اللقاء الأخير والنصيحة الأخيرة
انتهت الوقفات الأربعة التي قلنا: إن السبيل إلى حديثنا عن المراجعات لا يمتهد إلا بذكرها، وذلك حتى يعلم القارئ الكريم المتفضل علينا بالمتابعة شيئًا عن كاتبه، والذي لم نشأ أن نشغل به ذهنه حين لم يكن ثمة داع لذكره خلال السنوات الماضية.
في صباح الثالث والعشرين من أغسطس من عام ألفين وثلاثة عشر وبعد، أكبر الجرائم وأبشعها في تاريخ مصر الحديث، وما حدث في فض اعتصامي رابعة والنهضة في الرابع عشر من أغسطس، وما سبقهما من مجازر بشعة، كنت قد توجهت إلى مركز شرطة القوصية لاستخراج الصحيفة الجنائية الخاصة بي وذلك للسفر إلى الخارج.
غير أن الأمور سارت على نحو غير طبيعي فقد أخبرني رئيس المباحث (.....) أن الإدارة في المحافظة تريدني شخصيًا، ولم يكن يعرف سبب طلب الإدارة لي أكثر من أنها إجراءات، وصلنا إلى مديرية أمن أسيوط وإلى مكتب مدير الإدارة اللواء (......)، وبعد الترحيب والاعتذار عما بدر من سوء معاملة من ضباط مباحث القوصية، وإهدائي مصحفًا قبلته شاكرًا له ذلك، بدا أن اللقاء سياسي الطابع أكثر منه أمني متعلق بالإجراءات، إذ استدعى اللواء (....) ضابطًا برتبة رائد من جهاز الأمن الوطني .
جاء ومعه أسئلة كثيرة متعلقة بما حدث ويحدث في مصر من أحداث، ما يهمنا فيها وأبرزها كان سؤال في ضوء معرفتهم وتقييمهم الأمني السابق طوال فترة الاعتقال، والمواقف التي أشرنا إليها في الوقفات السابقة، بما ينفي شبهة الانحياز إلى الإخوان من أجل مصلحة ما، وقد كان نص السؤال: "بما تنصحنا، وبما تنصح الإخوان؟".
كانت نصيحتي لهم ثلاث نقاط رئيسة:
* الرحيل والانسحاب المشرف، وذلك بطرح خارطة الطريق للاستفتاء عليها، فإذا وافق الشعب عليها نذهب جميعًا إلى خارطة الطريق، وإذا لم يوافق الشعب عليها وهذا ما أتوقعه فلتنسحبوا بصورة كريمة، ظاهرها أنكم نزلتم استجابة لإرادة الشعب وتنسحبون نزولا على إرادة الشعب، وما حدث من مجازر وأحداث يمكن التوصل فيه إلى حل.
* الثانية: احذروا من الوصول إلى موقف لا يبقى معكم فيه إلا الداخلية والجيش والنصارى.
* الثالثة: الحفاظ على العلاقة المتوازنة مع الجماعة الإسلامية وحزبها وعدم الضغط عليهم، وذلك لكونهم طرفًا تقبلون أنتم والإخوان الحديث معهم ومن خلالهم وبوساطتهم.
أما نصيحتي للإخوان فقد قلت ما نصه: وأنصح الإخوان بأن يثبتوا ولا يتنازلوا عن شيء!
إذ ماذا بقي للإخوان حتى يتنازلوا عنه غير مبادئهم، والتي يعد التنازل عنها خيانة لن يسامحهم عليها أحد.
أناس تضعهم على المائدة تحت فوهة البندقية وتقول لهم تنازلوا! عن أي شيء يتنازلون؟
هذا ما قلناه ونصحنا به وسطرناه في صحائف أعمالنا في خلوتنا من قول، حين لم يكن علينا من رقيب إلا ضميرنا وما نعلم أنا مجزيون به في أخرانا، لست معنيًا بما قرره الآخرون الذين قرروا أن يوغلوا في الطريق بما لا يقطع أرضًا ولا يبقي ظهرًا بقدر عنايتي بما ينبغي علي أن أنصح به بني قومي ومن استنصحني، حتى ولو كنت أعلم أنه ليس إلا ثعلبًا ماكرًا متنكرًا في هيئة حمل.
فليس القبول شرطًا لبذل النصيحة، ولا الاستجابة هي الحافز على الشفاعة، ولا الثناء هو ما يُبذل لأجله العطاء.
الناصح مثاب، والشافع مأجور، والمعطي صاحب نفس زكية، وبئست الحياة التي تزيغ فيها الألباب حتى يُسوى فيها بين الظالم القاتل الغشوم وصاحب الحق المقهور المظلوم، حتى وإن كان من الذين يسيئون إلى أنفسهم أكثر من إساءة أعدائهم إليهم.
انتهت الوقفات الأربعة التي قلنا: إن السبيل إلى حديثنا عن المراجعات لا يمتهد إلا بذكرها، وذلك حتى يعلم القارئ الكريم المتفضل علينا بالمتابعة شيئًا عن كاتبه، والذي لم نشأ أن نشغل به ذهنه حين لم يكن ثمة داع لذكره خلال السنوات الماضية.
كما إن بالوقفات؛ زمانها ومكانها خلال التجربة التي امتدت زهاء العقدين من الزمان داخل المعتقل السياسي بسجن العقرب جُلها في غرفة الإعدام، ما يعجز عن كتابته قلمي، حسبي فيه أن يعلمه ربي، وربما رقمتها العيون بعبراتها في خلواتها عند الذي يحب أن تذرف العبرات بين يديه وكفى بربي هاديًا ونصيرًا.
المقالتان القادمتان:
"رسالة من كاتب مسكين إلى كتائب "يترنح"
و"ابن الزبّال من قائمة المستبعدين إلى قائمة المستعبدين"
ثم نعود بعدهما إن شاء الله للحديث عن المراجعات.
- التصنيف: