مذهب أبي حنيفة في الخلافة وما يتعلق بها من مسائل (2)
النهي عن المنكر والأمر بالمعروف هو تعبير عن الرأي بالمعنى الصحيح، وقد اختار الإسلام له هذا الاصطلاح، ولم يجعل هذه الصورة بصفة خاصة -من بين سائر صور التعبير عن الرأي- حقًا من حقوق الشعب فحسب، بل فرضًا عليه كسائر الفروض، ولقد كان الإمام أبو حنيفة يدرك أهمية هذا (الحق) وهذا (الفرض) إدراكًا كبيرًا
6- حق حرية الرأي:
حظيت حرية الرأي -إلى جانب حرية القضاء- في المجتمع المسلم والدولة الإسلامية بأهمية كبرى كذلك عند أبي حنيفة. وهي الحرية التي استخدم لها القرآن والسنة اصطلاح (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وقد يكون التعبير عن الرأي وإظهاره -مجرد تعبير- غير مستساغ البتة وقد يكون باعثًا للفتنة مثيرًا لها، وقد يكون ضد الأخلاق والأمانة الإنسانية، مما لا يصبر عليه أو يطيقه أي قانون، لكن النهي عن المنكر والأمر بالمعروف هو تعبير عن الرأي بالمعنى الصحيح، وقد اختار الإسلام له هذا الاصطلاح، ولم يجعل هذه الصورة بصفة خاصة -من بين سائر صور التعبير عن الرأي- حقًا من حقوق الشعب فحسب، بل فرضًا عليه كسائر الفروض.
ولقد كان الإمام أبو حنيفة يدرك أهمية هذا (الحق) وهذا (الفرض) إدراكًا كبيرًا، إذ كان المسلمون في أيامه قد سلبوا هذا الحق وصاروا مترددين في (فرضيته) أيضًا، فالمرجئة -في جانب- كانوا يجعلون الناس -بعقائدهم- يتجرأون على ارتكاب الذنوب والمعاصي، والحشوية -في الجانب الآخر- كانوا يقولون أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في وجه الحكومات فتنة، وفي الجانب الثالث حكومات بني أمية وبني العباس تقتل في المسلمين -بقوتها وسلطانها- روح الاعتراض على فسق الأمراء وفجورهم وظلمهم وجورهم..
لكل هذا حاول أبو حنيفة -بقوله وعمله- إحياء هذه الروح وتوضيح حدودها، ويذكر الجصاص أن أبا حنيفة أجاب إبراهيم الصائغ -أحد مشاهير الفقهاء في خراسان حين سأله- أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض، ثم تلا الحديث النبوي الذي رواه عكرمة عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «أ
»، فأثر قول أبي حنيفة في إبراهيم تأثيرًا قويًا فلما رجع إلى خراسان نهى أبا مسلم الخراساني مؤسس الدولة العباسية "المتوفي 136ه-- 754م" جهارًا عن ظلمه وإراقته الدماء بغير الحق وظل ينهاه إلى أن قتله أبو مسلم [26].ولما خرج إبراهيم بن عبد الله أخو النفس الزكية عام 145 هجرية "موافق 763م" جهر أبو حنيفة بتأييده ومناصرته ضد المنصور، وبينما كان المنصور في الكوفة كان جيش إبراهيم يتقدم من البصرة صوبها، وظل حظر التجول في المدينة الليل كله، ويروي زفر بن الهذيل تلميذ أبي حنيفة، المعروف أن أبا حنيفة كان -في ذلك الوقت الحرج الدقيق- يجهر بأفكاره في قوة وثبات حتى قلت له ذات يوم: "والله ما أنت بمنته حتى توضع الحبال في أعناقنا" [27].
وفي عام 149 هجرية (الموافق 765م) ثار أهل الموصل، وكان المنصور قد أخذ عليهم عهدًا قبل ذلك -حين ثاروا عليه ذات مرة- أن لو فعلوها مرة أخرى حل له دماؤهم وأموالهم، فلما ثاروا عليه في المرة الثانية دعا المنصور أجلة الفقهاء -وكان أبو حنيفة بينهم- واستفتاهم أتحل له أموالهم ودماؤهم حسب ما عاهدوه أم لا؟ فاستند الفقهاء إلى المعاهدة وقالوا: "إن عفوت فأنت أهل العفو وإن عاقبت فبما يستحقون"، وسكت أبوحنيفة عن الجواب فقال له المنصور: "ما تقول أنت يا شيخ" فرد عليه: "إنهم شرطوا لك ما لا يملكونه -يعني دماءهم- فإنه قد تقرر أن النفس لا يجري فيها البذل والإباحة، وشرطت عليهم ما ليس لك، لأن دم المسلم لا يحل إلا بإحدى معان ثلاث، أرأيت إن أحلت امرأة نفسها لرجل بغير نكاح أتحل له؟ وإذا قال رجل لآخر اقتلني أيحل له قتله؟"، قال المنصور: "لا". قال: "فكف يدك عن أهل الموصل فلا تحل لك دماؤهم".
فلم يرض المنصور عن هذا وأمرهم بالقيام فتفرقوا، ثم دعاه وحده وقال له: "القول ما قلت انصرف إلى بلادك ولا تفت الناس بما هو شين على إمامك، فتبسط يد الخوارج -يعني الثائرين- على إمامك" [28]، كان أبو حنيفة يمارس حرية الرأي هذه ضد المحاكم أيضًا، فكان إذا أصدرت إحدى المحاكم حكمًا خاطئًا جهر بما فيه من خطأ، لأن احترام القضاء عنده ليس معناه ترك المحاكم وقضاتها يصدرون أحكامًا غير صحيحة، لقد منعوه ذات مرة من الفتيا زمانًا لارتكابه هذه (الجريمة) [29].
ويذهب أبو حنيفة في حرية الرأي إلى أن من اعترض على الخلافة الشرعية وحكومتها الشرعية العادلة، وسب إمام العصر بل وجهر بقتله فإن سجنه أو معاقبته عنده لا تجوز ما لم يعتزم القيام بثورة مسلحة -فعلًا- أو بث الرعب والإرهاب في البلاد، ويستدل في هذا بما حدث مع سيدنا علي رضي الله عنه حينما قبض رجاله على خمسة كانوا يشتمونه في الكوفة -وهو خليفة- علنًا، وقال أحدهم: "أعاهد الله لأقتلنه"، فأمر سيدنا علي بإطلاقهم، قال له رجل: "أتخلي عنه وقد عاهد الله ليقتلنك"، قال: "أفأقتله ولم يقتلني؟"، قال: "وإنه قد شتمك"، قال: "فأشتمه إن شئت أو دعه"، كذلك يستدل أبو حنيفة -في أمر معارضي الحكومة- بما أعلنه سيدنا علي في شأن الخوارج إذ قال: "لن نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولن نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولن نقاتلكم حتى تقاتلونا" [30].
7- الخروج على الحكومة الظالمة:
ظهرت في ذلك الوقت مسألة هامة وهي: "إذا كان إمام المسلمين ظالمًا فاسقًا فهل تجوز الثورة عليه؟ وبين أهل السنة أنفسهم اختلافًا حول هذه المسألة، فقالت جماعة كبيرة من أهل الحديث بجواز الاعتراض على ظلمه باللسان والنطق أمامه بالحق، ولكن لا تجوز الثورة عليه ولو أراق الدماء بغير الحق وتعدى على حقوق الناس، وارتكب فسقًا صريحًا" [31]، لكن أبا حنيفة يقول: "إن إمامة الظالم ليست باطلة فحسب، وإنما تجوز الثورة عليه أيضًا بل وينبغي ذلك بشرط أن تكن ثورة ناجحة مفيدة، تأتي بالعادل الصالح مكان الظالم الفاسق، وبشرط أن لا تكون نتيجتها مجرد تبديد القوى وضياع الأنفس والأرواح".
ويشرح أبو بكر الجصاص مذهب أبي حنيفة في هذا القول: "وكان مذهبه مشهورًا في قتال الظلمة وأئمة الجور، ولذلك قال الأوزاعي احتملنا أبا حنيفة على كل شيء حتى جاءنا بالسيف، -يعني قتال الظلمة- فلم نحتمله وكان من قوله وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض بالقول فإن لم يؤتمر له فبالسيف" [32].
وينقل الجصاص في موضع آخر قولًا لأبي حنيفة نفسه عن عبد الله بن المبارك، وكان ذلك وقت أن بلغ أبو مسلم الخراساني -في عهد أول خليفة عباسي- شأوًا بعيدًا في الظلم والعسف، حينئذ جاء إبراهيم الصائغ فقيه خراسان إلى أبي حنيفة وناقشه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ذكر أبو حنيفة نفسه هذا النقاش والتباحث لعبد الله بن المبارك فيما بعد على النحو التالي: "قال أبو حنيفة: فسألني عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى أن اتفقنا على أنه فريضة من الله تعالى فقال لي -يعني إبراهيم- مد يدك حتى أبايعك فأظلمت الدنيا بيني وبينه"، قال ابن المبارك: "ولم؟"، قال أبوحنيفة: "دعاني إلى حق من حقوق الله فأمتنعت عليه، وقلت له إن قام به رجل وحده قتل ولم يصلح للناس أمر، ولكن إن وجد عليه أعوانًا صالحين ورجلًا يرأس عليهم مأمونًا على دين الله لا يحول".
قال أبو حنيفة: "وكان يقتضي ذلك كلما قدم علي تقاضاني تقاضي الغريم الملحف، أقول له هذا أمر لا يصلح بواحد ما أطاقته الأنبياء، حتى عقدت عليه من السماء، وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده، وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه، وعرض نفسه للقتل، فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه" [33].
مذهب الإمام في الخروج (الثورة):
يظهر هذا رأي أبي حنيفة المبدئي النظري في هذه المسألة، غير أننا لا نستطيع فهم وجهة نظره فهمًا تامًا، ما لم نقف على سلوكه الذي سلكه -في الواقع- تجاه أهم الثورات التي هبت في عصره.
خروج زيد بن علي:
والثورة الأولى هي ثورة زيد بن علي والذي إليه تنسب الشيعة الزيدية نفسها، وهو أخو الإمام محمد الباقر حفيد الإمام الحسين، وكان أجل علماء عصره فقيهًا ورعًا صالحًا، وقد استفاد الإمام أبو حنيفة نفسه منه استفادة علمية، وفي عام 120 هجرية 738م حين عزل هشام بن عبد الملك خالد بن عبد الله القسري من على العراق، وأجرى معه تحقيقات ومساءلات واستدعى زيدًا من المدينة إلى الكوفة ليدلي بشهادته في هذا الأمر، وكانت هذه هي المرة الأولى -منذ سنين- التي يأتي فيها إلى الكوفة -مركز شيعة علي- شخص جليل من آل سيدنا علي، لهذا انبعثت الروح -بمجيئه- في الحركة العلوية واحتشد الناس حوله..
ومن ناحية أخرى كان سكان العراق يضيقون ذرعًا بظلم بني أمية، وقد عاشوا فيه سنوات طويلة، فكانوا يريدون عمودًا يعتمدون عليه في ثورتهم، فرأوا توفر وجود فقيه عالم صالح من البيت العلوي غنيمة لا بد من اقتناصها، فأكدوا له أن بالكوفة مائة ألف رجل يقفون إلى جواره وبايعه على ذلك خمسة عشر ألفًا وكتبوا -بالفعل- أسماءهم في سجلات وصحائف، وأثناء هذا كانت ترتيبات هذه الثورة تتم سرًا، علم بها الوالي الأموي فلما عرف زيد أن الحكومة علمت بأمرهم فجر الثورة في صفر عام 122 هجرية740م، قبل موعدها المحدد فلما تقابل الفريقان تخلى شيعة علي في الكوفة عنه فبقي معه -وقت الحرب- مائتان وثمانية عشر رجلًا لا غير، فقاتل إلى أن أصابه سهم فجرح ومات [34].
ساعد الإمام أبو حنيفة زيدًا في خروجه هذا وأمده بالمال، وكان ينصح الناس ويأمرهم بالوقوف إلى جانبه [35]، وشبه خروجه بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر [36] بمعنى أن الرسول عليه الصلاة والسلام كما لم يكن هناك شك في كونه على الحق، كذلك ليس من شك في كون زيد على الحق في خروجه هذا، لكنه لما جاءته رسالة زيد يطلب فيها العون منه قال لحاملها: "لو علمت أن الناس لا يخذلونه ويقومون معه قيام صدق لكنت أتبعه، وأجاهد معه من خالفه لأنه إمام حق، ولكني أخاف أن يخذلوه كما خذلوا أباه -سيدنا الحسين- لكني أعينه بمالي فيتقوى به على من خالفه" [37].
هذا المسلك الذي سلكه أبو حنيفة إذًا كان مطابقًا تمامًا لما ذكره من الناحية النظرية في مسألة الثورة على الأئمة الظالمين، فلقد كان يعرف تاريخ شيعة علي في الكوفة وكان خبيرًا بنفسيتهم، كما كانت سيرتهم التي درجوا عليها منذ زمن سيدنا علي واضحة معروفة للناس أجمعين حتى لقد حذر داود بن علي (حفيد ابن العباس) زيدًا من غدر أهل الكوفة آنذاك، وحاول منعه من الخروج [38].
كذلك كان أبو حنيفة يعلم أن هذه الحركة قاصرة على الكوفة وحدها أما بقية الدولة الأموية فليس فيها شيء منها، كما أنها حركة ليس لها أي تنظيم في مكان آخر تستطيع استمداد العون منه، وأنها تكونت في الكوفة نفسها في ستة أشهر لا أكثر، وبالتالي لم تكن ناضجة على الإطلاق، لهذا حين نظر أبو حنيفة في ملامحها الظاهرية كلها لم يتوقع أن تحدث ثورة ناجحة، علاوة على أن أحد أسباب قعود أبي حنيفة عن هذه الحركة –غالبًا- أنه هو نفسه لم يكن قد اتفق له من النفوذ والتأثير ما يجعل اشتراكه فيها مصدر قوة لها، إذ كان أبو حنيفة وقتها -عام 120 هجرية- ليس إلا تلميذًا من تلاميذ مدرسة أهل الرأي، التي يترأسها حماد أستاذه، وحين خرج زيد لم يكن مضى على انعقاد إمامة هذه المدرسة لأبي حنيفة غير قرابة عامين ونصف عام، ولم يكن قد نال بعد رتبة "فقيه أهل المشرق" أو تأثيرًا ونفوذًا.
خروج النفس الزكية:
أما الثورة الثانية فكانت ثورة محمد بن عبد الله الملقب بالنفس الزكية وأخيه إبراهيم، وهما من أولاد الحسن بن علي وقد حدثت ثورتهما عام 145 هجرية (762-763م)، وقت أن كان أبو حنيفة قد وصل إلى قمة الرسوخ وارتفاع المكانة والتأثير، كانت حركة هذين الأخوين تتحرك منذ عهد بني أمية، حتى لقد بايع النفس الزكية المنصور نفسه وأناس كثيرون غيره مما كانوا يريدون الثورة على الدولة الأموية [39].
فلما قامت الدولة العباسية تخفى هؤلاءالناس –عن أعين الدولة- وراحوا يبثون دعوتهم في السر وتفرق دعاتهم في خراسان والجزيرة والري وطبرستان واليمن وشمال أفريقية وجعل النفس الزكية الحجاز مركزه كما كان في الكوفة أيضًا –حسب رواية ابن الأثير- مائة ألف سيف على استعداد لأن تحمي ظهره [40]، وكان المنصور يعرف مدى دعوتهم ويخافهم أشد الخوف، إذ كانت دعوتهم تضارع وتوازي دعوة بني العباس التي أسفرت عن قيام الدولة العباسية، وهذا ما جعله يتصدى لقمعها ودكها عدة سنوات، ويرتكب أقسى ألوان العنف في سبيل سحقها والقضاء عليها.
ولما خرج النفس الزكية فعلًا في رجب من عام 145 هجرية ترك المنصور بناء بغداد وذهب إلى الكوفة فازعًا هلوعًا إذ كان يشك في بقاء دولته واستمرارها، ما لم تسأصل هذه الحركة من جذورها وكثيرًا ما كان يقول -في حيرته وفقدان رشده-: "والله لا أدري ما أنا فاعل"، فكانت تترامى إليه أخبار سقوط البصرة وفارس والأهواز، وواسط والمدائن وغيرها، ويخشى اندلاع الثورة من كل مكان فعاش شهرين كاملين لا يغير لباسه ولا يأوي إلى فراشه ويقضي ليله كله في مصلاه [41].
وكان يتخذ عدته ويجهز فرسانًا ماهرين ليفر من الكوفة على عجل ولو كان الحظ لم يحالفه لأفلحت هذه الحركة، وقلبت عرشه وأطاحت بسلطان البيت العباسي [42]، كان موقف أبي حنيفة هذه المرة مختلفًا تمام الاختلاف عن موقفه في المرة السابقة، ولقد قلنا من قبل إنه ساند هذه الحركة علانية حين كان المنصور في الكوفة يفرض حظر التجول كل ليلة، حتى كان تلاميذ أبي حنيفة يخشون أن يقبض عليهم أجمعين.
كان أبو حنيفة ينصح الناس ويحثهم على مبايعة ومساندة إبراهيم بن عبد الله أخو النفس الزكية [43] وأفتى بأن الخروج معه أفضل من الحج النفل خمسين أو سبعين مرة [44]، بل لقد قال لرجل اسمه أبو إسحق الفزاري: "مخرج أخيك أحب إلي من مخرجك"، يعني مساندة أخيك لإبراهيم بن عبد الله أفضل من جهادك الكفار [45]، وقد نقل لنا أبو بكر الجصاص والموفق المكي وابن البزاز صاحب الفتاوى البزازية وهم من أجلة الفقهاء، آراء أبي حنيفة هذه ومعناها الواضح الجلي أن الجهاد لتخليص النظام الداخلي للمجتمع المسلم من سطوة القيادة المنحرفة -عند أبي حنيفة- أفضل من قتال الكفار خارج المجتمع المسلم.
ولعل أهم وأخطر ما فعله أبو حنيفة في هذا الخروج نهيه الحسن بن قحطبة -القائد الأعلى لجيوش المنصور وأعظم ثقاته ومشيريه- عن الذهاب لقتال النفس الزكية وأخيه، وكان سيف أبي قحطبة وبطولته الحربية -إلى جانب دهاء أبي مسلم الخراساني وحنكته السياسية- قد رفع قوائم دولة بني العباس وأقامها فصار الحسن بعد موت أبيه قائدًا في مكانه فكان المنصور يعتمد عليه ويثق به أكثر من غيره من القادة، لكنه عاش في الكوفة وأحب أبا حنيفة وتعلق به تعلقًا كبيرًا.
قال ذات مرة لأبي حنيفة: "عملي لا يخفى عليك –يعني الظلم والجور الذي حدث على يدي أثناء خدمتي للمنصور- فهل لي من توبة؟ قال الإمام: "نعم إذا علم الله أنك نادم على ما فعلت، ولو خيرت بين قتل مسلم وقتلك لاخترت قتلك على قتله، وتجعل مع الله عهدًا على أن لا تعود فإن وفيت فهي توبتك"، فلما سمع من أبي حنيفة عاهد الله على ذلك وتاب، ولم تمض على هذا مدة وجيزة حتى حدثت ثورة النفس الزكية وأخيه إبراهيم، فأمره المنصور بالخروج لقتالهما فذكر ذلك لأبي حنيفة فقال له: "جاء أوان توبتك فإن وفيت بما عاهدت فأنت تائب، وإلا أخذت بالأول والآخر".
فجدد الحسن توبته مرة أخرى وقال لأبي حنيفة لن أسير إلى هذا، ولو كان قتلي ثم ذهب إلى المنصور، وقال له في صراحة: "لا أسير إلى هذا الوجه إن كان لله تعالى طاعة في سلطانك فيما فعلت فلي منه أوفر الحظ، وإن كان معصية فحسبي" فغضب المنصور من ذلك غضبًا شديدًا وقبض عليه فقال حميد أخو الحسن للمنصور -بعد ذلك-: "إنا أنكرنا عقله منذ سنة وكأنه خلط عليه، أنا أسير وأنا أحق بالفضل منه"، فدعا المنصور بعد ذلك أهل ثقته وسألهم: "من يدخل عليه من هؤلاء الفقهاء؟"، قالوا له: "إنه يتردد إلى الإمام أبي حنيفة" [46].
هذا الموقف العملي الذي وقفه أبو حنيفة كان منطقبًا تمامًا مع مبدئه ونظريته، التي تقول: "إن الثورة إذا كان من المحتمل أن تكون ثورة ناجحة صالحة فالاشتراك فيها ليس جائزًا مشروعًا فحسب، بل هو فرض وواجب أيضًا"، ولم يكن موقف الإمام مالك في هذا الشأن يختلف عن موقف أبي حنيفة، وحين قال له الناس -وقت خروج النفس الزكية- إن بيعة المنصور في رقابنا فكيف نخلعها ونساعد الآن غيره، أفتى ببطلان البيعة جبرًا أو الحلف كرهًا، أو الطلاق قهرًا وبالتالي بطلان بيعة العباسيين [47]، وبسبب هذه الفتوى انضم كثير من الناس إلى جانب النفس الزكية، ونال مالك عاقبة فتواه بأن جلده والي المدينة العباسي جعفر بن سليمان ومدت يده حتى خلعت كتفه [48].
ليس أبو حنيفة وحده:
ويخطئ من يحسب أن أبا حنيفة وحده -بين أهل السنة- الذي رأى هذا الرأي في مسألة الثورة، إنما الواقع أن رأيه الذي عبر عنه قولًا وفعلًا كان بعينه رأي أكابر أهل الدين في القرن الأول الهجري، فأول خطبة خطبها أبو بكر الصديق رضي الله عنه بعد بيعته قال فيها: "أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم" [49]، ويقول سيدنا عمر رضي الله عنه: "من بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا" [50].
وحين خرج الحسين على يزيد كان كثير من الصحابة أحياء، وكانت جماعة فقهاء التابعين موجودة كلها تقريبًا وما رأينا قولًا لصحابي أو تابعي يقول فيه إن الحسين ارتكب بخروجه هذا حرامًا حرمه الله، أما من كانوا ينهونه عن الخروج فكان رأيهم أن أهل العراق لا يعتمد عليهم، وأنه لن يفلح في خروجه بل سيضع نفسه في محف الخطر، وبألفاظ أخرى كان رأيهم -جميعًا- في هذه المسألة هو ما أوضحه أبو حنيفة فيما بعد من أن الخروج على الإمارة الفاسدة أمر مشروع، في ذاته لكن ينبغي -قبل الإقدام على هذه الخطوة- أن نتدبر الأمر وننظر هل هناك إمكان لإقامة نظام صالح بعد قلب النظام المنحرف وتغييره أم لا.
ولقد كان الحسين رضي الله عنه يحسب -بناء على رسائل أهل الكوفة المتتالية إليه- أنه وجد حماة مناصرين يستطيع بعونهم القيام بثورة ناجحة فخرج من المدينة لكن الصحابة الذين نهوه عن ذلك كانوا يرون -عكس هذا- أن أهل الكوفة لا ينبغي الثقة بهم بعد الغدر الذي غدروه -من قبل- بوالده (سيدنا علي) وبأخيه (سيدنا الحسن) فالاختلاف الذي كان بين الإمام الحسين وأولئك الصحابة إذًا كان اختلافًا حول التدبير والتخطيط، لا حول مشروعية الخروج وعدم مشروعيته.
كذلك حين ثار عبد الرحمن بن الأشعث على الدولة الأموية في زمن ولاية الحجاج الظالمة، وقف إلى جانبه -آنذاك- أكابر الفقهاء أمثال سعيد بن جبير والشعبي وابن أبي ليلى وأبي البختري ويذكر ابن كثير أن فرقة عسكرية من القراء -يعني العلماء والفقهاء- وقفت معه ولم يقل واحد من العلماء الذين قعدوا عن القيام معه إن خروجه هذا غير جائز، والخطب التي ألقاها هؤلاء الفقهاء أمام جيش ابن الأشعث تترجم نظريتهم ترجمة أمينة.
قال ابن أبي ليلى: "أيها المؤمنون إنه من رأى عدوانًا يعمل به ومنكرًا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم وبرئ، ومن أنكره بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه، ومن أنكره بالسيف لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى، ونور في قلبه اليقين فقاتلوا هؤلاء المحلين المحدثين المبتدعين، الذين قد جهلوا الحق فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فلا ينكرونه".
وقال الشعبي: "يا أهل الإسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم فوالله ما أعلم قومًا على بسيط الأرض أعمل بظلم ولا أجور منهم في الحكم فليكن بهم البدار"، وقال سعيد بن جبير: "قاتلوهم ولا تأثموا من قتالهم بنية ويقين، وعلى آثامهم قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاة" [51].
أما أكابر الأمة الذين لم يقفوا مع ابن الأشعث في خروجه على الحجاج -عكس ما فعل أولئك الفقهاء- فلم يقولوا إن هذا الخروج حرام في ذاته، وإنما قالوا إنه -بهذا الشكل- عكس ما تقتضيه المصلحة، ولذلك حين سئل الحسن البصري عن هذا قال: "إنه والله ما سلط الله الحجاج عليكم إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع" [52]، كان هذا هو الرأي العام لأهل الدين في القرن الأول الهجري وهو القرن الذي ولد فيه أبو حنيفة فكان رأيه عين رأيهم.
ثم بدأ يظهر فيما بعد -في آخر القرن الثاني الهجري- ذلك الرأي الذي يسمى الآن (رأي جمهور أهل السنة) وليس سبب ظهور هذا الرأي العثور على نصوص قطعية بشأنه كانت خافية على أكابر القرن الأول أو أن أهل القرن الأول -معاذ الله- كانوا يذهبون مذهبًا يخالف النصوص وإنما كان له -في الحقيقة- سببان: الأول أن الجبابرة لم يتركوا أي طريق مفتوح أمام التغيير بطرق ديمقراطية سليمة، والثاني أن المحاولات التي كانت تتم لإحداث التغيير عن طريق السيف أسفرت عن تلك النتائج المتوالية التي لم يبق بعد رؤيتها توقع صدور الخير عن هذا الطريق أيضًا [53].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[26] أحكام القرآن ج1 ص 81.
[27] الخطيب ج13 ص 330، المكي ج2 ص 171.
[28] ابن الأثير ج 5 ص 25، الكردري ج2 ص17، السرخسي كتاب المبسوط ج 10 ص 129.
[29] الكردري ج 1 ص 160 - 165 - 166، ابن عبد البر الانتقاء ص 125 - 153، الخطيب ج 13 ص 351.
[30] السرخسي كتاب المبسوط ج 10 ص 125.
[31] انظر الأشعري مقالات الإسلاميين ج 2 ص 125.
[32] أحكام القرآن ج 1 ص 81.
[33] أحكام القرآن ج 2 ص 39.
[34] الطبري ج 5 ص 482 - 505.
[35] الجصاص ج 1 ص 81.
[36] المكي ج 1 ص 260.
[37] المكي ج 1 ص 260.
[38] الطبري ج 5 ص 487 - 491.
[39] الطبري ج 6 ص 155 - 156.
[40] الكامل ج 5 ص 18.
[41] ذكر الكبري في ج 6 ص 155 حتى 263 تاريخ هذه الحركة وهو ما سقنا خلاصته في هذه السطور.
[42] اليافعي ج 1 ص 299.
[43] الكردري ج 2 ص 72، المكي ج 2 ص 84.
[44] الكردري ج 2 ص 71، المكي ج 2 ص 83.
[45] الجصاص أحكام القرآن ج 1 ص 81.
[46] الكردري ج 2 ص 22.
[47] كان العباسيون عند أخذ البيعة يستحلفون الناس بطلاق نسائهم إن هم نقضوا بيعتهم وذلك ذكر الإمام مالك مسأله الحلف والطلاق كرهًا إلى جانب مسألة البيعة.
[48] الطبرى ج 6 ص 190، ابن خلكان ج 3 ص 385، ابن كثير ج 10 ص 84، ابن خلدون ج 3 ص 191.
[49] ابن هشام ج 4 ص 311، البداية والنهاية ج 5 ص 248.
[50] هذه ألفاظ رواية البخاري في كتاب المحاربين باب رجم الحبلى من الزنا. وقال عمر أيضًا في رواية أخرى "من دعى إلى إمارة من غير مشورة فلا يحل له أن يقبل" "فتح الباري ج 12 ص 125". ونقل الإمام أحمد كذلك قولًا لسيدنا عمر أن: "من بايع أميرًا من غير مشروة المسلمين فلا بيعة له ولا بيعة للذي بايعه" مسند أحمد ج 1 حديث رقم 391.
[51] الطبري ج 5 ص 163.
[52] طبقات ابن سعد ج 7 ص 164، البداية والنهاية ج 9 ص 135.
[53] ارجع - لمزيد من شرح هذه المسألة - إلى كتاب تفهيمات الجزء الثالث من ص 300 حتى 320 وكذلك تفهيم القرآن سورة الحجرات.
- التصنيف: