الحياة الشخصية والأسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سورة الممتحنة
مدحت القصراوي
هذه السورة -الممتحنة- تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض، وبينهن وبينه! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته صلى الله عليه وسلم، وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك، ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه..
- التصنيفات: السيرة النبوية -
لماذا تناول القرآن العظيم الحياة الشخصية والأسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أحيانًا يتساءل البعض لماذا تتناول آيات كتاب الله تعالى أحداث خاصة ببيت رسول الله بينه وبين نسائه، وأن تتلى آيات في شأن تفاصيل حياته الشخصية، ولعل من أفضل ما كتب في هذا الشأن ما كتبه الأستاذ سيد قطب رحمه الله في هذا الشأن، نسوقه إليكم..
يقول رحمه الله في تفسيره في سورة الممتحنة في حادثة تحريم مارية القبطية، أو تحريمه للعسل -تحريم بيمين-: "عند ما جرى قدر الله أن يجعل الإسلام هو الرسالة الأخيرة، وأن يجعل منهجه هو المنهاج الباقي إلى آخر الخليقة، وأن تجري حياة المؤمنين به وفق الناموس الكوني العام، وأن يكون هذا الدين هو الذي يقود حياة البشرية ويهيمن على نشاطها في كل ميدان..
عندما جرى قدر الله بهذا كله جعل الله هذا المنهج في هذه الصورة شاملًا كاملًا متكاملًا، يلبي كل طاقات البشر واستعداداتهم، في الوقت الذي يرفع هذه الطاقات وهذه الاستعدادات إلى الأفق اللائق بخليفة الله في الأرض، وبالكائن الذي كرمه الله على كثير من عباده، ونفخ فيه من روحه.
وجعل طبيعة هذا الدين الانطلاق بالحياة إلى الأمام نموًا وتكاثرًا، ورفعة وتطهرًا في آن واحد، فلم يعطل طاقة بانية، ولم يكبت استعدادًا نافعًا، بل نشط الطاقات وأيقظ الاستعدادات وفي الوقت ذاته حافظ على توازن حركة الاندفاع إلى الأمام مع حركة الارتفاع إلى الأفق الكريم، الذي يهيئ الأرواح في الدنيا لمستوى نعيم الآخرة، ويعد المخلوق الفاني في الأرض للحياة الباقية في دار الخلود.
وعندما جرى قدر الله أن يجعل طبيعة هذه العقيدة هكذا، جرى كذلك باختيار رسولها صلى الله عليه وسلم إنسانا تتمثل فيه هذه العقيدة بكل خصائصها، وتتجسم فيه بكل حقيقتها، ويكون هو بذاته وبحياته الترجمة الصحيحة الكاملة لطبيعتها واتجاهها، إنسانا قد اكتملت طاقاته الإنسانية كلها، ضليع التكوين الجسدي، قوي البنية، سليم البناء صحيح الحواس، يقظ الحس، يتذوق المحسوسات تذوقًا كاملاً سليمًا، وهو في ذات الوقت ضخم العاطفة، حي الطبع، سليم الحساسية، يتذوق الجمال، متفتح للتلقي والاستجابة..
وهو في الوقت ذاته كبير العقل، واسع الفكر، فسيح الأفق، قوي الإرادة، يملك نفسه ولا تملكه، ثم هو بعد ذلك كله النبي.. الذي تشرق روحه بالنور الكلي، والذي تطيق روحه الإسراء والمعراج، والذي ينادى من السماء، والذي يرى نور ربه، والذي تتصل حقيقته بحقيقة كل شيء في الوجود من وراء الأشكال والظواهر، فيسلم عليه الحصى والحجر، ويحن له الجذع، ويرتجف به أحد –الجبل-! ثم تتوازن في شخصيته هذه الطاقات كلها، فإذا هو التوازن المقابل لتوازن العقيدة التي اختير لها..
ثم يجعل الله حياته الخاصة والعامة كتابًا مفتوحًا لأمته وللبشرية كلها، تقرأ فيه صور هذه العقيدة، وترى فيه تطبيقاتها الواقعية، ومن ثم لا يجعل فيها سرًا مخبوءًا، ولا سترًا مطويًا، بل يعرض جوانب كثيرة منها في القرآن، ويكشف منها ما يطوى عادة عن الناس في حياة الإنسان العادي، حتى مواضع الضعف البشري الذي لا حيلة فيه لبشر..
بل إن الإنسان ليكاد يلمح القصد في كشف هذه المواضع في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم للناس! إنه ليس له في نفسه شيء خاص، فهو لهذه الدعوة كله، فعلام يختبئ جانب من حياته صلى الله عليه وسلم، أو يخبأ؟ إن حياته هي المشهد المنظور القريب الممكن التطبيق من هذه العقيدة، وقد جاء صلى الله عليه وسلم ليعرضها للناس في شخصه، وفي حياته، كما يعرضها بلسانه وتوجيهه ولهذا خلق، ولهذا جاء.
ولقد حفظ عنه أصحابه صلى الله عليه وسلم ونقلوا للناس بعدهم -جزاهم الله خيرًا- أدق تفصيلات هذه الحياة فلم تبق صغيرة ولا كبيرة حتى في حياته اليومية العادية، لم تسجل ولم تنقل، وكان هذا طرفًا من قدر الله في تسجيل حياة هذا الرسول، أو تسجيل دقائق هذه العقيدة مطبقة في حياة الرسول، فكان هذا إلى جانب ما سجله القرآن الكريم من هذه الحياة السجل الباقي للبشرية إلى نهاية الحياة،
وهذه السورة تعرض في صدرها صفحة من الحياة البيتية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وصورة من الانفعالات والاستجابات الإنسانية بين بعض نسائه وبعض، وبينهن وبينه! وانعكاس هذه الانفعالات والاستجابات في حياته صلى الله عليه وسلم، وفي حياة الجماعة المسلمة كذلك، ثم في التوجيهات العامة للأمة على ضوء ما وقع في بيوت رسول الله وبين أزواجه".
جزا الله الأستاذ سيد خيرًا وتقبله في الشهداء، وأبقى ذكره وغفر له ورفع شأنه وألحقه بالصالحين..