حصاد الغربة
لوطن في الحقيقة ليس في الأرض وﻻ في الحدود وﻻ في العلم، فكلها رموز، الوطن فيك أنت (أنت الوطن)!
حقيبة السفر، وصوت الطائرة، ودموع أمك، ودموعك، إنها بداية الرحلة.
تلك اللحظات عندما تغادر أرض الوطن ويرحل فيك الوطن! فتحمله هنا في صدرك وتشعر لأول مرة أنه يوجعك.
أجبرك على الرحيل، غلق الأبواب، تقلص فيه كل شيء حتى الرغيف، وغاب الأمن والأمان..
الآن ترحل تاركًا خلفك فصول الربيع الحلوة، ونسمات الشتاء الباردة، وبعض الذكريات.
ستجد نفسك في أرض أخرى كنبتة خضراء أقتعلت بجذورها من أحب بقاع الأرض إليها، فتمزقت الأطراف ونقلت لتربة أخرى وسقيت بماء آخر طعمه يختلف عن ماء نيلنا الحبيب، ذاك الذي لوثته بقايانا لكننا نحبه، وسنظل نعشق طعم مائه العذب.
ستعيش.. لكنك ستشعر بوحدة، العيد سيكون صوته بارد على الهاتف.
رمضان لن ترى زينته في الشوارع، ولن تقف مبتسمًا وأنت تراقب تعليق الفوانيس، ستغيب رائحة الفول والسهر للسحور.. حضن أمك سيكون على شاشة الحاسوب لكنك ستشعر بدفء دموعها لأنك ستبكي..
ربما ستفاجأ بخطبة أختك، أو بزفاف صديقك، وسيرسلون لك صورة وتعليق.
ستضحك أحيانًا.. لكنك ستدخر الفرحة حتى تعود وكأنك ﻻ تراها ملائمة لغربتك.
وإن عدت سيبتعدون قليلاً لأنهم يظنون أن كل أيامك كانت ضحك وفرح ومرح ونقود، وربما يبخلون عليك بالابتسامة.
سيراقبون هاتفك الجديد وساعة يدك، وحروف الماركات الشهيرة المخطوطة على سترتك..!
ستشتري كثيرًا وكأنك تبحث عن شيء يفرحك! وتدخر مالاً ستتعب فيه بشدة وستدفع ثمنه من عمرك، وسيفوتك الكثير، وسيتوقعون أضعاف أضعافه، فأنت "سافرت بلاد بره ومعاك فلوس".
سيشككون في وطنيتك! ولو ناقشتهم سيسكتونك لأنك بعيد ولا تشعر بمعاناتهم.
رأيك الذي كان هامًا ويؤخذ به سيكون أحيانًا رأي فقط يسمع، ورغم صحته لن ينفذ لأنهم سمعوه بعد فوات الأوان.
أقرب الأصدقاء سينشغلون عنك، ستبدأ برسائل ومكالمات عميقة وحارة، وستعتاد ويعتادون على غربتك وستبقى علاقات الحب العميقة أغلبها ذكريات حلوة.
سترتبط بوطنك الجديد، لكنه سيعاملك معاملة الطفل اللقيط! فأنت ﻻ تشبه أبناءه لكنه سيرحب بك ما دمت تنتج وتعمل، واحذر فربما يلفظك في لحظة على قارعة الطريق، فأنت غريب، ربما ستمل أحيانًا من أجازاتك لأن الجميع سيدخر كل المشكلات طوال العام ليقصها عليك بتفاصيلها وسينسون أنك جئت لترتاح، مطلوب منك مجاملة الجميع خلال زيارتك القصيرة حتى لو مر على المناسبة شهور طويلة، ولن يشعر أحد بمرضك وأنت وحدك في غربتك.
غربة مرة! ﻻ تحليها إﻻ تلك الوجوه الباسمة التي ستلتقيها في المساجد، فتعرف فلانًا وقد أوجعه وطنه أيضًا في صدره، فتبدأ صداقات جديدة، وحب في الله من نوع آخر لم يركض من قبل على أرض المدارس وﻻ ساحات رياض الطفولة.
عندما تمرض هم سيزورونك، ستطبخون معًا وتخرجون معًا، وتضحكون معًا وكل منكم يحمل قصة من ماضيه ربما يسامركم بها في ليلة.
ستلدين في غربتك وربما تلتفتين فلا تجدين أمك، لكنك ستأكلين من يد صديقتك السورية والأخرى المصرية، وتلك الفلسطينية فكلكن غريبات، ستكونون أسرة كبيرة، وستجتمعون في رمضان والعيد سيكون بطعم مختلف.
ستربتون على أكتاف بعضكم وتطيب بعض الجروح.
ستتحرر الآن من قيدك، ستضحك من قلبك وستفرح هنا حيث أنت.
ستحب حياتك وتعود كل عام وأنت أقوى، ولن تؤلمك ردود أفعالهم لأنك ستفهم.
فالوطن في الحقيقة ليس في الأرض وﻻ في الحدود وﻻ في العلم، فكلها رموز، الوطن فيك أنت (أنت الوطن)!
اللهم رد كل مغترب لوطنه واجعله وطنًا آمنًا مطمئنًا، واحفظ أحبابنا في كل بقاع الأرض.
- التصنيف: