(25) اليقين في صحة الرسالة وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم (3)
مدحت القصراوي
إن الكاذب يظهر أثر كذبه في وجهه: فيعلمه الناس بمجرد الرؤية، ولهذا قال عبد الله بن سلام عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مرة: "فلما رأيته علمت أنه ليس بوجه كذاب".
- التصنيفات: السيرة النبوية - التاريخ الإسلامي -
سادسًا: مطابقة قوله لعملِه وِشيَمه وصفاتِه بحيث صار واقعُه صلى الله عليه وسلم آية لمن ينظر إليه، ويستدل به على نبوته، وهذا ما تضمنه قوله تعالى: {وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يونس:43].
يقول الحافظ ابن كثير: "أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من التُؤَدة والسمت الحسن والخلق العظيم، والدلالة الظاهرة على نبوتك لأولي البصائر والنُهَى، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم، ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار".
إن الكاذب يظهر أثر كذبه في وجهه: فيعلمه الناس بمجرد الرؤية، ولهذا قال عبد الله بن سلام عندما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول مرة: "فلما رأيته علمت أنه ليس بوجه كذاب".
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أن الكذب على الخلق يظهر على أثره على وجه الكاذب، فالكذب على الله تعالى أولى أن يظهر قبحها، كما أن الصدق يظهر أثره، فإن كان هذا في الصدق على الخلق فالصدق عن الخالق أوْلى"، جاء في تاريخ الطبري: "لما فرغ المسلمون من مسيلمة أتى خالد فأخبر، فخرج بمجاعة يرسف معه في الحديد ليدله على مسيلمة، فجعل يكشف له القتلى حتى مر بمحكم بن الطفيل -وكان رجلًا جسيمًا وسيمًا- فلما رآه خالد قال: هذا صاحبكم، قال: لا. هذا والله خير منه وأكرم، هذا محكم اليمامة قال: ثم مضى خالد يكشف له القتلى حتى دخل الحديقة فقلب له القتلى، فإذا رويجل أصيفر أخينس فقال مجاعة: هذا صاحبكم قد فرغتم منه فقال خالد لمجاعة: هذا صاحبكم الذي فعل بكم ما فعل؟ قال: قد كان ذلك ياخالد" (تاريخ الطبري، تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري:3/ 295).
سابعا: استدلال بانتصاره وعلو كلمته وتأييد الله له:
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشوى:24]، فأخبر تعالى أن من شأنه تعالى وعادته فى خلقه أنه يمحو الباطل وهو المفتري عليه كذبًا، وأنه يحق الحق بكلماته، ومعنى إحقاق الحق هو نصره وتأييده كما قال في الأنفال: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ . لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [الأنفال:7-8]، وقد كان، وحكمت أمته الدنيا أكثر من عشرة قرون حتى تركوا دينه وتخلوا عنه، فذابوا وضعفوا وذلوا وحق عليهم وعيده تعالى، ولو عادوا لعاد لهم وعد الله تعالى.
وقد احتج ابن القيم رحمه الله على النصارى وادعائهم أنهم على الحق، احتج عليهم بإدالة النبي صلى الله عليه وسلم وأمته عليهم قرونًا يدفعون الجزية ويقيم دينه وينصره ويفتح أهلُه الدنيا، وتدين لهم ويعلون بدينهم على هؤلاء النصارى، وقال لهم: "لو كنتم على الحق وأنتم على هذا الدين، وهم متمسكون بدينهم، لزمكم الإلحاد وإنكار وجود الرب لأنه ينصر الباطل دائمًا عليكم، وإلا لزمكم الإقرار بأنكم على الباطل".
وأما هزيمة المسلمين اليوم فهم ليسوا على إقامة منهج الله وتحكيمه، بل يستنكرون وينكرون ويقتلون من يدعوهم إلى هذا، فهزيمتهم دليل على صحة الرسالة وأنها لا تحابي أحدًا، فلن يُنصروا بمجرد الانتساب دون إقامة ما أمر تعالى؛ حيث إن وجودهم مرهون بنصرتهم له تعالى.
ثامنا: استدلال ببداهة ما دعا إليه محمد صلى الله عليه وسلم والمعرفة الضرورية بالفطرة لما أرسل به..
ولهذا كان القرآن يسأل المشركين هذه الأسئلة: {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ}، {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}.
وهذا لبداهة ما يدعوا إليه وهو التوجه للخالق الرازق المالك ومن له المرجع والمآب، فما من ديانة أخرى إلا وهي تخلط بين الألوهية والعبودية، وتجعل للخالق صفات المخلوقين –كاليهودية- فوصفته بالنقائص، أو تجعل للمخلوق صفات الخالق -كالنصرانية وسائر الديانات الوثنية التي تقول بالوسائط والأوثان- فعظّمت المخلوقين وقدّستهم، ورفعتهم إلى مقام الألوهية.
وأما ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فهي الديانة الوحيدة التي تقول بالحسم والفرق التام بين الألوهية التامة البائنة عن الخلق، وبين المخلوق الذي لا يحل فيه صفات الخالق، كما جاء بدين لا ينكر وجود الخالق بل يقرّ بما في الفطرة ويصدّقها، ويقيم عليها منهجًا للحياة عدلاً ووسطًا تعرفه الفطرة ولا تنكره.
ودعوة محمد صلى الله عليه وسلم هي لإتمام هذا الأمر، وبلا أجر إلا أنه يبلغ، وحاله معروف من الصدق والأمانة مع الخلق؛ فمع الخالق أولى، ودعوته ليست مطاوِعة لهوى أحد بل مصادمة للهوى، مقيدة بالتعبد للخالق وحده، وهو أول من يعمل ما يأمر به وينتهي عما ينهي عنه، وهو لا يفرح بالدنيا، بل كان أزهد الناس فيها ولم يتوسع في مباحاتها بل كان يأخذ بالكفاف، ويسأل الله تعالى أن يجعل رزق آل محمد قوتًا -يعني يومًا بيوم-.
ولا يبطر عند النصر ولا ييأس عند المواجع والقرْح، وهو يعترف ببشريته ويرفض الخلط بينها وبين الألوهية وخصائصها، ويرفض أن يرفعه أحد فوق ما جعله الله فيه من المكانة -عبد رسول-، ويخبر أنه لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ} [الأعراف:188]، وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} استثناء منقطع، يعني: (إلا) بمعنى (ولكن)، وهو يخبر بالخبر في المستقبل القريب في يومه أو عصره وزمنه، أو بعد ذلك بعقود أو بقرون فيقع على وفق ما أخبر.
يتبع إن شاء الله تعالى.