أوراق في السيرة و الأخلاق - سيرة أم مسيرة؟
إن عشرات الكتب، ومئات البحوث والدراسات الجامعية التي تناولت أدق تفاصيل الحياة المحمدية لا يجدر أن تظل حبيسة الرفوف والمكتبات، بل ينبغي استثمار هذا الجهد العلمي في رتق الهوة التي ما لبثت تتسع -للأسف- بين الواقع المشهود وتعاليم الرسول!
يكشف حضور السيرة النبوية في الخطاب الإعلامي الديني عن قصور واضح في إدراك دلالاتها وفاعليتها، باعتبارها أمثل تجسيد عملي للحقيقة الإسلامية، وكان من مغبة هذا القصور أن أصبحت السيرة ملحمة تاريخية تُروى أحداثها ووقائعها وفق إطار يحدها زمانًا في القرن السادس الميلادي، ومكانًا في شبه الجزيرة العربية، فانحسر مدلولها في وعي المسلم المعاصر حتى بات يؤمن بأن واجبه تجاهها لا يعدو الإلمام بالأحداث، والانفعال الوجداني الذي لا يُخلف أثرا على السلوك.
هذا الخلل الذي ألم بالسيرة النبوية كمادة إعلامية أمعن في فصل الإسلام ومنهجه العملي عن حياة المسلم اليومية، لتصبح الحياة المحمدية مجرد يوتوبيا أخلاقية، يُنظر فيها إلى الرسول بعين الإعجاب والتقدير، دون أن يؤدي ذلك إلى طاعته والاسترشاد به، وبالتالي يعسر على المسلم اليوم التمييز بين قراءة للسيرة وفق مرجعية شرعية منسجمة مع روح الإسلام وعقيدته، وأخرى تنهل من خلفيات بدعية، سواء صوفية أو رافضية أو ضمن طرح فكري متحرر من ضوابط الشريعة.
وإذا كنا نثمن الجهود المخلصة التي تُبذل في تحديد الإطار المنهجي لكتابة السيرة، من خلال تحقيق وضبط وتمحيص المرويات، فإنها لا تمثل سوى خطوة أولى في مسار إعادة قراءتها كمدخل ضروري لفهم العقيدة الإسلامية.
يقول الشيخ محمد الغزالي: "قد تظن أنك درست حياة محمد صلى الله عليه وسلم، إذا تابعت تاريخه من مولده إلى وفاته، وهذا خطأ بالغ إنك لن تفقه السيرة حقًا إلا إذا درست القرآن الكريم والسنة المطهرة، وبقدر ما تنال من ذلك تكون صلتك بنبي الإسلام" (1).
والغزالي هنا يُحيل على قراءتين مختلفتين للسيرة: "قراءة مبتسرة لا تدرك الفروق الحقيقية بينها وبين سير العظماء والمصلحين، وهي القراءة التي احتفت ببشرية الرسول صلى الله عليه وسلم، وعنيت بإبراز جوانب العبقرية والامتياز الذاتي دون أن تلتفت لخصوصيتها ممثلة في خبر السماء، وبذلك أوهمت العقول أن تعاليمه تناسب عصره وحده، وأن ما تحفل به السيرة من قيم ومواقف وقواعد للسلوك العملي لا ينفك عن الإطار الزمني الذي جرت فيه..
أما القراءة الثانية: فترصد وقائع السيرة من حيث هي التشكل التاريخي والواقعي لعقيدة الإسلام قرآنا وسنة ورصيدًا تشريعيًا" (2)، "ولا ترى في الرسول صلى الله عليه وسلم مصلحًا عظيمًا وحد القبائل المتنافرة فقط، بل هو الحقيقة الكبرى للإنسانية المستخلفة في الأرض، تستمد الأجيال في أعصرها المختلفة من هديه نورًا يضيء لها آفاق الحياة، ويشرح لها بقدر ما يطيق كل جيل من تحمل أمانة الله في إدراك الحقائق الكونية" (3).
وبالتالي فترجيح الغزالي للقراءة الثانية ينم عن وعي وتبصر بالبعد الوظيفي للسيرة، وامتداد وقائعها في الحياة اليومية للمسلم،كما يضع الطرح الإعلامي الجاد أمام تحد كبير يتعلق بقراءة السيرة في ضوء المتغيرات التي تطال المجتمع الإسلامي المعاصر، والاستلهام الواعي للحلول والتطبيقات العملية.
وأول ما ينبغي الانكباب عليه هو توعية المسلم بالفروق الأساسية بين السيرة النبوية وغيرها من سير المصلحين والعظماء، بل وحتى سير الأنبياء السابقين، وفي هذا الصدد تجدر الإشارة للجهد النبيل الذي قدمه السيد (سليمان الندوي) في كتابه (الرسالة المحمدية)، وهو عبارة عن ثمان محاضرات تناولت خصائص السيرة من حيث الشمول والكمال، واستيفائها لكل أغراض ومتطلبات المجتمع الإنساني برمته.
ثانيًا: التناول الفكري الموضوعي والدقيق لعناصر السيرة، وكشف القراءات المغرضة التي تعمد إلى اجتزاء وانتقاء أحداث بعينها ومقاربتها من زاوية إيديولوجية أو فلسفية تشوه ملابسات الحدث، وتثير في النفوس دواعي الشك والاضطراب.
ثالثًا: إن ما تشهده بعض البلاد الإسلامية اليوم من مظاهر الاحتفاء بأحداث معينة من السيرة النبوية، كمولد الرسول صلى الله عليه وسلم، وحادثة الإسراء والمعراج، أساء للسيرة بشكل واضح حين أكسبها طابعًا ملحميًا، وبالغ في تعظيم النبي إلى حد تجريده من كل صفة بشرية، وهو ما يتعارض حتما مع مرامي التأسي والاقتداء التي تشكل جوهر الحياة المحمدية، لذا فمن واجب الإعلام الديني اليوم التصدي لكل صور الانحياز غير المبرر للغيبيات، والخوارق التي لا يقوم عليها دليل، وصوغ أحداث السيرة ضمن إطار يستحضر ما هو غيبي دون أن يهمل سنن عالم الشهادة.
وأخيرًا: فإن السيرة النبوية تزخر بالقيم الإنسانية والتربوية والاجتماعية التي لا يخفى دورها الآكد في إعداد الفرد والمجتمع المسلم، وفي ظل ما يعيشه العالم اليوم من ترد قيمي وأخلاقي، فإن تحصين عقيدة الجيل الناشىء وإكسابه المناعة اللازمة لمواجهة الأفكار والسلوكيات الهادمة للدين والأخلاق لا يمكن أن تنهض به الصيغ الوعظية، أو الحملات المقيدة زمانًا ومكانًا رغم أهميتها، بل يفرض عرض تطبيقات عملية وتوجيهات منسجمة مع طبيعة النفس البشرية، وهو ما يُلقي على عاتق الإعلام الديني مسؤولية جمة في تبني طرح عصري ومتجدد للسيرة النبوية!
إن عشرات الكتب، ومئات البحوث والدراسات الجامعية التي تناولت أدق تفاصيل الحياة المحمدية لا يجدر أن تظل حبيسة الرفوف والمكتبات، بل ينبغي استثمار هذا الجهد العلمي في رتق الهوة التي ما لبثت تتسع -للأسف- بين الواقع المشهود وتعاليم الرسول!
يقول السيد سليمان الندوي في كتابه (الرسالة المحمدية): "إن دعاة الديانات الأخرى يُسمعون الناس مواعظ حلوة من أقوال أنبيائهم ومصلحيهم، أما دعاة الإسلام فيقدمون للإنسانية أمثلة عملية من سنة نبيهم وهديه، ولذلك كتب الله الخلود لهذه السنة وهذا الهدي" (4).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد الغزالي: فقه السيرة. دار الشروق. الطبعة الثانية 2003، ص 364.
(2) عماد الدين خليل: المستشرقون والسيرة النبوية.دار ابن كثير.الطبعة الأولى 2005.ص 12.
(3) محمد الصادق إبراهيم عرجون: محمد رسول الله –منهج ورسالة..بحث وتحقيق - دار القلم - دمشق. ط2 1995 ص 18.
(4) السيد سليمان الندوي: الرسالة المحمدية.دار الأمان للنشر والتوزيع.الطبعة الأولى 1995. ص 159.
- التصنيف: