بلى واللّه إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا

منذ 2015-06-06

رجل أنفق عليه سيدنا الصديق أعوامًا، وقيل أنه قد تربى في حجره يتيمًا، ثم يكون المقابل أن يخوض في عرض ابنته وزوجة نبيه مع من خاضوا في الإفك المبين، ومع ذلك يتناسى الصديق كل هذا ليعود إلى عطائه والإغداق على مسطح من جديد، ويعفو..! أمر مذهل يقف المرء طويلاً أمامه مشدوهًا متأملاً!

- بلى واللّه إنا نحب أن تغفر لنا يا ربنا
كيف فعلها؟! كيف استطاع تحملها وحمل نفسه عليها، وإنها لكبيرة إلا على من وفقه الله لاحتمالها؟!
كيف قابل هذه الإساءة البشعة بإحسان فضلاً عن صفح وغفران؟!

رجل أنفق عليه سيدنا الصديق أعوامًا، وقيل أنه قد تربى في حجره يتيمًا، ثم يكون المقابل أن يخوض في عرض ابنته وزوجة نبيه مع من خاضوا في الإفك المبين، ومع ذلك يتناسى الصديق كل هذا ليعود إلى عطائه والإغداق على مسطح من جديد، ويعفو..!

أمر مذهل يقف المرء طويلاً أمامه مشدوهًا متأملاً! 
دائمًا كانت هذه الجملة التي رويت عن سيدنا الصديق أبي بكر رضي الله عنه محل تفضيل من الدعاة والمصلحين والمربين، حين يعظون الناس في شأن العفو والصفح والتغافر.

مرة أخرى أكرر: كيف فعلها؟!
كيف استطاع تحملها وحمل نفسه عليها؟!
كيف قابل هذه الإساءة البشعة بإحسان فضلاً عن صفح وغفران؟!
الإجابة عن تلك الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن تكمن في تلك العبارة التي صدرت بها المقال، بل في الحقيقة تكمن في أولى كلمات تلك العبارة، كلمة: بلى..

إنها كلمة تستعمل كجواب لاستفهام دخل على نفي، فتفيد إبطال هذا النفي وإثبات المعنى، وهي هنا إجابة السؤال الرباني الذي نزل به الوحي مخاطبًا كل من له حق يمكن أن يصفح عنه، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟! طبعا نحب، ومن لا يحب؟!

ربما لا أكون مبالغًا لو قلت بيقين جازم أنني لا أتصور مسلمًا صحيح الإسلام تام الأهلية يعي معنى هذا السؤال، ثم يملك أن يجيب بإجابة غير تلك التي أجاب بها الصديق رضي الله عنه..!

وهل يتصور أحد أن تكون إجابة مسلم عن هذا السؤال: نعم يا رب لا نحب أن تغفر لنا؟!
هل يتخيل مخلوق أن يجرؤ مؤمن بالله واليوم الآخر على رفض المغفرة؟! أعتقد أن ذلك مستحيل عقلاً وشرعًا.

إذًا فما السبب الذي يؤدي لهذا البون الشاسع بين رد فعل عموم المسلمين تجاه تلك الآية ومثيلاتها، وبين رد فعل الصديق؟! 

أعتقد أنه -وبغض النظر عن فحوى السؤال وقيمة المغفرة- فإن مناط ما فعله الصديق يكمن في أنه تفاعل، في كونه تعامل مع السؤال القرآني على أنه موجه له، على أنه مخاطب به، وهنا أجاب.. وكانت الإجابة المتوقعة والمنطقية: "بلى وَاللَّه إِنِّي لَأُحِبّ أَنْ يَغْفِر اللَّه لِي"! ثم أعاد إِلَى مِسْطَح نَفَقَته الَّتِي كَانَ يُنْفِق عَلَيْهِ وَقَالَ: "وَاللَّه لَا أَنْزِعهَا مِنْهُ أَبَدًا"، وهكذا دائمًا كانت ردود الأفعال عند أولئك الذين أدركوا تلك الحقيقة وعاشوا بتلك القيمة، حقيقة أن الله يتكلم وقيمة أنهم مخاطبون بكلامه.

من يدرك ذلك لا بد أن يتفاعل وأن يجيب ويستجيب، هذا اليوم الذي نحن فيه وليلته له علاقة وثيقة بهذا المعنى، معنی: "بلی يا رب نحب أن تغفر لنا"، معنى المغفرة المرتبط بالصفح والعفو وسلامة الصدر.

حديث من أعجب أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الذي رواه سيدنا معاذ بن جبل وأيضا روي عن كثير بن مرة الحضرمي وفي رواية ثالثة سيدنا أبو موسى الأشعري والرويات صححها الألباني في تخريج كتب السنة وفي صحيح الترغيب ولفظها: «يَطَّلِعُ اللهُ إلى خَلْقِه ليلَ النِّصْفِ من شعبانَ فيغفِرُ لجميعِ خلقِه إلا مُشْرِكٍ أو مُشاحِن». 

في رواية أبي ثعلبة الخشني بإسناد حسنه الألباني يقول الحبيب النبي: «إذا كان ليلةُ النصفِ من شعبانَ اطَّلَعَ اللهُ إلى خلْقِه فيغفرُ للمؤمنينَ، ويُملي للكافرينَ ويدعُ أهلَ الحِقْدِ بحقدِهم حتى يدَعوه»، موطن العجب في ذلك الحديث برواياته هو تلك المغفرة الشاملة التي تتبدى في هذه الكلمات الجامعة: «فيغفر لجميع خلقه»، و«فيغفر للمؤمنين».

تأمل الشمول والعموم الذي يجعل المرء في حالة من الذهول أمام تلك المغفرة الواسعة، ممن قال عن نفسه: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم من الآية:32]، يزيد تلك الدهشة أن هذه المغفرة على عمومها لم يُذكر عمل معين مرتبط بها، بل جعلها الله كهدية وعطية في هذه الليلة الكريمة من ذلك الشهر، الذي قال عنه النبي: «شهر يغفل عنه الناس» (حسنه الألباني في صحيح النسائي:5356).

فقط هناك شرطان ينبغي أن يتحققا فيمن تشملهم تلك المغفرة الواسعة: الإيمان بالله، ثم سلامة الصدر وترك الشحناء والبغضاء والحقد والغل والكراهية، إذاً فهي مغفرة شاملة أيضًا لكن الاستثناء لصنفين: (أهل الشرك والكفر)، وهذا مفروغ منه متحقق بقول الله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ} [النساء من الآية:48]، ثم أهل الحقد والشحناء والتدابر والتباغض.

قال ابن الأثير: "هو المعادي، والشحناء العداوة، والتشاحن تفاعل منه". 
وقال المناوي في فيض القدير: "لعل المراد البغضاء التي بين المؤمنين من قبل نفوسهم الأمارة بالسوء". وقال ملا القاري في مرقاة المفاتيح: "مشاحن أي مباغض ومعاد لأحد، لا لأجل الدين"، وقال الأوزاعي: "أراد بالمشاحن ها هنا صاحب البدعة". 

وبهذا يتبين أن الشحناء التي تحول بين العبد وبين مغفرة الذنوب في تلك اليلة ليست هي العداوة والبغضاء، التي تكون لأجل الله تعالى كبغض أهل المعاصي المصرين عليها، أو المجاهرين بها، فهذه لا تدخل في الحديث بل هي دين يتدين المرء به، وتدخل ضمن البراء بدرجاته، ولقد صح عن الحبيب صلى الله عليه وسلم قوله: «أوثق عرى الإيمان الحب في الله والبغض في الله».

أما الشحناء المقصودة فهي التي لأجل حظوظ النفس وشهواتها، والتي تحدث على أساس بغيض من الحقد والكراهية السوداء، ويا لها من مشاعر قاسية! 

وبخلاف كونها تحرم المرء من هذه الفرصة السنوية للمغفرة المجانية، فإن صدر الحاقد دائمًا ما يكون ضيقًا حرجًا مليئًا بالحزن، يمزقه اللهاث المسعور، ويسيل لعاب طمعه على ما فُضل به غيره وهو لا يرتاح أبدًا؛ لأنه يرى أن الكل لا يستحقون ما هم فيه، بينما هو وحده من يستحق، ولو أنه انشغل بأداء ما عليه واجتهد ثم ترك النتائج لمن يخفض ويرفع، ومن بيده الضر والنفع لارتاح وأراح.

أما لو ظل يمد عينيه إلى ما تمتع به غيره من عرض الدنيا الزائل، فإنه سيظل في ذلك العذاب طويلاً، إلا لو جرب يومًا أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وهو بالمناسبة شعور أجمل بكثير من الحقد والكراهية والشحناء.

وبدلاً من سيطرة تلك المشاعر على نفسه لدرجة تجعله يبغض ذلك المحقود عليه، فإن عليه أن ينشغل بما ينفعه ويصلح حاله لعله يرزق نقاء السريرة وسلامة الصدر التي لا يعادلها شيء، والتي هي من أعظم وأجل النعم، وهي معيار الأفضلية، كما صح أيضًا عن الحبيب صلى الله عليه وسلم حين سألوه: "أيُّ الناسِ أفضلُ؟ فأجاب: «كلُّ مخمومِ القلبِ، صدوقِ اللسانِ»، قالوا: صدوقُ اللسانِ نعرفُهُ، فما مخمومُ القلبِ؟ قال: «هو النقيُّ التقيُّ، لا إثمَ عليهِ، ولا بغيَ، ولا غلَّ، ولا حسدَ»".

أما أكثر ما يطهر القلب من الحسد وينقي النفس من شوائب الحقد والكراهية (الخير للغير)، هو إدراك الإنسان لمعنى القاعدة القرآنية الجامعة: {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16]، فإن أدرك العبد أن ربه وحده هو من يخفض ويرفع ويعطي ويمنع، وأن مطالبه مهما كانت بعيدة وصعبة المنال فلا يأتي بها إلا هو، فعلى ماذا يحسد ولماذا يحقد؟!

حينئذ -وحينئذ فقط- يكون الأمر مستويًا عنده، وتهون الدنيا في نظره، ولا يعدل بسلامة صدره شيئًا 
اجعل عبارة: "يَأْتِ بِهَا اللَّهُ" مبدأ حياتك، ثم أتبعها بالبذل والعمل والأخذ بالأسباب دون النظر لما في أيدي الناس، وصدقني ستنعم ويسلم صدرك من أسقام الحقد وأدران الغل، وأوجاع الحسد، ويستبدل كل ذلك بالطمأنينة والرضا وحب الخير للغير.

ولتأت عليك ليلة النصف من شعبان وأنت مؤمن سليم الصدر، وحينئذ أبشر بتلك المغفرة الشاملة التي لم تكن بفضل ربك من أولئك المحرومين منها، بشرط أن تراجع قلبك وتطهره من الشحناء والتدابر.

فلتعف اليوم ولتغفر وتصفح، ولتفعل كل ذلك امتثالا لقول ربك: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور من الآية:22]، ولتجبه عمليا: "بلى يا رب نحب أن تغفر لنا".

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 1
  • 0
  • 8,501

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً