وجوب تكامل القوة والسلطان مع الدين
مدحت القصراوي
من كان عاجزًا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه، والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير لم يكلف ما يعجز عنه؛ فإن قوام الدين بالكتاب الهادي والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى، فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى، ولطلب ماعنده مستعينًا بالله في ذلك.
- التصنيفات: السياسة الشرعية -
يقول شيخ الاسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
"..فجاءت الشريعة بصرف السلطان والمال في سبيل الله، فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله كان ذلك صلاح الدين والدنيا، وإن انفرد السلطان عن الدين أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس، وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته بالنية والعمل الصالح، كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»، ولماغلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف وصاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان في ولايتهم: رأى كثير من الناس أن الإمارة تنافي الإيمان وكمال الدين..
ثم منهم من غلّب الدين وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك، ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك، فأخذه معرضًا عن الدين؛ لاعتقاده أنه مناف لذلك وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل، لا في محل العلو والعز، وكذلك لما غلب على كثير من أهل الدين العجز عن تكميل الدين، والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها.
وهاتان السبيلان الفاسدتان -سبيل من انتسب إلى الذين ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ولم يقصد بذلك إقامة الدين- هما سبيل المغضوب عليهم والضالين، الأولى للضالين النصارى، والثانية للمغضوب عليهم اليهود.
وإنما الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وسبيل خلفائه وأصحابه ومن سلك سبيلهم، وهم: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:100]، فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه؛ فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله وإقامة ما يمكنه من دينه ومصالح المسلمين، وأقام فيها ما يمكنه من الواجبات واجتناب ما يمكنه من المحرمات: لم يؤاخذ بما يعجز عنه؛ فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار.
ومن كان عاجزًا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ففعل ما يقدر عليه من النصيحة بقلبه، والدعاء للأمة ومحبة الخير وفعل ما يقدر عليه من الخير لم يكلف ما يعجز عنه؛ فإن قوام الدين بالكتاب الهادي والحديد الناصر كما ذكره الله تعالى، فعلى كل أحد الاجتهاد في اتفاق القرآن والحديد لله تعالى، ولطلب ماعنده مستعينًا بالله في ذلك.
ثم الدنيا تخدم الدين كما قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: يا ابن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا، وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا، فانتظمها انتظامًا وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة وأنت من الدنيا على خطر، ودليل ذلك ما رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: « ».
وأصل ذلك في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ . مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56-58]، فنسأل الله العظيم أن يوفقنا وسائر إخواننا وجميع المسلمين لما يحبه لنا ويرضاه من القول والعمل، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين" (مجموع الفتاوى:28/394ـ 397).