وجاء دور الأراذل
مدحت القصراوي
عندما يحدث الاغتراب ينسحب الحكماء ويبرز الأراذل ليتصدروا المشهد، لأن الناس في مثل هذه الحال لا يجتمعون على مبدأ وعقيدة بل على الطبل والزمر، وعندها ينسحب الحكماء لعدم الالتفاف حولهم، ولأنه لم يعد لهم كلمة مسموعة، ولا رأي لمن لا طاعة له..
- التصنيفات: مذاهب باطلة - الواقع المعاصر -
عندما جاءت العلمانية أخرجت الناس من التزام منهج الله في الحياة، وأخرجت، في نفس الوقت، الأمة من هويتها وزحزحتها عنها، ومارست عليها الاستبداد بحكم عسكري جبري، لأنه لما كان النظام الذي فُرض على الأمة يخالف عقيدتها وهويتها، كان لا بد من قوة تفرض بها هذه الأنظمة الخارجة عن عقيدة الأمة وهويتها.
عندما تحكم الأمة أنظمة استبدادية تصادر حريتها وتمثيلها الحقيقي، حتى لو كانت موافقة لهويتها، تدخل الأمة في الاغتراب، كما حدث في التاريخ الإسلامي بشدة الأيدي على الأمة في الخلاف السياسي منذ يزيد بن معاوية إلى رجال الدولة كالحجاج إلى ما بعدهم، فحدث جزء من الاغتراب، لكن كانت الهوية الإسلامية الجامعة تمنع الاغتراب الكامل، لكن هذا مهّد للانسحاب من الشأن العام..
وعندما تفرض على أمة هوية أخرى يحدث اغتراب أعمق، فإذا اجتمع الأمران، (اختلاف الهوية) مع (الاستبداد)، كان السقوط في بئر الاغتراب..
وعندما يحدث الاغتراب ينسحب الحكماء ويبرز الأراذل ليتصدروا المشهد، لأن الناس في مثل هذه الحال لا يجتمعون على مبدأ وعقيدة بل على الطبل والزمر، وعندها ينسحب الحكماء لعدم الالتفاف حولهم، ولأنه لم يعد لهم كلمة مسموعة، ولا رأي لمن لا طاعة له.
وعندئذ يتقدم الأراذل والسفهاء، وسقط الناس ليتصدروا ويقودوا، وعندئذ فلا بد أن ندرك مدى خطورة الأمر ومصيبته، فـ(الأراذل، والرذالة) يعني سفاهة الرأي، وسقوط الشخصية، وانحدار الخلُق، واتباع الشهوات، والتلون، وقبول البيع لمن يدفع أكثر، وتغيير المبادئ كتغيير الملابس، وبيع الأوطان والأمم، وقبول العمالة.. إلى غيرها من صفات أراذل الناس الذين يمثلون الانحدار السياسي والاجتماعي والعسكري..
تصور أن يتقدم الأراذل سياسيًا وإعلاميًا وعسكريًا وقضائيًا واجتماعيًا، ودعويًا، عندها يكون واقعنا اليوم..
وهذه جملة تحتاج إلى تفصيل، لكن هذا التفصيل يتكفل به أداء السياسيين مع العسكر مع الإعلام مع قيادات العمل الحقوقي السياسي والاجتماعي، مع أداء الفنانين والممثلين، مع أداء بعض الدعاة والوعاظ عندما ينتظمهم وصف الأراذل.
إن (الأراذل) حالة نفسية، وخامة رديئة أنتجتها بيئة استبداد وفساد وانحلال، إنها صناعة شخصية في بيئة مريضة، إنها خصائص نفسية عميقة لا ينقص صاحبها جرأة ووقاحة التقدم مع تبدل المواقف إلى النقيض.
وانتشار هذه الحالة يعطي حالة (غثاء كغثاء السيل)، حيث الأراذل يستخفّون الناس فيتبعهم أمثالهم، حتى لم يعد الأراذل من الإعلاميين والمتحدثين والقضاة -من شدة السفاهة- لم يعودوا يتقنون الكذبة، واستساغوا أن يقولوا الشيء وعكسه ويقولون ما لا يُعقل، حتى قالت منظمة حقوقية عالمية: "إن بعض التهم الموجهة إلى أنصار الشرعية من الإسلاميين هي تهم خيالية!"، لكن قالها الأراذل وصدقها السفهاء!
في كل مجتمع سِفلة وأراذل، وفي كل مجتمع شرفاء وحكماء، والشأن في اختلاف مجتمع إلى آخر، ليحدد من يتقدم ومن يطرد من كلٍ من الحكماء والسفهاء، هو الحالة التي تحكمه.
فالمجتمع الذي تتمثل فيه هويته وتحرر عقيدته ويبني النظام الذي يمثل هويته وعقيدته، والذي يتم فيه بناء النظام الذي تتحرر فيه إرادة الأمة لتأخذ الأمور وضعها الطبيعي، عندها يتقدم الحكماء والأشراف ويتأخر الأراذل والسفهاء، والعكس يتقدم فيه الأراذل ويسود فيه السفهاء ويتكلم فيه الرويبضة ويصدق فيه الكاذب ويخون الأمين ويُعتدى على الشرفاء والطاهرين حيث تعوي عليهم الكلاب تنهش أعراضهم بحقد دفين.
لا تعجب فيما ترى اليوم فهذه ضريبة الاغتراب الذي عاشته الأمة منذ فقدانها للنظام الإسلامي في أول القرن العشرين، وتعمق منذ وجود النظام الاستبدادي في وسط نفس القرن، إذًا لا تفجع عندما ترى السقوط يطال من لا تتصور من الناس والرموز الدينية والسياسية والاجتماعية والإعلامية، بل وطن نفسك على هذا.
لا تيأس! فالشرفاء يُصنعون صناعة ليستأهلوا القيادة الجادة.
لا تنسى فلا بد من تغيير تلك النخبة، نخبة الأراذل، فأزمتنا عنوانها تلك النخبة، تكوينًا وأداءً وفكرًا وعقيدة، وتغرب عن هوية الأمة، وحقيقة الأزمة غياب النظام الشرعي والابتعاد عن الهوية وغياب الحرية والشورى وتمثيل الأمة لإرادتها، لو عولج السبب الحقيقي فالبناء يسير وعودة الأمة يسيرة لكن هذا هو العلاج الأساس.
والعقيدة الصحيحة أساس لهذا الإصلاح، لكن ليست وحدها ؛ فأخلاقيات وتربية هذا الدين واستجلاء النظام الإسلامي الراشد والتربية النبوية والراشدة شروط مهمة مع العقيدة..
يجب أن ننظر إلى الإنسان الذي أخرجته التربية الراشدة لنستهدف إخراجه، مع استهداف النظام الإسلامي الراشد.
كن على وعي وأمل؛ فالأحداث المعاصرة تسرع الخطوات، ويد الله تعمل، والأقدار تبني..
لا بد من حكماء تنظر في عملية إخراج الأمة أثناء هذا الصراع وتستهدف تغيير الشخصية وتأهيلها لمرحلة قادمة يحضر فيها دور الأمة وتعظم واجباتها.
{...اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ . وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ . وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود:121-123].