بين الحب في الله وحظ النفس

منذ 2015-06-16

"إني أحبك في الله"! كم سمعتها وكم أسمعتها، فيا لها من كلمة جرت على اللسان، فهل لها محل في الجنان؟! يا للعجب! فلتتسع إذًا صدوركم لهذه المقدمة المملة لمن يعرفها سلفًا! فمرادي لا يتم وضوحه إلا بها!

بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

"إني أحبك في الله"!
كم سمعتها وكم أسمعتها، فيا لها من كلمة جرت على اللسان، فهل لها محل في الجنان؟! يا للعجب!
فلتتسع إذًا صدوركم لهذه المقدمة المملة لمن يعرفها سلفًا! فمرادي لا يتم وضوحه إلا بها!

نحفظ من الناحية النظرية الفرق بين المحبة الطبعية والحب في الله، وأن الحب في الله هو أن يحب المرء لطاعته لا لشخصه، وأنها تزيد بالطاعات وتنقص بالمعاصي، وأن النفس لا حظ لها في ذلك، وأنه يجتمع بغض طبعي مع حب شرعي! ذلك لأن الحب في الله ليست مشاعر متدفقة نتلذذ بها وحسب كالمحبة الطبعية الجبلية، بل هي أفعال من ولاء وحقوق ونصيحة.. وغير ذلك، فلذتها ليست طبعية بل هي لذة تابعة للذة الإيمان وانشراح الصدر بالطاعات وانقباضه بالعصيان.

وكم من محب بالطبع لا ينفعل لحبه إلا بما يرضيه هو، فتكون محبته أقرب للأنانية، محبة أقوال لا أفعال، يتلذذ بها دون أن يؤدي حقوقها في عرف المحبين! أما دعاوى المحبة الشرعية فلم يُسَلَّم لها إلا بفعل من مبتداها لمنتهاها..
قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [آل عمران:31].

فحب الله والحب فيه ليست كلمة! بل هو ديننا كله، وبمقدار ما تتقرب إلى الله به وتبذل في سبيل رفعة دينك تقاس محبتك! وعلى قدر ولائك للمؤمنين وبراءتك من الكفر والكافرين تقاس محبتك! يقول ابن القيم رحمه الله: "الجنة ترضى منك بأداء الفرائض، والنار تندفع عنك بترك المعاصي، والمحبة لا تقنع منك إلا ببذل لروح إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم!".

والمحبة هي الإيمان والفرقان بين المؤمن والمنافق قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9]، وقال تعالى: {وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَىٰ وَلَا يُنفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة من الآية:54].

ونعلم أنه يجتمع في المؤمن محبة وبغض شرعيين، فبمقدار ما عند المؤمن من طاعات يُحب، وبمقدار ما عنده من معاصٍ ومنكرات يبغض في الله، ولا شأن لما يرضي نفسك في هذا بل هو محض ما عندك من العلم بالشرع وبالمنكر، دون تتبع عورات ولا غلظة وقسوة، ومع ذلك تؤدي ما عليك تجاه كل مسلم.

بل الكافرون في كفرهم دركات فيتفاوتون في استحقاق البغض والعداوة الشرعية، بمقدار ما عندهم من بغض وعداوة للدين لا لنفسك! وبمقدار ما عند من يحارب معالم الإسلام ويهدمها بمعول هدم ظاهر، ويوالي الكفار في مقابل عداوته الظاهرة للمسلمين، يجب التبري منهم لا التبرير لهم ولا التماس الأعذار لهم.. وهذا الباب فيه تفاصيل وليس الغرض التفصيل حتى لا نجافي المقصود -"ما علينا"-!

عند الحديث على المستوى العام من المحبة في الله نجد سلوكًا بحاجة إلى المراجعة..
الإسراف في توزيع "محبتك" في الله زاعمًا أن تعمل بقول النبي: «..فأعلمه..»! (السلسلة الصحيحة:763/7) -خير خير!-، ولكن ليته نابع من قلب يحب في الله حقًا وصدقًا! ويعمل بما أمر الله حقًا وصدقًا! فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تدخلوا الجنَّةَ حتَّى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتَّى تحابُّوا» (صحيح الترمذي:2510)

ولكن! إن المحبة كما سائر الطاعات صار لها من حظ النفس نصيب فصارت هكذا: طالما توافقني في اختياراتي (العلمية) فإني أحبك في الله! فإن خالفتني فقد وقعت في منكر عظيم، وجرم جسيم! فدعني أسمعك ما يقرع قلبك من الزواجر لعلك أن تستفيق من سكرة مخالفتي! وعلى رأسها فاسمع مني: "إني أبغضك في الله"!

يا هذا! بل مني فاسمع: "أنت ما أحببت في الله ولا أبغضت في الله"! بل أحببت لحظ نفسك ولموافقة طبعه طبعك! وأبغضت صاحبك في حظ نفسك ولمخالفة ما تهواه! بيد أننا بسكرة الهوى نرتوي وفي حقول الجهل نرتع، فلا يكاد يتنزه من ذاك الوحل إلا من استفاق بمعرفة نفسه حق المعرفة وما يلقاها إلا الصابرون -فاللهم اغسلنا بالثلج والماء والبرد!-، فإن الصحابة اختلفوا ولكن (لم يتباغضوا في الله) للاختلاف في فهم نص أو ترجيح، ولم يتهم بعضهم بعضًا باتباع الهوى وقلة الورع لاختيار خالفه فيه!

يقول ابن تيمية: "وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الصِّدِّيقَ الْأَكْبَرَ فِي قَضِيَّةِ الْإِفْكِ، الَّتِي أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا الْقُرْآنَ حَلَفَ لَا يَصِلُ مِسْطَحَ بْنَ أُثَاثَةَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ الْخَائِضِينَ فِي الْإِفْكِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:22]، فَلَمَّا نَزَلَتْ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاَللَّهِ إنِّي لَأُحِبُّ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لِي، فَأَعَادَ إلَى مِسْطَحٍ النَّفَقَةَ الَّتِي كَانَ يُنْفِقُ" (ا.هـ. كلامه رحمه الله).

فهذا مسطح بن أثاثة ارتكب جرمًا نزل فيه قرآنا! وأصاب حدًا!
"وقد ولق ولقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها" (المصباح المنير).
"وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه مع خلقه مع ظلمهم لأنفسهم" (المصباح المنير).

فأين الثرى من الثريا! اليوم إن أخطأ أحد في حقنا أو خالفنا صار مستحقًا للبغض في الله، والبراءة منه والعداوة له، واستحللنا غيبته بتأويل فاسد تصريحًا وتعريضًا، بل دعونا عليه بالويل والثبور وعظائم الأمور في خلاف يسير كان يسعنا أن نتغافل عنه وتمضي بنا الحياة!

واختلف العلماء من بعدهم فلم يُسمع الشافعيُ أحمدَ ولا أسمعه أحمدُ، ولا غيرهم من الأئمة والعلماء الربانيين فيما بينهم: "إني أبغضك في الله"! وخالف ابن القيم شيخه وهو من هو! فلم نسمع عن أيهما نقلًا يقول: "إني أبغضك في الله!"، بل في مدارج السالكين تجد عجبًا في التماس الأعذار من ابن القيم للهروي في كلمات يطيش معها الحلم!

وفي رد ابن تيمية على المخالفين من أهل البدع تجد عجبًا من حلم وفقه وورع، بل في رسالته لمن ظلمه ووشى به وأساء إليه تجد عجبًا ينضرب له الكف بالكف! يقول: "فَلَا أُحِبُّ أَنْ يُنْتَصَرَ مِنْ أَحَدٍ بِسَبَبِ كَذِبِهِ عَلَيَّ أَوْ ظُلْمِهِ وَعُدْوَانِهِ، فَإِنِّي قَدْ أَحْلَلْت كُلَّ مُسْلِمٍ، وَأَنَا أُحِبُّ الْخَيْرَ لِكُلِّ الْمُسْلِمِينَ وَأُرِيدُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ الْخَيْرِ مَا أُحِبُّهُ لِنَفْسِي، وَاَلَّذِينَ كَذَبُوا وَظَلَمُوا فَهُمْ فِي حِلٍّ مِنْ جِهَتِي، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ اللَّهِ فَإِنْ تَابُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَحُكْمُ اللَّهِ نَافِذٌ فِيهِمْ..

فَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ مَشْكُورًا عَلَى سُوءِ عَمَلِهِ لَكُنْت أَشْكُرُ كُلَّ مَنْ كَانَ سَبَبًا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ لَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَشْكُورُ عَلَى حُسْنِ نِعَمِهِ وَآلَائِهِ وَأَيَادِيهِ الَّتِي لَا يُقْضَى لِلْمُؤْمِنِ قَضَاءٌ إلَّا كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَأَهْلُ الْقَصْدِ الصَّالِحِ يُشْكَرُونَ عَلَى قَصْدِهِمْ وَأَهْلُ الْعَمَلِ الصَّالِحِ يُشْكَرُونَ عَلَى عَمَلِهِمْ، وَأَهْلُ السَّيِّئَاتِ نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ" (ا.هـ. كلامه رحمه الله).

ومعلوم فعله مع أهل المبتدع الذي مات حين ذهب إلى أهله وقال لهم: "أنا لكم مثل ما كان لكم"!
وهذا حال من رام الإصلاح بلا حظ نفس! اللهم لا نزكي عليك أحدًا وإنما نحسب ونحسن الظن في عبادك الموحدين، فلما لهم من خير ظاهر استحقوا إحسان الظن فكان شعارهم: "إني أحبك في الله"، و"ألا يتفق أن نختلف وتبقى المودة في الله؟" وكلٌ يعمل بما يترجح له! والله محاسبه..

يقول ابن تيمية: "وَلَا يَخْلُو الرَّجُلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا أَوْ مُخْطِئًا أَوْ مُذْنِبًا.. فَالْأَوَّلُ: مَأْجُورٌ مَشْكُورٌ، وَالثَّانِي مَعَ أَجْرِهِ عَلَى الِاجْتِهَادِ: فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ مَغْفُورٌ لَهُ، وَالثَّالِثُ: فَاَللَّهُ يَغْفِرُ لَنَا وَلَهُ وَلِسَائِرِ الْمُؤْمِنِينَ" (ا.هــ. كلامه رحمه الله).

فقد يتمكن البعض من عرض رأيه أو سبب ترجيحه وقد لا يتمكن! إنها ليست مناظرة ينتصر فيها أحدهم فيحمل غيره على رأيه! قد يكون أخي المسلم مقلدًا لعالم ثقة أفتاه وأنت مقلد لغيره! طالما الكل يسير في طريق الخير فالحب في الله شعار بيقين حتى يظهر خلاف ذلك.. بيقين!

أما التصنيف وإلقاء التهم جزافًا وبالظن وسوء الفهم! فهذا متعمد الذنب وذاك لا غفر الله له، وأولئك أهل بدع وضلال لا بد من فضحهم! أما أن تكون: "إني أبغضك في الله" علكة على صبر مذاقها يتلذذ بها قائلها لفساد ريقه وذوقه، محسنًا الظن في نفسه ونفسك أولى بسوء الظن! ومسيئًا للظن بإخوانه وهم أولى بحسن الظن! فيا للعجب! يا لها من كلمة جرت على لسان العرب! ترضي حظ النفس وقت الرضا وتجرح بضدها صاحبك في وقت السخط!

تقول أم هانئ: "ولن ينتهي العجب من قوم يتمسكون بالمراء بلا كلل حتى تتبع مذهبهم، أو يستفزونك ليخرجوا أسوأ ما فيك.. لماذا حظ النفس؟! لماذا لا نقبل إلا بسحق المخالف؟! لماذا لا نكتفي بالبلاغ؟!" (ا.هـ. كلامها جزاها الله خيرًا)، أقول لكِ لماذا؟! لأنه أحبه في حظ النفس فأراد أن يحمل صاحبه على مذهبه حتى لا (يضطر) إلى أن يبغضه في الله.. عفوا! إنه بغض في حظ النفس!

فتأملي يا نفس فيك!
هل تحبين صاحبك الذي يوافقك في شيخك ومذهبك وما ترجح وتحب من الدين، أم أنك اجتهدتي في التجرد من ذلك فبلغت في شأنك ألا تبغضي مخالفك وتزعمي أن ذلك لله؟!

هل كل مسلم له عندك نصيب من الحب في الله بإسلامه، ونصح لوجه الله برفق ورحمة ومحبة لإسلامه؟
هل تلتمسين العذر وتحسنين الظن؟ هل من شيمك الستر والعفو والصفح؟
هل سألت الله لغيرك من الخير الذي رجوت لنفسك؟

هل تحبين لأخيك المسلم مثل ما تحبين لنفسك من الخير أم غير ذلك؟ هل تعطين لله وتمنعين لله؟
هل جعلت فقط نصب عينيك ما يحب الله؟ هل اجتهدت في تعلم ما يحب الله، أم اجتهدت في الاستدلال على نسبة الهوى للشرع؟!

هل وضعت نفسك مكان محدثك ومخالفك، وأشفقت على العاصي لعلمك أن طاعتك ليست بفضلك بل محض فضل الله عليك؟ ولو شاء لخلا بيني وبين نفسي! هل تتقلبين في فراشك متنعمة بسلامة الصدر للمسلمين متصدقة بما لك، هاتفة بها: "لعل الله يغفر لي ما عليّ"!

هل أنت مقبلة على شأنك فمدركة أنك صاحبة معاصي السر والخلوات، وخبايا السوء، فأنت أحق بالبغض في الله من سائر المسلمين لولا ستر الله عليك لولا ستر الله عليك! أم أنك تظنين بنفسك خيرًا وأنك الأحق بالحب في الله وغيرك أهل سوء أحرى بالبغض في الله؟ عفوا البغض في حظ نفسك!

إن "هل" أداة استفهام بلا نهاية، ففتش بلا وسوسة في ذلك الجزء المظلم ذي الباب المغلق، فإن من ورائه آهات وأنات، وإن منا من حرّم على نفسه أن يلجه لينظفه حتى لا يهتك ستر نفسه أمام نفسه، والله يعلم السر وأخفى! فيا الله يا ذا الجلال والإكرام ارزقنا سلامة القلب كما تحب وترضى.. لو ظننت أنها يسيرة فاعلم أنك لم تلج بعد الطريق! وإنها ليسيرة على من يسرها الله عليه، وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين!

* عجبا لقوم عند الحديث على من يخالفه من المسلمين يتلذذون بذكر مساوئهم ورميهم بما فيهم وما ليس فيهم، ويظهرون البراءة منهم، وعند ذكر الغرب أو من يواليهم من أحلاسهم يتمعنون في التماس العذر لهم، ويدافعون عنهم ويظهرون الولاء لهم والمودة!

ألم يقرأوا قوله تعالى: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ} [النساء من الآية:107]، وقوله تعالى: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود من الآية:113]، لكن لعل ذلك أن للنفس مع أهل السطوة كبوة! والأعجب أن يلصق ذلك بالشرع ويحسبون أنهم على شيء! فلمن اجتمع فيه ذلك أقول بصدق بلا حرج: إني أبغضكم في الله! -وتلك نفثة خارج الموضوع "ما علينا"-!

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام
  • 2
  • 0
  • 25,147

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً