مذهب أبي حنيفة في الخلافة وما يتعلق بها من مسائل (1)

منذ 2015-06-17

كان لأبي حنيفة في مضمار السياسة رأي مفصل شمل -تقريبًا- كل منحى من مناحي الدولة، وكان يختلف عن آراء الأئمة الآخرين في بعض الأمور السياسية، وسنعرف على الصفحات التالية آراء الإمام في كل شق من شقوق المسألة.

كان لأبي حنيفة في مضمار السياسة رأي مفصل شمل -تقريبًا- كل منحى من مناحي الدولة، وكان يختلف عن آراء الأئمة الآخرين في بعض الأمور السياسية، وسنعرف على الصفحات التالية آراء الإمام في كل شق من شقوق المسألة.

1- مسألة الحاكمية:
إن أول مسألة جديرة بالبحث في أية نظرية عن (الدولة) هي مسألة الحاكمية، ومن الذي تقر له هذه النظرية بالحاكمية. ولقد كانت نظرية أبي حنيفة في الحاكمية هذه هي نفس نظرية الإسلام الأساسية المعروفة، يعني أن الله هو الحاكم الأصلي والرسول مطاع بصفته نائبه وممثله، وأن شريعة الله ورسوله هي القانون الأعلى الذي لا يمكن اختيار أي سبيل إزاءه سوى الطاعة والاتباع، ولأن أبا حنيفة كان فقيهًا -أو رجل قانون- نجده قد أوضح هذا بلغة القانون والفقه، لا بلغة علم السياسة وفنها.. 

فيقول: "إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات، فإذا لم أجد في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذت بقول أصحابه -يعني إجماعهم-، فإن اختلفوا أخذت بقول من شئت وأدع قول من شئت، ثم لا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم، فإذا انتهى الأمر إلى أناس اجتهدوا فلي أن أجتهد كما اجتهدوا" [1].

يقول ابن حزم:
"جميع أصحاب أبي حنيفة مجمعون على أن مذهب أبي حنيفة أن ضعيف الحديث أولى عنده من القياس والرأي" [2]، ويظهر من هذا أن أبا حنيفة كان يتخذ القرآن والسنة سلطة نهائية، فكان مذهبه أن الحاكمية القانونية لله ورسوله، ودائرة التشريع بالقياس والرأي -عنده- كانت قاصرة على ما ليس فيه حكم من الله ورسوله، والسبب في ترجيحه لأقوال صحابة الرسول الفردية على غيرها من أقوال الآخرين: هو أن الصحابي قد يكون على علم بأن هناك حكمًا للرسول صلى الله عليه وسلم في المسألة فبنى عليه قوله. 

ومن أجل هذا التزم أبو حنيفة -في المسائل التي اختلفت فيها آراء الصحابة- باختيار رأي أحدهم ولا يقضي برأي يخالفهم كلهم خشية أن يكون فيه خلاف لسنة مجهولة. ولقد كان -بالطبع- يجتهد في إقامة الرأي على أقرب الأقوال إلى السنة. ومع أن الإمام قد اتهم -في حياته- بترجيح القياس على النص إلا أنه نفى هذا فقال: "كذب والله وافترى علينا من يقول عنا أننا نقدم القياس على النص، وهل يحتاج بعد النص إلى قياس".

وكتب إليه الخليفة المنصور -ذات مرة- يقول سمعنا أنك تقدم القياس على الحديث فرد عليه:
"ليس الأمر كما بلغك يا أمير المؤمنين، إنما أعمل أولًا بكتاب الله ثم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بأقضية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، ثم بأقضية بقية الصحابة ثم أقيس بعد ذلك إذا اختلفوا".

2- الطريقة الصحيحة لانعقاد الخلافة:
يرى الإمام أبو حنيفة -في مسألة الخلافة- أن الاستيلاء على السلطة بالقوة ثم أخذ البيعة بعد ذلك غصبًا ليس هو الصورة الشرعية الصحيحة لانعقاد الخلافة، والخلافة الصحيحة هي ما تقوم باجتماع وشورى أهل الرأي، وقد قال الإمام رأيه هذا في موقف دقيق لم يكن من يعلن فيه مثل هذا الرأي يضمن بقاء رأسه على كتفيه.

يروي ربيع بن يونس حاجب الخليفة المنصور، أن المنصور دعا الإمام مالك وابن أبي ذئب والإمام أبا حنيفة، وقال لهم: "كيف ترون هذا الأمر الذي خولني الله تعالى فيه من أمر هذه الأمة هل أنا لذلك أهل؟"

قال الإمام مالك: "لو لم تكن أهلًا لما ولاك الله تعالى".
وقال ابن أبي ذئب: "ملك الدنيا يؤتيه الله تعالى من يشاء، وملك الآخرة يؤتيه الله تعالى لمن طلبه ووفقه الله تعالى، والتوفيق منك قريب إن أطعت الله تعالى، وإن عصيته فبعيد، وأن الخلافة تكون بإجماع أهل التقوى لمن وليها، وأنت وأعوانك خارجون عن التوفيق عادلون عن الحق، فإن سألت الله تعالى السلامة وتقربت إليه بالأعمال الزاكية كان ذلك وإلا فأنت المطلوب".

قال الإمام أبو حنيفة: "كنت أنا ومالك نجمع ثيابنا مخافة أن يقطر علينا من دمه". 
ثم قال المنصور لأبي حنيفة: "ما تقول أنت؟" فقال: "المسترشد لدينه يكون بعيد الغضب، إن أنت نصحت نفسك علمت أنك لم ترد الله باجتماعنا، فإنما أردت أن تعلم العامة أنا نقول فيك ما تهواه مخافة منك، ولقد وليت الخلافة وما اجتمع عليك اثنان من أهل الفتوى، والخلافة تكون باجتماع المؤمنين ومشورتهم، فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه أمسك عن الحكم ستة أشهر حتى جاءته بيعة أهل اليمن".

فأمرهم المنصور فانصرفوا ثم أمر لهم بثلاث بدر -أكياس من المال-، واتبعهم بها وقال لحاجبه: "إن أخذها مالك كلها فادفعها له، وأن أخذها ابن أبي ذئب أو أبو حنيفة فجئني برأسيهما" فقال ابن أبي ذئب: "ما أرضى بهذا المال له كيف أرضاه لنفسي"، وقال أبو حنيفة: "والله لو ضرب عنقي على أن أمس منه درهمًا ما فعلت"، فقبله كله مالك فأعطاه له، فلما علم المنصور بذلك قال: "بهذه الصيانة أحقنوا دماءهم" [3].

3- شروط استحقاق الخلافة:
لم تكن شروط استحقاق الخلافة حتى زمن أبي حنيفة مفصلة مثلما فصلها المحققون فيما بعد، أمثال الماوردي وابن خلدون لأن أكثرها كان مسلمًا به في عصره، مثل شرط أن يكون المرء مسلمًا رجلًا حرًا عالمًا سليم الحواس والبدن وغيره، غير أن هناك أمرين كانا موضع بحث وجدل أيام أبي حنيفة، وكان إيضاحهما أمرًا مطلوبًا، الأول: هل يمكن أن يكون الظالم والفاسق خليفة شرعيًا أم لا؟ والثاني: هل لا بد من أن يكون الخليفة قرشيًا أم لا؟

إمامة الفاسق والظالم:
إن لرأي الإمام فيما يتعلق بالأمر الأول جانبين ينبغي فهمهما فهمًا سليمًا، فالعصر الذي أوضح فيه الإمام أبو حنيفة رأيه في هذه المسألة كان عصر صراع شديد بين نظريتين متطرفتين في العالم الإسلامي عامة والعراق خاصة، أحداهما تقول -في شدة وصرامة-: إن إمامة الظالم والفاسق لا تجوز أبدًا ولا يصح للمسلمين أي عمل جماعي في ظلها، والثانية تقول: إن الظالم والفاسق إذا استولى على زمام البلاد بأي طريقة فإمامته وخلافته -بعد تسلطه واستيلائه- صحيحة تمامًا، وقد قدم لنا الإمام أبو حنيفة نظرية وسطًا متوازنة بين هاتين نفصلها كالآتي: يقول أبو حنيفة في الفقه الأكبر: "والصلاة خلف كل بر وفاجر من المؤمنين جائزة" [4].

ويقول الإمام الطحاوي في شرح هذا المذهب في العقيدة الطحاوية:
"والحج والجهاد ماضيان مع أولي الأمر من المسلمين برهم وفاجرهم إلى قيام الساعة لا يبطلها شيء ولا ينقضها" [5]، هذا الجانب من هذه المسألة، والجانب الثاني أن العدالة -عند أبي حنيفة- شرط لا بد منه للخلافة، فلا يكون الظالم أو الفاسق خليفة شرعيًا أو قاضيًا أو حاكمًا أو مفتيًا وإن صار كذلك فإمامته باطلة ولا تجب على الناس طاعته أما هل ستكون الأعمال التي يقوم بها المسلمون في حياتهم الجماعية على نحو شرعي تحت حكمه -بعد استيلائه وتوليه- أعمالًا شرعية جائزة أم لا وهل تنفيذ الأحكام التي يصدرها بالعدل قضاة عينهم هو بنفسه أم لا فهذا أمر آخر.. 

وقد شرح الإمام الحنفي أبو بكر الجصاص هذه المسألة في (أحكام القرآن) شرحًا وافيًا فقال:
"فلا يجوز أن يكون الظالم نبيًا ولا خليفة لنبي، ولا قاضيًا ولا من يلزم الناس قبول قوله في أمور الدين، من مفت أو شاهد أو مخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم خبرًا فقد أفادت الآية: {لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة من الآية:124]، أن شرط جميع من كان في محل الائتمام به في أمر الدين العدالة والصلاح، فثبت بدلالة هذه الأية بطلان إمامة الفاسق وأنه لا يكون خليفة وأن من نصب نفسه في هذا المنصب وهو فاسق لم يلزم الناس اتباعه ولا طاعته، وكذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، ودل أيضًا على أن الفاسق لا يكون حاكمًا، وأن أحكامه لا تنفذ إذا ولي الحكم، وكذلك لا تقبل شهادته ولا خبره إذا أخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا فتياه إذا كان مفتيًا" [6].

ثم يصرح الجصاص بعد ذلك بأن هذا هو مذهب الإمام أبي حنيفة، ثم يذكر بالتفصيل أن اتهام أبي حنيفة بتجويز إمامة الفاسق ظلم اقترف في حقه: "ومن الناس من يظن أن مذهب أبي حنيفة تجويز إمامة الفاسق وخلافته.. فإنما جاء غلط من غلط في ذلك إن لم يكن تعمد الكذب من جهة قوله وقول سائر من يعرف قوله من العراقيين أن القاضي إذا كان عادلًا في نفسه فولي القضاء من قبل إمام جائر أن أحكامه نافذة وقضاياه صحيحة وأن الصلاة خلفهم جائزة مع كونهم فساق وهذا مذهب صحيح ولا دلالة فيه على أن من مذهبه تجويز إمامة الفاسق" [7]، وقد نقل الإمام الذهبي والموفق بن أحمد المكي قول أبي حنيفة إن: "أيما إمام غل، -يعني استخدام خزانة الدولة بطرق غير مشروعة- أو جار في حكمه بطلت إمامته ولم يجز حكمه" [8].

يتضح من تفحص هذه الأقوال أن أبا حنيفة يفرق -على عكس ما تقول الخوارج والمعتزلة- بين الإمام (بالحق) والإمام (بالفعل) إذ كان مذهب الخوارج والمعتزلة يعطل نظام الدولة والمجتمع المسلم كلية إذا لم يكن هناك إمام عادل صالح "يعني إمام بالحق"، فلا حج ولا جمعة ولا جماعة ولا محاكم ولا يتم أي عمل من أعمال المسلمين -دينيًا كان أم سياسيًا أم اجتماعيًا- في غيابه على نحو شرعي قط فقوّم أبو حنيفة هذا الاعوجاج حيث قال إذا لم يتيسر وجود إمام بالحق فإن نظام حياة المسلمين الجماعية يمضي على نحو شرعي تحت من هو إمام بالفعل حتى ولو كانت إمامته غير شرعية.

لقد أنقذ أبو حنيفة المسلمين من نظرية المرجئة المتطرفة في الإرجاء ونتائجها، والتي كانت ندًا مقابلًا في وجه نظريات الخوارج والمعتزلة، وكان بعض أهل السنة ذاتهم يعتقدونها ويقولون بها، لقد كان هؤلاء القوم -المرجئة- يخلطون بين الإمام بالحق والإمام بالفعل، ويقولون بجواز إمامة الفاسق -إذا كان إمامًا بالفعل- كما لو كان إمامًا بالحق، فكانت النتيجة الحتمية لهذا أن يقعد المسلمون مطمئنين راضين بحكومة الحكام المستبدين الظالمين، ذوي السلوك المشين والخلق الذميم ويتركون -لا محاولة- تغييرهم بل حتى مجرد التفكير في ذلك، وفي سبيل تصحيح هذه الفكرة الخاطئة أعلن أبو حنيفة بكل شدة وقوة وإصرار أن إمامة من هم كذلك باطلة بطلانًا قطعيًا.

بــ"شرط القرشية" للخلافة:
أما رأي أبي حنيفة في المسألة الثانية فكان ضرورة أن يكون الخليفة من قريش [9]، وليس هذا رأيه وحده بل هو رأي يتفق عليه أهل السنة [10]، وليست علة ذلك أن الخلافة الإسلامية -من وجهة نظر الشريعة- حق دستوري لقبيلة واحدة من قبيلة قريش، وإنما علته ظروف ذلك العصر حينما كان من اللازم للمسلمين أن يكون الخليفة قرشيًا من أجل بناء المجتمع وإقامته واستتبابه. 

ولقد وضح ابن خلدون هذا الأمر إيضاحًا تامًا إذ رأى أن العرب كانوا عضد الدولة الإسلامية وحماتها آنذاك وأن اتفاق العرب -إذا كان ميسورًا- فهو بدرجة أكثر على خلافة قريش، وكانت احتمالات النزاع والاختلاف والتفرق كبيرة في حالة استخلاف رجل من قبيلة أخرى فلم يكن من المعقول تعريض نظام الخلافة لمثل هذا الخطر [11]، لهذا نصح الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يكون "الأئمة من قريش" [12]، ولوكانت الخلافة لا تجوز لغير القرشي شرعًا لما قال سيدنا عمر عند وفاته لو كان سالم حيًا لوليته -وسالم هو عتيق حذيفة- [13]. 

والرسول صلى الله عليه وسلم نفسه حين نصح بأن تكون الخلافة في قريش أوضح أن هذا المنصب يبقى فيها مابقيت في أهلها صفات مخصوصة [14]، فينتج من هذا تلقائيًا أن تكون الخلافة لغير قريش في حالة انعدام هذه الصفات، وهذا هو الفرق الأصلي بين مذهب أبي حنيفة وجميع أهل السنة، وبين مذهب الخوارج والمعتزلة الذين أجازوا الخلافة لغير القرشي بإطلاق، بل لقد وصلوا إلى أبعد من هذا فجعلوا غير القرشي أحق بها، إذ كانت الديمقراطية شاغلهم الأول ولو كانت نتيجتها التفرق والاختلاف، أما أهل السنة والجماعة فكان همهم استحكام الدولة إلى جانب الديمقراطية أيضًا.

4- بيت المال:
كان تصرف الخلفاء غير المشروع في الخزانة الرسمية للدولة وتعديهم على أملاك الناس من بين الفعال التي كان الخلفاء يفعلونها في عصر أبي حنيفة، وكان يعترض على ذلك اعتراضًا شديدًا لأنه كان يرى الظلم في الحكم، والخيانة في بيت المال من الأمور التي تبطل إمامة الإمام -مثلما ذكرنا فيما سلف نقلًا عن الذهبي- كذلك لم يكن أبو حنيفة يبيح تملك الخليفة للهدايا التي ترسل إليه من الدول الأخرى، بل كانت -عنده- من نصيب خزانة الشعب لا من نصيب الخليفة وأسرته، فلولا أن الخليفة خليفة المسلمين وأن صيته ذاع بسبب قوتهم الاجتماعية لما أهديت إليه هذه الهدايا، لأن الناس لا يهدون من قعد في بيته [15]. 

كذلك كان أبو حنيفة يعترض على ما يعطيه الخليفة من العطايا والهبات من بيت المال، وما ينفق فيه من وجوه غير مشروعة، وكان ذلك سببًا قويًا من الأسباب التي جعلته يرفض قبول عطايا الخلفاء وهداياهم إليه، وحين كان الخلاف قائمًا بينه وبين الخليفة المنصور سأله المنصور: "لم لا تقبل صلتي؟"، فأجابه: "ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته ولو وصلني بذلك لقبلته، إنما وصلني أمير المؤمنين من بيت مال المسلمين، ولا حق لي في بيت مالهم، إني لست ممن يقاتل من ورائهم فآخذ ما يأخذ المقاتل، ولست من ولدانهم فآخذ ما يأخذ الولدان، ولست من فقرائهم فآخذ ما يأخذ الفقراء" [16].

ثم لما جلده المنصور ثلاثين جلدة لرفضه، تولي منصب القضاء واختضب كل جسمه بالدم، لامه عمه عبد الصمد بن علي على ذلك لومًا شديدًا، وقال له: "يا أمير المؤمنين ماذا فعلت سللت على نفسك مائة ألف سيف، فهذا فقيه أهل العراق هذا فقيه أهل المشرق"، فندم المنصور وأمر له بثلاثين ألف درهم مكان كل سوط ألف درهم فرفضها، قيل له خذها وتصدق بها فقال: "وعندهم شيء حلال؟ وعندهم شيء حلال" وأبى أن يقبلها [17]، ولما راحت المتاعب تتعاقب وتتوالى عليه في آخر عمره أوصى ألا يدفن في الجزء الذي اقتطعه المنصور من الناس غصبًا لبناء بغداد، فلما سمع المنصور بوصيته هذه صاح: "من يعذرني منك حيًا وميتًا" [18].

5- تحرر السلطة القضائية من السلطة التنفيذية:
أما عن رأيه في القضاء وسلطته فكان يرى -من أجل تحقيق العدالة- لا ضرورة تحرره من ضغوط أو تدخلات السلطة التنفيذية فحسب، بل لا بد وأن يكون في استطاعة القاضي تنفيذ حكمه في الخليفة نفسه إذا ما تعدى على حقوق الناس، لهذا عندما استيقن أبو حنيفة في آخر حياته أن الحكومة ستقضي عليه جمع تلاميذه، وخطب فيهم فكان من جملة الأمور الهامة التي قالها: "وإذا أذنب -الإمام- ذنبًا بينه وبين الناس أقامه عليه أقرب القضاة إليه" [19].

وأعظم الأسباب التي كانت وراء رفضه قبول المناصب الحكومية -وخاصة القضاء- في دولة بني أمية وبني العباس أن القضاء في حكومتهم ليس حرًا طليقًا من سطوة الخلفاء (السلطة التنفيذية)، فلم يكن أبو حنيفة يرى في ذلك المنصب استحالة تنفيذ الأحكام على الخليفة فحسب، وإنما كان يخشى كذلك أن يجعلوا منه آلة للظلم فيستصدرونه أحكامًا خاطئة، ويتدخل الخليفة بل وأهل قصره ورجالاته في أحكامه وأقضيته.

وأول تجربة في ذلك وقعت لأبي حنيفة كانت في عهد بني أمية عام 130 هجرية، حين أراد يزيد بن عمر بن هبيرة أن يكرهه على قبول منصب من المناصب الحكومية، وقت أن كان طوفان التمرد والثورة على بني أمية يجتاح العراق، وهو الطوفان الذي أطاح بعرشهم في عامين اثنين، وكان ابن هبيرة يريد جمع أكابر الفقهاء والاستفادة من نفوذهم وتأثيرهم، ولهذا دعا ابن أبي ليلى وداود بن أبي الهند وابن شبرمة وغيرهم من الفقهاء، وولاهم أهم المناصب.. 

ثم دعا أبا حنيفة وقال له جعلت في يديك خاتم الدولة لا ينفذ حكم ما لم تمهره، ولا يخرج من الخزانة مال لم تعتمده، فرفض أبو حنيفة هذا فقيده وجلده وهدده وتوعده، فقال له الفقهاء الآخرون ارفق بنفسك وارحم حالك، فنحن لا نرضى بهذه الوظائف وإنما قبلناها جبرًا واضطرارًا، فاقبلها كما قبلناها فقال لهم: "لو أرادني أن أعد له أبواب مسجد واسط لم أدخل في ذلك، فكيف وهو يريد مني أن يكتب بضرب عنق رجل وأختم أنا على ذلك الكتاب، فوالله لا أدخل في ذلك أبدًا".

فعرض عليه ابن هبيرة في هذا الشأن مناصب أخرى فرفضها فأصدر قراره بتعيينه قاضيًا على الكوفة وأقسم إذا رفض أبو حنيفة لأجلدنه فقال أبو حنيفة: "ضربة لي في الدنيا أسهل علي من مقامع الحديد في الآخرة، والله لا فعلت ولو قتلني"، وفي النهاية جلدها بن هبيرة عشرين أو ثلاثين جلدة على رأسه وجاء في بعض الروايات أنه ظل عشرة أيام متوالية يضربه في كل يوم عشر جلدات، وأبو حنيفة متمسك برفضه، وأخيرًا قالوا له أن أبا حنيفة سيموت فقال: "ألا ناصح لهذا المحبوس أن يستأجلني فأوجله فينظر في أمره"، فلما بلغ ذلك أبو حنيفة قال: "دعوني أستشير إخواني وأنظر في ذلك"، فلما بلغ ذلك ابن هبيرة أطلقه فغادر الكوفةإلى مكة حيث لم يرجع منها إلى أن زال ملك بني أمية [20].

ولما قامت دولة بني العباس راح المنصور يلح عليه في توليته منصب القضاء، ويصر على ذلك إصرارًا بالغًا كما سبق أن ذكرنا، وكان أبو حنيفة قد ساعد النفس الزكية وأخاه إبراهيم في خروجهما على المنصور علانية فأوغر ذلك صدر المنصور وكان -على حد قول الإمام الذهبي-: "لا يصطلى له بنار" [21]، غير أن احتواء وتكبيل مثل هذا الرجل المؤثر لم يكن سهلًا عليه يسيرًا. 

وكان المنصور يعلم كيف جعل قتل إمام من الأئمة -الحسين بن علي- قلوب المسلمين تنفر وتشمئز من بني أمية وكيف أطيح بعرشهم -بسببه- في سهولة تامة، لذلك كان لا يرى قتل أبي حنيفة وإنما آثر تكبيله بسلاسل المال والذهب ثم استخدامه في أغراضه، وبهذه النية عرض عليه منصب القضاء مرات ومرات، حتى أنه عرض عليه منصب قاضي قضاة الدولة العباسية، لكن أبا حنيفة ظل زمنًا يحتال ويتملص منه بشتى فنون الحيل [22]. 

فلما أصر المنصور على ذلك إصرارًا كبيرًا عدد له الإمام أسباب رفضه فاعتذر له ذات مرة اعتذارًا رقيقًا قال فيه: "لا يصلح للقضاء إلا رجل يكون له نفس يحكم بها عليك وعلى ولدك وقوادك، وليس تلك النفس لي، إنك لتدعوني فما ترجع إلي نفسي حتى أفارقك" [23].

وفي مرة أخرى اشتد الحديث بينهما فقال له أبو حنيفة:
"اتق الله ولا ترع في أمانتك إلا من يخاف الله، والله ما أنا بمأمون الرضى فكيف أكون مأمون الغضب، ولو اتجه الحكم عليك ثم تهددني على أن تغرقني في الفرات أو أزيل الحكم لاخترت أن أغرق، ولك حاشية يحتاجون إلى من يكرمهم لك" [24]، فلما تأكد المنصور -من هذا القول- أن هذا الرجل لن يسلم زمام نفسه لأصابع الذهب والفضة توجه حيث تشاء انتقم منه انتقامًا شديدًا فضربه بالسياط، وألقاه في السجن وآذاه في رزقه إيذاء شديدًا، ثم اعتقله في منزل حيث مات موتًا طبيعيًا على حد قول البعض، أو مات مسمومًا حسب قول بعض آخر [25].

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
 [1] الخطيب البغدادي تاريخ بغداد ج13 ص 368، المكي مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة ج1 ص 89، الذهبي ص 20.
 [2] الذهبي ص 21.
 [3] الكردري مناقب الإمام الأعظم ج2 ص 15 - 16. وفي رواية الكردري هذه أمر لم أستطع فهمه إلى الآن وهو أن أبا بكر الصديق امتنع عن الحكم ستة أشهر حتى مجيئ أهل اليمن لبيعته.
 [4] ملا علي القاري شرح الفقه الأكبر ص 91.
 [5] ابن أبي العز شرح الطحاوية ص 322.
 [6] أحكام القرآن ج1 ص 80.
 [7] نفس المصدر السابق ج1 ص 80 - 81. وقد أوضح شمس الأئمة السرخسي في المبسوط مذهب أبي حنيفة هذا أيضًا، ج10 ص 130.
 [8] الذهبي ص 17، المكي ج2 ص 100.
 [9] المسعودي ج2 ص 192.
 [10] الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص 106، البغدادي الفرق بين الفرق ص 340.
 [11] المقدمة ص 195 - 196.
 [12] ابن حجر فتح الباري ج13 ص 93، 96 - 97، مسند أحمد ج3 ص 129، 183 ج 4 ص 421، مسند أبي داود حديث رقم 946 - 2133.
 [13] الطبري ج 3 ص 192.
 [14] ابن حجر فتح الباري ج13 ص 95.

 [15] السرخسي شرح السير الكبير ج1 ص 98. وهناك حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم رواه أبو حميد رضي الله عند قال: "أن النبي استعمل رجلًا من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة فلما قدم قال هذا لكم وهذا أهدي إلي فقال النبي: «ما بال الرجل نستعمله على العمل مما ولانا الله فيقول هذا لكم وهذا أهدي إلي، فهلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم لا، والذي نفسي بيده لا يأخذ منه شيئًا إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرًا له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاء تيعر» المترجم.

 [16] المكي ج1 ص 215.
 [17] المكي ج1 ص 215 - 216.
 [18] المكي ج2 ص 180.
 [19]المكي ج2 ص 100.
 [20]المكي ج 1 ص 21- 24، ابن خلكان ج5 ص 41، ابن عبد البر، الانتقاء ص 171.
 [21]مناقب الإمام ص 30.
 [22] المكي ج2 ص 73 - 173 - 178.
 [23]المكي ج1 ص 215.
 [24] المكي ج2 ص 170، الخطيب البغدادي ج13 ص 320.
 [25] المكي ج2 ص 173- 174 - 182، ابن خلكان ج5 ص 46، اليافعي مرآة الجنان ص 310.

المصدر: خاص بموقع طريق الإسلام

مدحت القصراوي

كاتب إسلامي

  • 3
  • 1
  • 164,172

هل تود تلقي التنبيهات من موقع طريق الاسلام؟

نعم أقرر لاحقاً