شموخ في زمن الانكسار
دخلت إلى مسجدٍ صغير يجثم كالطود العظيم في حيٍّ فقير.. فالمنادي ينادي: حيَّ على الصلاة!
ها هو قرص الشمس ينغمس في غسق الليل.. ككرة دحرجتها في يمٍّ ليبسط الظلام رداءه على الكون.. فيغمره بالسواد. وهنا توقفت عجلة الركض في ميدان الحياة، لندخل إلى بيت من بيوت الله لأداء الصلاة، فنغتسل من أدراننا، ونتخفَّف من أحمالنا، ونحطَّ من أوزارنا، ويا له من حملٍ ثقيل!
دخلت إلى مسجدٍ صغير يجثم كالطود العظيم في حيٍّ فقير.. فالمنادي ينادي: حيَّ على الصلاة!
قطع دعائي ورجائي صوتٌ نحيل من شاب صغير تناول مكبِّر الصوت ليهتف: قد قامت الصلاة.. قد قامت الصلاة.
انسللت بين الناس لأقف معهم بين يدي مولاي؛ أعرض نفسي عليه، علَّه أن يقبلني، ويا له من موقف ما أعظمه!
وإذا بفتىً صغير، يقف في المحراب كعصفور هزيل يرفرف في عشٍّ جميل.. التفت إلينا ثم هتف فينا: استووا.. اعتدلوا...
عجبًا له!
ما أشدَّ جرأته!
كيف يقتحم هذه العقبة الكؤود، وفي القوم خلفه من هم أطول منه عمرًا، وأكبر سنًا، وأكثر علمًا، وأعلى منزلة، وأزكى حسبًا ونسبًا؟!
سلسلة من الأسئلة عصفت بي حتى غدوت بها كصخرة جامدة تلطمها أمواج البحر العاتية.. انقطعت حبال أفكاري كسبحة تناثرت خرزاتها في كلِّ جانب بصوته النحيل، وهو يقول: الله أكبر!
كبرنا بتكبيره، وفي القلب ما فيه، و إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبَّر فكبِّروا..
وفجأة!
رأيتني كنسمة باسمة تصَّعَّدُ في السماء!
أبصرتني كطيف حالم يخترق حجب الفضاء!
سمعت ما لم أسمع من زمن.. تلاوة خاشعة بصوتٍ شجيٍّ نديٍّ لطيف.. رفرف له القلب، وأرهف له الحس، وأصاخ له السمع، وخشعت به الجوارح! سألت نفسي في دهشة: أهذه الفاتحة التي أسمعها في كلِّ يوم!
أتبعها بغيرها من الآيات..
فشعرت بدمعة حارَّة تنداح على صفحة خدِّي لتغسل ما في قلبي.. فيا لها من دمعة! كم كنت أبحث عنها كواحةٍ في صحراء عمري، وكمحطة راحةٍ من كبد حياتي.. هذا موعد هطولها كالغيث يهمي فوق روابي الحياة التي أجدبها الجفاف.. وودت أن لا يركع.. فقد وجدت نفسي معه.. لكنه ركع، ثم رفع.. ومضت بنا تلك الصلاة كأروع ما تكون!
قام الناس، ولم أقم.. وحينما حان القيام ذهبت إليه وسلَّمت عليه، وقلت له: ما اسمك يا بني؟ فأجابني بنبرة واثقة باسمه ونسبه.
قلت: فكم تبلغ من العمر؟ قال وقد علته ابتسامة لطيفة: إحدى عشرة سنة!
قلت: فكم تحفظ من القرآن؟
أطرق برأسه قليلًا، ثم قال: أحفظه كاملًا ولله الحمد والمنّة.
وددت أن أضمَّه إلى صدري، وأن أقبَّله بين عينيه، فقد ارتسمت أمامي أخيلة كثيرة لشباب الأمة في مثله سِنِّة، ما أحلامهم؟ واهتماماتهم؟ وأعمالهم؟
قلت: من قدَّمك لتصلي بالناس يا بني؟
هنا رميته بعاصفة هوجاء.. تبعثرت كلماته.. تناثرت حروفه.. أعجزه الجواب! ظنَّ أني جهة مراقبة ومحاسبة عليه..
أردفت بالسؤال: من قدَّمك لتصلي بالناس؟!
قال: وقد ارتج عليه: أبي!
قلت: لا! لم يقدمك أبوك، الذي قدمك هنا هو؛ الله! فإنّ الله تعالى يرفع بهذا القرآن أقوامًا ويخفض به آخرين.
موقع هاجس
8/8/2007
- التصنيف: