مصطلح (التنوير)
سليمان بن صالح الخراشي
وكان مصطلح التنوير هو المعبر عن نتيجة هذه المعركة التي حسمها التاريخ والواقع لصالح العلم والعقل والنور ضد الكنيسة وآرائها
هذه الحلقة عن مصطلح يكثر استخدامه والوصف به في كتابات الليبراليين المعاصرين (الملتحين وغير الملتحين!)، هو مصطلح (التنوير)، وهو مصطلح جذاب وبراق؛ كغيره من المصطلحات المشتركة، حمالة الأوجه، التي تُستخدم لتمرير الأفكار (بنوعيها)، فالمحق يعني بها حقًا، والمُبطل يعني بها باطلا؛ قال شيخ الإسلام: "قد قيل: أكثر اختلاف العقلاء من وجهة اشتراك الأسماء، وكثيرٌ من نزاع الناس فى هذا الباب هو من جهة الألفاظ المجملة، التي يفهم منها هذا معنى يثبته، ويفهم منها الآخر معنى ينفيه" (الفتاوى:12/552).
وهذه نقولات عن بعض العَلمانيين العرب عن هذا المصطلح، والقصد منه؛ ثم أتبعها بما يجليها من كلام أهل الحق إن شاء الله:
يقول د/ عاطف العراقي في كتابه (العقل والتنوير:ص 14): "قد لا أكون مبالغًا إذن إذا قلت بأننا الآن في أمس الحاجة إلى السعي نحو التنوير الثقافي، التنوير الذي يقوم على تقديس العقل، والإيمان بأن الثقافة الخالدة، إنما هي الثقافة الإنسانية التي تتخطى حدود الزمان والمكان، وبحيث تتحرر من العادات والتقاليد والرجعية، وتنطلق ساعية إلى تحقيق سعادة الإنسان، بما تتضمن من آداب وعلوم وفنون سامية رفيعة، وعن طريق التنوير نستطيع إرساء نظام ثقافي عربي جديد. إن أوروبا لم تتقدم إلا عن طريق السعي بكل قوتها وابتداء من عصر النهضة نحو تحقيق مبدأ التنوير، وبحيث وجدنا ثقافة أوروبية جديدة، تختلف في أساسها ومنهجها عن ثقافة العصور الوسطى".
ويقول د/ عبد الرزاق عيد، في كتابه (أزمة التنوير:ص 5): "إن الخطاب التراثي المحدَث انكب يصفي الحساب مع كل قيم التنوير التي أنتجها الزمن النهضوي، من خلال تجريمه، وتأثيمه، وتخوينه، بوصفه زمنًا استعماريًا، زمن التشوه الذاتي والغزو الثقافي، ونزعم أنه لم ينتج وعيًا مطابقًا بزمنه، بل طرح إشكالات غريبة عن واقع المجتمع العربي، حيث الهجانة، والإصلاحية، والقصور، وبلغ الأمر حد تخوين الإمام محمد عبده واتهامه بوطنيته...".
ويقول د/ مراد وهبة في كتابه (مدخل إلى التنوير:ص 7): "إن ثمة فجوة حضارية بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة ليس في الإمكان عبورها من غير مرور بمرحلتين: إحداهما: إقرار سلطان العقل، والأخرى: التزام العقل بتغيير الواقع لصالح الجماهير. بيد أنه ليس في الإمكان تحقيق هاتين المرحلتين من غير مرور بعصرين: عصر الإصلاح الديني الذي حرر العقل من السلطة الدينية، وعصر التنوير الذي حرر العقل من كل سلطان ما عدا سلطان العقل".
وقال (ص 18-19): "الرأي الشائع والمألوف أن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، وهو عصر من صنع الفلاسفة وهو لفظ يُكتب دائمًا بالفرنسية دلالة على أن التنوير، وإن كان ظاهرة أوروبية على الإطلاق، فهو ظاهرة فرنسية على التخصيص. وإن كان الفلاسفة قد مجدوا العقل، مثل اليونانيين، إلا أنهم تميزوا بفصل الفلسفة عن الميتافيزيقا التقليدية. فالعقلانية القديمة لم توفق في الربط بين العقل والحياة اليومية، ومن ثم انفصلت عن الوقائع العينية للحياة الحقيقية. وإذا كان التنوير معتزًا بأن يكون هو عصر الفلسفة، فالفلسفة هنا، ليست هي الفلسفة بالمفهوم التقليدي، وإنما هي رؤية وضعية لنسق العالم، ولأنحاء الوجود الإنساني، فتؤسس العلوم والفنون على مبدأ العلية دون مجاوزة هذا العالم، ومن ثم يهتم الفيلسوف بالحياة في هذه الدنيا، وليس بالبحث عن الحقائق الأزلية، فيربط بين العقل والوقائع العينية. وقد تأثر فلاسفة التنوير بمفكرَين عظيمين هما: لوك ونيوتن".
ويقول (ص 30): "خلاصة القول: إن مهمة التنوير الأساسية لم تكن معرفة طبيعة الإنسان، وإنما تغيير المجتمع من أجل تغيير سلوك الإنسان، على أسس عقلانية ومادية".
قلتُ: هذه مجرد نماذج من كلامهم تبين المقصود، وأنه مجرد استنساخ لما حصل في الغرب بعد تسلط الدين المحرّف (الكنيسة)، ثم الثورة عليه بعد تمهيد من يُسمون فلاسفة التنوير لذلك، وإحلال الأفكار الوضعية محله، والاهتمام بعلوم الدنيا. (كان هذا في فترة سابقة، أما الآن فعاد كثيرٌ منهم للدين ولو كان محرفًا). ولتفاصيل ما حصل في الغرب يُنظر كتاب الشيخ سفر الحوالي (العَلمانية).
قال الدكتور محمد يحيى: "التنوير مصطلح يطلق في الفكر الغربي على مجموعة واسعة من الكتابات ظهرت بدءًا من أواسط القرن الثامن عشر الميلادي وإلى نهايته في أوساط الفلاسفة والمفكرين في فرنسا أساسًا، ثم إلى درجة أقل في بريطانيا وألمانيا. وهذه الأفكار ظهرت وسط بيئة متشابكة من ردود الأفعال على الحكومات والطبقات المستبدة (الملكية) في تلك الحقبة، وعلى الأفكار الكنسية المصاحبة لها والمعضدة لها، كما ظهرت متأثرة بنضوج الفكر العقلاني (كما أسموه) الراجع بجذوره إلى عصر النهضة الأوروبية والمزدهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر كذلك. وظهرت تلك الأفكار على أعقاب التغيرات الكبرى التي حدثت في أوروبا ومهدت لها في القرن التاسع عشر فيما عرف بعصر العلم، وعصر الثورة الصناعية، وعصر صعود الطبقة البورجوازية. وعصر الثورات الكبرى (الأمريكية والفرنسية)، وعصر الفكر الحر، وعصر المذاهب الفلسفية الرئيسية (الهيجلية والماركسية)، وتحدد مضمون الكم الفكري المؤسس لحركة التنوير في الأساس بالموقف من الدين وفكره (وهو هنا المسيحية المحرفة)، كما رسم الفكر العقلاني الإنساني السابق على حركة التنوير والمصاحب لها، ولهذا اتسم فكر التنوير بعداء شديد ورفض للدين مسوَّغ بالعقلانية التي ترفض الغيبيات، وتجمع بين الدين وبين الخرافة والخزعبلات في وعاء واحد".
أما دعاوى أهل التنوير في العالم الإسلامي، فيقول عنها: "ومن هنا فالتنوير السائر هو في حقيقته ليس تنويرًا على الإطلاق بل محاكاة وتقليدًا وجمودًا على أفكار غربية سقطت حتى من سياقها التاريخي والثقافي الخاص.. وفوق هذا فالتنوير الذي يُروِّج له بعض الناس الآن ليس تنويرًا بالمفهوم الذي قد يتبادر إلى الذهن؛ من نشر للعلم والفكر والتأمل العقلي، بل هو لا يعدو -كما قلنا- إطلاق شعارات عامة غامضة موجهة كلها ضد الدين (الإسلام)، في إطار خطة لا تنويرية ولا عقلية ولا علمية بل سياسية محضة، هي ما اصطلح على تسميته بسياسة مكافحة التطرف والإرهاب المزعومين والمنسوبين إلى الحركات الإسلامية وإلى دعاة الإسلام. وإذا كان من صدق في نية الحديث عن التنوير فكان يجب أن يكون كذلك عن الإسلام، وفي إطاره وخدمة لدعوته" (مجلة البيان، العدد:159).
يقول الدكتور محمد السيد الجليند في كتابه (فلسفة التنوير بين المشروع الإسلامي والمشروع التغريبي:ص 12 – 17): "إن مصطلح التنوير -كغيره من المصطلحات العَلمانية- وفد إلينا من الغرب ضمن مجموع المصطلحات التي غزت ثقافتنا المعاصرة خلال حركة الاتصال الحديثة بين مصر والعالم الغربي -خاصة فرنسا- خلال القرنين الأخيرين. ولقد نشأ هذا المصطلح في ظروف تاريخية عاشتها دول أوروبا شرقًا وغربًا، كانت ثقافة الشعوب في أوروبا خلالها قاصرة على ما تمليه عليهم سدنة الكنيسة ورجالها، وكانت السيطرة الثقافية واللاهوتية وتفسير الظواهر الطبيعية خاضعة لرجال اللاهوت الكنسي، لا يجوز مخالفتها، باعتبار ذلك وحيًا لا تجوز مخالفته.
ومن المعروف تاريخيًا أن موقف الكنيسة وآراء رجالها كانت في العصور الوسطى تمثل الجهل والتخلف والخرافة، فلقد طلبوا من المسيحيين الإيمان والإذعان لآرائهم في تفسير الظواهر الكونية مدعين أن الدين (الكنيسة) يختص بتفسير هذه الظاهرة، وإن الخروج عليها كفر وإلحاد، ويكون جزاؤه الطرد من رحمة الكنيسة.
ومن المفيد أن ننبه هنا إلى أن موقف الأديان من الكون وظواهره هو الإيمان بما هو موجود على ما هو عليه في الوجود، دون أن يفرض الدين تفسيرًا معينًا لهذه الظاهرة أو تلك، تاركًا ذلك كله لمنطق العلم وما يصل إليه العقل من اكتشافات وعلاقات بين الأسباب والظواهر، دافعًا للعقل أن يعمل ويكتشف القوانين ويدرك العلاقات، جاعلاً الكون كله خاضعًا لسلطان العقل بحثًا واكتشافًا وتسخيرًا وتوظيفًا. ومن هنا كان الكون كله آية دالة على خالقه، وكان أكثر العلماء اكتشافًا لقوانين الكون وأكثرهم إدراكًا للعلاقات أشدهم خشية لخالق هذا الكون. هذه نقطة تحتاج إلى بسط وتفصيل أحسب أن له مجالاً آخر، ولكن أردنا أن ننبه هنا إلى السقوط الذي وقعت فيه الكنيسة بفرض آرائها على العلماء ودعوى احتكارها تفسير الظواهر الكونية، ووجوب الخضوع لتفسيراتها وقبول آرائها في تفسيرهم للظواهر الطبيعية، وترتب على ذلك ميلاد حركة التنوير الرافضة للكنيسة ولآرائها، معلنة أن ما يدعيه رجال الكنيسة باطل لاحق فيه، جهل لا يسنده علم، خرافة لا يقبلها العقل.
ولما كان رجال الكنيسة هم الممثلون للدين. فقد فتش العلماء فيما يطالبهم رجال الكنيسة الإيمان به والاعتقاد بصحته، فوجدوا أن هذه الآراء، وتلك التفسيرات، خرافة لا يقرها العقل، وجهل لا يقبله العلم، وظلام وتخلف لا يثبت أمام النقد ومنطق العلم، فأعلنوا ثورتهم على هذه الآراء وتلك الخرافات التي ارتبطت في أذهانهم بالكنيسة ورجالها.
وبدأت قصة هذا الصراع المرير بين الكنيسة والعلماء منذ أيام (كوبرنيق)، الذي أعلن عن آرائه في الطبيعيات والفلك ومركز الكون، وكلها على نقيض ما يدعيه رجال الكنيسة، وانسحب ذلك الموقف بكامله على الدين بمفهومه العام.
لم ينتبه العلماء إلى ضرورة التفرقة بين رأي رجال الكنيسة والدين الصحيح في مفهومه العام. وصار الدين عندهم -كما عرفوه من رجال الكنيسة- تجسيدًا للتخلف والجهل والخرافة. وأصبح رجل الدين رمزًا لكل هذه المعاني. فهو داعية للجهل، ومحارب للعقل، ورافض للعلم، ولا شك عندي أن هذه الكوكبة من العلماء التي عاشت هذه المعركة كان ينقصها العلم بالدين الصحيح، الذي نزل على عيسى عليه السلام، فضلاً عن جهلهم التام بالإسلام واحتضانه للعلم، وتكريمه للعلماء، ولا شك عندي أيضًا أن رجال الكنيسة الذين أعلنوا هذه الحرب التاريخية على العلم والعلماء قد أساؤوا إلى المسيحية، وأفسدوا بموقفهم هذا حركة التاريخ المعاصر. فلا انتصروا لدينهم، ولا حققوا النصر على عدوهم، بل كانوا بموقفهم هذا الباب الطبيعي الذي فتح على مصراعيه لدعاة الإلحاد والثورة على الكنيسة والدين معًا، حيث صوروا الموقف على أنه صراع بين الدين والعلم، وليس بين رجال الكنيسة والعلماء بين العقل والخرافة، بين النور والظلام بين التقدم والتخلف، وكان مفهوم التنوير يعني التحصن بمنطق العلم والعقلانية، ضد هذا الدين ورجاله، الذين يمثلون الجهل والخرافة، فكان لابد أن ينتصر العلم في مواجهة الجهل، وينتصر العقل في مواجهة الخرافة، والتقدم في مواجهة التخلف.
وكان مصطلح التنوير هو المعبر عن نتيجة هذه المعركة التي حسمها التاريخ والواقع لصالح العلم والعقل والنور ضد الكنيسة وآرائها، ولقد صورت المعركة كلها على أنها صراع بين الدين، بمعناه العام، وكل معاني التنوير التي هي العقلانية والتقدم، وانتقلت المعركة بكل ملابساتها وظروفها إلى عالمنا العربي بدون أن يفطن دعاة التنوير في عالمنا العربي إلى أن الإسلام ليس هو الكنيسة، ولا عالمنا العربي هو أوروبا، ولا الحضارة الإسلامية هي الحضارة الأوروبية في عصورها المظلمة، فليس الدين عندنا رافضاً للعلم، ولا محارباً للعقل.
وأخذ دعاة التنوير عندنا يصورون المعركة في بلادنا على أنها صراع بين الإسلام والعلم، بين الدين والعقل، بين ضرورة التخلص من الماضي، والنهوض بالمستقبل، وكان النموذج الغربي في نظرهم هو المثل والقدوة التي ينبغي أن نحذو حذوها، ونسير في ركابها، حتى لو دخلوا جحر ضب خرب لدخلناه معهم.
وأصبحت الثنائية التناقضية بين الدين والعلم عنوانًا لحركة التنوير، وملازمة لها في بلادنا، فكما رفض العلماء في أوروبا الكنيسة، وأعلنوا الحرب عليها، دليلاً على التنوير، أخذ دعاة التنوير عندنا بنفس المبدأ، فأعلنوا الحرب على الإسلام ورجاله، لكي يعلنوا عن أنفسهم أنهم تنويريون ودعاة التنوير، وكما أعلن العلماء في الغرب أن الدين -الكنيسة- خرافة، ورجاله رموز للجهل، أخذ دعاة التنوير في بلادنا يلصقون نفس التهم بالإسلام ورجاله، ولو أنصف هؤلاء الدعاة إلى التنوير لبدأوا دعوتهم من حيث بدأ الإسلام، الذي يجعل العلم ديناً وفريضة، ويجعل حاكم العقل في عالم الشهادة ميزانًا لا يخطئ، ولو أنصفوا لفرقوا بين الإسلام والكنيسة، وبين الشرق والغرب".
تنبيهان:
1- مقال مناسب لهذا الموضوع، عنوانه: (يا بني علمان.. ما قولكم في اليابان؟)
2- مدعو التنوير لدينا، لن تجدهم جميعًا يواجهون الإسلام بصراحة، كما فعل قدواتهم في الغرب؛ لعلمهم بخطورة هذا وحساسيته، لذا لجأ معظمهم إلى محاولة هدمه من الداخل؛ بفكرتهم الماكرة: (تاريخية النص)، التي تُعطل نصوص الكتاب والسنة، وتُفرغها من محتواها الحقيقي، والوصول لهدفهم بهذا الالتفاف.