحقّ الطاعة: يطالب بإلغاء كل المباحث والمسائل التي لا تثمر عبادة أو سلوكًا شرعيًا فـ: (كلّ مسألة مرسومة في أصول الفقه لا ينبني عليها فروع فقهية أو آداب شرعية أو لا تكون عوناً في ذلك فوضعها في أصول الفقه عارية)[14]. حتى تتجه همّة طالب العلم إلى العمل والعبادة لأن: (كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون من حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى)[15].
ولفهم القرآن على ظاهره والتحذير من تأويله: يعيب مسلك التأويل من متأوّلة النصوص: (وهؤلاء من أهل الكلام هم النابذون للمنقولات اتباعًا للرأي وقد أداهم ذلك إلى تحريف كلام الله بما لا يشهد للفظه عربي ولا لمعناه برهان)[16].
والسير على خلاف الظاهر يؤدّي إلى إبطال الشريعة لأن: (دعوى أن مقصود الشارع ليس في هذه الظواهر ولا ما يفهم منها وإنما المقصود أمر آخر وراءه ويطرد هذا في جميع الشريعة حتى لا يبقى في ظاهرها متمسك أن يلتمس منه معرفة مقاصد الشارع وهذا رأي كلّ قاصد لإبطال الشريعة)[17].
ولشدّة تعظيمه لمقام الكلام في الشريعة: يحذّر من الكلام فيها لأنّه تحديد لمقصود الله ويذكّره بموقف قيامه بين يدي رب العالمين: (ومنها أن يكون على بال من الناظر والمفسر والمتكلم عليه أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم والقرآن كلام الله فهو يقول بلسان بيانه: هذا مراد الله من هذا الكلام، فليتثبت أن يسأله الله تعالى من أين قلت عني هذا)[18]. ويقدّم المصالح الدينية على المصالح الدنيوية مطلقًا: (المصالح الدينية مقدمة على المصالح الدنيوية على الإطلاق)[19].
هذه إشارات سريعة تكشف منهج الإمام الشاطبي وموافقاته، وفي كتابه العظيم (الموافقات) أضعاف أضعاف هذه النقولات التي تظهر منهج تعظيم الشريعة لدى هذا الإمام مما يفتّت أي إمكانية لاستغلال اسمه أو مشروعه المقاصدي لتمرير الانحرافات والتجاوزات، لأجل ذلك دعا بعض المنحرفين لتجاوز الشاطبي عند دراسة المقاصد، وأن يكون ثمّ إنشاء جديد للمقاصد يتجاوز به المقاصد الشاطبية؛ لأن الشاطبي قد قطع فيها الطريق على أي منفذ أو مخرج تسلك منه مقاصد النفوس.
[1] بنية العقل العربي للجابري، 54.
[2] بنية العقل العربي، 54.
[3] الموافقات: 1/36.
[4] الموافقات: 1/78.
[5] الموافقات: 2/556.
[7] الموافقات: 3/45.
[8] الموافقات: 2/469.
[9] الموافقات: 4/511.
[10] الموافقات: 4/509.
[11] الموافقات: 4/499.
[12] الموافقات: 3/64.
[13] الموافقات: 3/66.
[14] الموافقات: 1/40.
[15] الموافقات: 1/54.
[16] الموافقات: 3/357.
[17] الموافقات: 2/667.
[18] الموافقات: 3/385.
[19] الموافقات: 2/648.